عناصر الخطبة
1/ معرفة العباد لأسماء الله دليل المحبة والقرب 2/ اسم الله الرشيد معناه ودلالته 3/ من إرشادات الله لعبادة 4/ الآثار الإيمانية لاسم الله الرشيد.اقتباس
من أسماء الله الحسنى اسم الله الرشيد, وهو الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم، أي: هداهم ودلهم عليها، وهو الذي تنساق تدبيراته إلى غاياتها على سبيل السداد من غير إشارة مشير ولا تسديد مسدد, وهذا الاسم لم يرد في القرآن بهذه الصيغة ولكن تكلم عليه العلماء استنباطًا...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1], (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
معاشر المؤمنين: فإن معرفة الله -عز وجل- بأسمائه وصفاته زيادة في الإيمان واليقين، وتحقيق للتوحيد، وتذوق لطعم العبودية، وهذا هو روح الإيمان وأصله وغايته، وأقرب طريق إلى ذلك تدبر العبد لأسماء الله وصفاته من القرآن والسنة، والله -جل ثناؤه وتقدست أسماؤه- إذا أراد أن يكرم عبده دله على معرفته وجمع قلبه على محبته، وشرح صدره بمعرفته بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقَّاه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالانقياد؛ فاستنار به قلبه، واتسع له صدره، وامتلأ به سرورًا ومحبة.
وإن من أسماء الله الحسنى اسم الله الرشيد, وهو الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم، أي: هداهم ودلهم عليها، وهو الذي تنساق تدابيره إلى غاياتها على سبيل السداد من غير إشارة مشير ولا تسديد مسدد.
وهذا الاسم لم يرد في القرآن بهذه الصيغة ولكن تكلم عليه العلماء استنباطًا؛ لما جاء في القرآن في قول الله -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)[الأنبياء: 51]، وقوله: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الكهف: 10]، وقوله -تعالى-: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا)[الكهف: 17]، والرشد هو الصلاح والاستقامة، وهو خلاف الغي والضلالة، والرشيد كما يذكر الرازي على وجهين: أولهما: أن الراشد الذى له الرشد, ويرجع حاصله إلى أنه حكيم ليس في أفعاله عبث ولا باطل، وثانيهما: إرشاد الله يرجع الى هدايته، ودلالة اسم الله الرشيد أنه المتصف بكمال الكمال عظيم الحكمة بالغ الرشاد, وهو الذى يرشد الخلق ويهديهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم في الدنيا وفى الآخرة، لا يوجد سهو في تدبيره ولا تقديره.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في شفاء العليل: "رشيد يحب أهل الرشد، وهو الذي جعل من يحبه من خلقه كذلك، وأعطاه من الصفات ما شاء، وأمسكها عمن يبغضه, وجعله على أضدادها، فهذا عدله، وذاك فضله، والله ذو الفضل العظيم"، وهو الرشيد في أقواله وأفعاله، وهو مرشد الحائرين، قال -تعالى-: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن: 1- 2].
عبـــاد الله: فإذا كان هذا هو معنى اسم الله الرشيد وتلك دلالته فإن الله -سبحانه وتعالى- له إرشادات عظيمة في حياة العباد فمنها:
أنه -سبحانه- أرشدنا إليه وعرفنا به من خلال مخلوقات وكتبه ورسله، قال -تعالى-: (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة 163/164]، وقال -تعالى-: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الأنعام: 102، 103].
وأرشدنا الله إلى دينه وهدانا إليه، قال -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الحجرات: 7، 8].
وأرشدنا -سبحانه- إلى أن الشيطان عدو يضل العباد عن الصراط، فمن تولاه كان من اتباعه وحزبه، قال -تعالى-: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 6].
وأرشدنا -سبحانه وتعالى- إلى التعامل مع متطلبات الحياة؛ فارشد الطفل الرضيع إلى ثدي أمه, وأرشد الانسان إلى رزقه وعلاجه وما ينفعه ويضره، بل أرشد المخلوقات الأخرى غير الإنسان إلى ذلك؛ فهو الذي أرشد الأسماك تقطع بين شهري يناير ومارس من كل عام آلاف الأميال مهاجرة من مختلف الأنهار والبحيرات العذبة عبر العالم إلى أعماق المحيط الأطلسي لتضع بيضها وتموت, بَيْد أن صغارها التي لا تعرف شيئًا عن موطن أمهاتها، تعود أدراجها إليها قاطعة نحو 5000 كم في رحلة طويلة وعجيبة ورائعة، ولم يحدث قط أن ضلت الأنواع الأوربية إلى المياه الأمريكية أو العكس ولا الأفريقية عن الآسيوية والعكس، فمن غير الله -تعالى- قد "هداها" سبلها؟!.
ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار إذا *** حاولت تفسيرًا لها أعياكا
قل للطبيب تخطفته يد الردى *** يا شافي الأمراض من أرداكا؟
قل للمريض نجا وعوفي بعد ما *** عجزت فنون الطب: من عافاكا؟
قل للصحيح يموت لا من علة *** من بالمنايا يا صحيح دهاكا؟
قل للبصير وكان يحذر حفرة ***فهوى بها: من ذا الذي أهواكا؟
بل سائل الأعمى خطا بين الزَّحام *** بلا اصطدام: من يقود خطاكا؟
قل للجنين يعيش معزولا بلا *** راع ومرعى: ما الذي يرعاكا؟
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا *** ء لدى الولادة: ما الذي أبكاكا؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه *** فاسأله: من ذا بالسموم حشاكا؟
وأسأله كيف تعيش ياثعبان أو *** تحيا وهذا السم يملأ فاكا؟
وأسأل بطون النحل كيف تقاطرت ***شهدًا وقل للشهد من حلاَّكا؟
بل سائل اللبن المصفى كان بين *** دم وفرث ما الذي صفاكا؟
وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا *** ميت فاسأله: من أحياكا؟
أيها المؤمنون: ومن إرشاد الله لعباده أنه -سبحانه- دلهم على الجنة وطريقها وحذرهم من النار وسبلها؛ قال -تعالى-: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا)[مريم: 63]، وقال -سبحانه-: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ *سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[إبراهيم: 48-52].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا أما بعد:
عبــــــاد اللـه: فإن الله الرشيد هو الذي ضبط أفعاله وحكمه، وتوازنت أحواله مع كثرة صفاته، فلم تطغ صفة على صفة، كلها ثابتة عاملة في الكون بالقدر الذي أراده الله، فكل أفعال الله -عز وجل- رشيدة، وإذا وصف الله بهذا الوصف فهو الرشد المطلق؛ فعلمه مطلق، وقدرته مطلقة، ورحمته مطلقة، مرشد بأفعاله، يلهم أهل الرشد إلى طاعته، وأرشد الخلائق إلى هدايته، ولذلك فإن له آثارًا إيمانية في حياة العبد، فمن كان أكثر العباد اتباعًا وعملًا بما شرع الله كان أكثر رشدًا وصلاحًا وتوفيقًا في الحياة الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ اَجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُوْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 185].
ومن ذلك أن المؤمن عندما يدرك اتصافه -تعالى- بالرشد في قوله وفعله وأمره ونهيه، فإنه يطمع في توفيقه -تعالى- وهدايته له، فمن هداه فهو وليه ومرشده.
ومن أيقن بأن الله هو الرشيد في قوله وفعله وحكمه وتشريعه أطمأنت نفسه فلا يخاف بخسًا ولا ظلمًا ولا رهقًا، قال -تعالى-: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا)[الجن: 13].
ومن آثار الإيمان لاسم الله الرشيد: أن من أدرك جازمًا بأن الله هو الرشيد ليس في أفعاله عبث ولا باطل رضي بقضاء الله وقدره وصبر على ذلك؛ فينال بذلك الفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، والأجر والمثوبة من الله, ولم يعتره اليأس لثقته بربه وعدله وحكمته، وتوكل عليه واستجار به -سبحانه-.
أيها المسلمون: ومن أيقن بأن الرشد والرشاد من الله الرشيد طلب منه إرشاده إلى كل خير في دينه ودنياه وآخرته, وما أحوجنا اليوم لإرشاد الله وتوجيهه على المستوى الفردي والجماعي, وما المخرج من الفتن اليوم وطرق الضلال إلا بإرشاد الله وتوفيقه؟ وإن أصحاب الكهف وهم في شدة المحنة والفتنة علموا بأن الله هو الرشيد فلجؤوا إليه؛ (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) [الكهف: 10].
فاسألوا الرشيد أن يرشدكم إلى هداه، وأن يبعدكم عن ما يسخطه ويأباه.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم