عناصر الخطبة
1/ وداع الإجازة واستقبال عام دراسي جديد 2/ لحظة محاسبة 3/ ندم ساعة الاحتضار 4/ ندم ساعة الحساب 5/ لماذا نحاسب أنفسنا؟! 6/ استقبال رمضان 7/ فضل صيام رمضاناقتباس
إنه ولابد وفي ختام هذه الإجازة من وقفة محاسبة وتذكر، وما يتذكر إلا من ينيب، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت عليه حسراته، لا بد من وقفةٍ صادقةٍ مع النفس في محاسبةٍ جادةٍ، ومساءلةٍ دقيقةٍ، في مثل هذه اللحظات، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون، هل الأعمار إلا أعوام؟! وهل الأعوام إلا أيام؟! وهل الأيام إلا أنفاس؟!
إن الحمد لله...
أما بعد:
في هذه اللحظات نودع الإجازة الصيفية، ونستعد لاستقبال عام دراسي جديد، نسأل الله تعالى العون والسداد.
أيها المسلمون: وإنه لمن المناسب جدًا عند العقلاء -وكلكم ذلك الرجل- أن يقف لحظة محاسبة مع نفسه، كيف مرت به وبأولاده هذه الإجازة، يحاول أن يستعيد بدايتها ولحظاتها حتى نهايتها، كيف ذهبت وبماذا صرفت أوقاتها، وما هي ثمراتها ونتائجها، وما هي خسائرها وحسراتها.
أيها المسلمون: إنه ولابد وفي ختام هذه الإجازة من وقفة محاسبة وتذكر، وما يتذكر إلا من ينيب، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت عليه حسراته، لا بد من وقفةٍ صادقةٍ مع النفس في محاسبةٍ جادةٍ، ومساءلةٍ دقيقةٍ، في مثل هذه اللحظات، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون، هل الأعمار إلا أعوام؟! وهل الأعوام إلا أيام؟! وهل الأيام إلا أنفاس؟! وإن عمرًا ينقضي مع الأنفاس لسريع الانصرام، أفلا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين؟! وقلَّبت الليالي من سجلات السابقين؟! وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين؟! كل نفس من أنفاس العمر معدود، وإضاعة هذا ليس بعده خسارة في الوجود: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران: 30].
إن الدنيا تُبكي ضاحكًا، وتضحك باكيًا، وتُخيف آمنًا، وتؤمّن خائفًا، وتفقر غنيًا، وتغني فقيرًا، تتقلب بأهلها، لا تُبقي أحدًا على حال، العيش فيها مذموم، والسرور فيها لا يدوم، تُغيِّر صفاءها الآفات، وتنوبها الفجيعات، وتفجع فيها الرزايا، وتسوق أهلها المنايا، قد تنكرت معالمها، وانهارت عوالمها.
أيها المسلمون: لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وأكدارها، وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه، فمن صفَّى صُفِّيَ له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن سرَّه أن تدوم عافيته فليتق الله ربَّه، فالبر لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان، وإذا رأيت في عيشك تكديرًا وفي شأنك اضطرابًا، فتذكر نعمةً ما شُكرت، أو زلة قد ارتكبت، فجودة الثمار من جود البذار، ومن زرع حصد، وليس للمرء إلا ما اكتسب، وهو في القيامة مع من أحب.
يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: من عرف أنه عبدٌ لله وراجعٌ إليه فليعلم أنه موقوف، ومن عَلِم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليُعد لكل سؤال جوابًا. قيل: يرحمك الله، فما الحيلة؟! قال: الأمر يسير: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وما بقي.
أيها المسلمون: لا بد في هذه الدقائق المتبقية من عمر الإجازة من محاسبةٍ تَفُضُّ مغاليق الغفلة، وتوقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح جميعًا، من لم يظفر بذلك فحياته كلها -والله- هموم في هموم، وأفكارٌ وغموم، وآلامٌ وحسرات، بل إن الله لم يبعث نبيه محمدًا –صلى الله عليه وسلم- إلا بالمهمتين العظيمتين: علم الكتاب والحكمة، وتزكية النفوس: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة: 2]، بل لقد علَّق الله فلاحَ عبده على تزكية نفسه ومحاسبتها، وقدم ذلك وقرره بأحد عشر قسمًا متوالية، اقرؤوا إن شئتم وتأملوا: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 1-10].
أيها المسلمون: إن الله -عز وجل- قدر لنا عددًا محددًا من الأنفاس، فكلما تنفس العبد نفسًا سجل عليه، حتى يصل العبد إلى آخر العدد المقدر له، عند ذلك يكون خروج النفس، وفراق الأهل، ودخول القبر، وينتقل العبد من دار العمل ولا حساب، إلى دار الحساب ولا عمل، وإنما يدرك العبد أهمية محاسبة النفس وخطر الوقت والعمر إذا فقد هذه النعمة، فعند ذلك يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، لا من أجل أن يجمع حطامها وشهواتها، بل من أجل أن يجتهد في طاعة الله -عز وجل-، وتتجدد له هذه الأمنية وهذا الطلب كلما عاين أمرًا من أمور الآخرة، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99، 100]، وقال تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 10، 11].
أيها المسلمون: إنما الإجازات والعمر والوقت نعمة من الله -عز وجل-، فمن شكرها بطاعة الله -عز وجل- وأنفقها في سبيل الله تقول له الملائكة يوم القيامة: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32]، وتقول له في الجنة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24]، ومن كفر هذه النعمة وبذلها في معصية الله -عز وجل- تقول له الزبانية: (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [غافر: 75، 76]، فينبغي على العبد أن يعرف خطر الأوقات واللحظات والإجازات، فأهل الجنة لا يتحسرون على شيء إلا على ساعة مرت عليهم لم يذكروا الله -عز وجل- فيها. قال رجل لعامر بن عبد قيس: قف أكلمك، فقال: أوقف الشمس. كانوا يبخلون بأوقاتهم وأنفاسهم أن تنفق في غير طاعة الله -عز وجل-، وكانوا أحرص على أوقاتهم من حرصنا على دنانيرنا ودراهمنا، ونحن بماذا قضينا الإجازة؟! مات ابن لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة، فوكل أحد جيرانه في غسله ودفنه لئلا يفوته درس من دروس شيخه أبي حنيفة. ودخلوا على الجنيد عند الموت وهو يصلي قال: الآن تطوى صحيفتي. وقيل لأبي بكر النهشلي وهو في الموت: اشرب قليلاً من الماء، قال: حتى تغرب الشمس. أين وصفك من هذه الأوصاف، لقد قام القوم وقعدنا، وجدوا في الجدّ ونمنا، ما بيننا وبين القوم إلا كما بين اليقظة والنوم.
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم *** ليس السليم إذا مشى كالمقعد
يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد، يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، إلى متى تدفع التقوى عن قلبك، وهل ينفع الطرق في حديد بارد؟!
وما المرء إلا راكب ظهر عمره *** على سفر يغنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحي كل يوم وليلة *** بعيدًا عن الدنيا قريبًا إلى القبر
ومن جهل قيمة الوقت الآن، فسيأتي عليه حين من الدهر يعرف فيه قدره وتعاسته وقيمة العمل فيه، ولكن بعد فوات الأوان، وفي هذا يذكر الله تعالى موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم:
أولهما: ساعة الاحتضار: حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة، ويتمنى لو منح مهلة من الزمن ليصلح ما أفسد ويتدارك ما فات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 9، 10]، ويكون الجواب على هذه الأمنية: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
ثانيهما: في الآخرة: حيث توفى كل نفس ما عملت وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هنالك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى على الحياة ليبدؤوا من جديد عملاً صالحًا: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 36، 37].
أيها المسلمون: إن الليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر وأعوام تتكرر، وأجيال تتعاقب على درب الآخرة، فهذا مقبل وهذا مدبر، وهذا صحيح وهذا سقيم، والكل إلى الله يسير، فانظر -أيها الحبيب- في صحائف أيام الإجازة التي خلت، ماذا ادخرت فيها لآخرتك؟! واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان؟! وماذا رأت العين؟! وماذا سمعت هذه الأذن؟! أين مشت هذه القدم؟! وماذا بطشت اليد؟! وأنت مطلوب منك أن تأخذ بزمام نفسك وتحاسبها، يقول ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقيًّا حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه. فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات، ولنحاسب أنفسنا على الغفلات في الإجازات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام، تحث بنا السير إلى الآخرة، سمع أبو الدرداء رجلاً يسأل عن جنازة مرت: من هذا؟! فقال أبو الدرداء: هذا أنت. ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟! قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده. فاجتهدوا -أيها الأحبة- من هذه اللحظة، فإنما الأعمال بالخواتيم ولن ينفع: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99، 100].
إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما كما قال عمر بن عبد العزيز. إن الليل والنهار مطيتان يباعدانك من الدنيا ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ) [النور: 44]، تتجدد الأعوام فنقول: إن أمامنا عامًا جديدًا نراه طويلاً، لكن سرعان ما ينقضي، قال عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- منكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. فلا يركن المؤمن إلى الدنيا ولا يطمئن إليها، فهو على جناح سفر يهيئ نفسه للرحيل.
أيها المسلمون: هل تدرون لما نحاسب أنفسنا؟! نحاسبها لأربعة أمور:
الأمر الأول: حتى يخفف عنا حساب الآخرة: يدني الله تعالى المؤمن يوم القيامة فيضع عليه كنفه -أي ستره عن أعين الخلق- فيقرره بذنوبه: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا؟! فيقول: نعم، فيقول الله -عز وجل-: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك، فيعطى صحيفة حسناته. وأما الكافر والمنافق فينادى عليه على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين.
الأمر الثاني: نحاسب أنفسنا أيضًا؛ لأن الشهود كثر: وأعظم شهادة شهادة رب العالمين (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ) [المجادلة: 7]، وشهادة الملائكة (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 17، 18]، وشهادة الجوارح: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65]، وشهادة الجلود (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت: 21]، وشهادة الأرض (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة: 4، 5]، قالوا: يا رسول الله: ما أخبارها؟! قال: أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا.
والأمر الثالث: الذي من أجله نحاسب أنفسنا، هو أن ألد عدو للإنسان نفسه فهي الأمارة بالسوء كما وصفها خالقها: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف: 53]، فما تشتهيه نفسك هو السبيل إلى النار، وما تكرهه هو السبيل إلى الجنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
الأمر الرابع: تأمل -يا عبد الله- هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها، تتخطفها وهي راقدة في منامها، تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها، تقبضها وهي مكبة على أعمالها، تتخطفها وتعاجلها من غير إنذار أو إشعار، (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل: 61]، ها هو ابن آدم يصبح سليمًا معافى في صحته وحُلَّته، ثم يمسي بين أطباق الثرى، قد حيل بينه وبين الأحباب والأصحاب، ويلٌ للأغرار، يأمنون الدنيا وهي غرّارة، ويثقون بها وهي مكّارة، ويركنون إليها وهي غدّارة، فارقهم ما يحبون، ورأوا ما يكرهون، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، ثم جاءهم ما يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون.
نفعني الله وإياكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله يسّر على عباده بشريعة أبي القاسم، وجعل فيها للخير وللجود والبر خيرَ المواسم، أحمده سبحانه حمد من بات لربه بين تال وذاكر، أو ساجد وقائم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فَضَلَ ريح المسك عنده خُلوف فم الصائم، فهو الذي يتولى جزاءه في يوم تنشر فيه الدواوين وترد فيه المظالم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير خلقه، وصفوة أنبيائه، ورسوله إلى الناس كافة، عربِهم والأعاجم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ذوي الفضل والجود والجهاد والمكارم، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المسلمون: رمضان يوشك أن نستقبل أيامه، وننصب خيامه، ونطرد عن قلوبنا الملل والسآمة، ونعيش الأمل بعتق من النار، وبموفور السعادة والكرامة، فما هي إلا أيام قليلة، وتظلنا أيام فضيلة، ونسائم عليلة، تحمل الرحمة والمغفرة والعطايا الجزيلة.
بعد أيام: ستفتح أبواب الجنان، وينادى: يا باغي الخير أقبل.. بعد أيام: تغلق أبواب النار وينادى: يا باغي الشر أقصر.. بعد أيام: يعتق في كل ليلة عتقاء من النار، وتنشر على الصائمين والقائمين رحمة الرحيم الغفار.. بعد أيام: ندرك من الله نعمة، ما أجلها من نعمة، وتيسر لنا فرصة، ما أعظمها من فرصة، بلوغ رمضان، تدركه وأنت آمن في سربك، معافى في بدنك، عندك قوت يومك، فهي نعمة عظيمة، ومنة جسيمة، من فاتته فما أعظم خسارته! وما أكسد تجارته! نص على ذلك حبيبنا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: "من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين".
أيها المسلمون: إن من أهم ما يستقبل به الضيف بشاشة الوجه، وطلاقة المحيا، والسعادة الغامرة بقدومه، وانشراح الصدر به، وبذل ما يمكن بذله في الاستعداد احتفاءً بقدومه، وفرحة ببلوغه، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه". وما من ضيف ينـزل بمسلم أفضل من رمضان، فأكرمه -أخي الحبيب- بما يليق به من إكرام، فما يحمله لك من البشائر والعطايا شيء جزيل، لو أفنيت عمرك كله في نيله فما أنت بمغبون ولا بخاسر.
هو شهر البركة والرحمة، تحط فيه الخطايا، ويستجاب فيه الدعاء، ينظر الرب تعالى إلى التنافس فيه، ويباهي بالمتنافسين فيه الملائكة، فالشقي كل الشقاء من حرم رحمة الله، ولم يكتب في سجل العتقاء.
إن شهر رمضان يحمل معه الهدايا للطائعين، والبشر والخير للناس أجمعين، فهو شهر الطاعات بأنواعها، صيام بالنهار، وقيام بالليل، وتهجد بالأسحار، ترتيل لكتاب الله، وجود على عباد الله، وتسبيح وأذكار، فهو بحق سيد الشهور، فأهلاً به ومرحبًا.
يفرح بقدومه الصالحون، ويبتهج بإدراكه العابدون، يشترك في البهجة به والسرور الفقراء والأغنياء على حد سواء؛ إذ فيه يزداد إيمانهم، وتقوى في الطاعة عزائمهم، وتخشع بكتاب الله قلوبهم، وتدمع تأثرًا بآياته عيونهم، فيدعون ما يشتهون، ويصبرون على ما يكرهون، ويترقبون ساعة الفطر، فيفرحون بصيامهم وبفطرهم فيؤملون.
فلا تعجب من قول الحق -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به". متفق عليه. وفي رواية لمسلم: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به".
فيا مسلم، يا عبد الله: الملكُ القدوسُ السلامُ، يتولى جزاء صيامك، ولم يحدد لك من جزائك شيئًا، وهو الكريم، الجواد الرحيم، فدع لنفسك أن تذهب كل مذهب تتخيل فيه ما ستناله من صيامها، فوالله لن تستطيع أن تتخيله، أو أن تتصوره، فعِدها بوعده، وذكّرها بجوده وفضله، وقل لها: يقول الملك: "الصيام لي وأنا أجزي به، الصيام لي وأنا أجزي به". فأبشري بخير جزاء، واسأليه بصيامك ابتغاء وجهه، أن يمن عليك فلا يحرمك رؤية وجهه.
فاصبري -يا نفس- مع الصابرين، واركعي مع الراكعين، وارفعي اليدين مع الداعين، ففي الصيام يقول الحق -تبارك وتعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وفي الصيام يقول الكريم، السميع المجيب: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي) [البقرة: 186]، وفي الصيام يقول الكريم المنان: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) [البقرة: 187]، وفي الصيام يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا". متفق عليه. فيا لله كم سيبعد وجه من صام رمضان وأتبعه بست من شوال. وفي الصيام يقول الحبيب -عليه الصلاة والسلام-: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه". متفق عليه. وللصائمين ليس إلا، باب خاص من أبواب الجنة، يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون، جعلني الله وإياكم منهم، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟! فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد. متفق عليه.
أيها المسلمون: إن كثيرًا من المسلمين هداهم الله، يستقبلون رمضان بالاستعداد بتسجيل أوقات عرض المسلسلات والمسابقات، فيمضي ليلهم بعد فطرهم بمشاهدة هذه وتلك من القنوات، فلا صيامهم حفظوا، ولا بصلاتهم قاموا، فما أقربهم من أن ترغم أنوفهم، يوم لا ينفع مال ولا بنون، فإن المحروم من حرم رحمة الله في وقتها، وعرضت عليه بأبخس الأثمان فأعرض عنها وعافها. فبكم تشتري مقعدك من الجنة؟! وبكم تبيع مقعدك من النار؟! لو ربحت مسابقات الدنيا كلها، وخسرت مكانك في الجنة فوالله إن ذلك لهو الخسران المبين، فوالله لموضع السوط من أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما عليها.
إن أناسًا تخاط أكفانهم بين يومنا هذا وبين رمضان! فهل تأمن أن تكون منهم؟! وإن بلغت رمضان فهل تضمن أن تكمل أيامه؟! أو أن تكمل صيامه وقيامه؟! وإن أكملتها فهل تضمن أن تعود إليه عامك القادم؟! وهب أن أدركت عشرين أو ثلاثين سنة شهر رمضان، لم تتب فيها ولم تعمل صالحًا في أيامها، فهي عليك حسرة، وعليك حجة، وعليك شهيدة، وفي النهاية ستحمل على الأكتاف يومًا، تتمنى فيه ركعة أو ركعتين، تسبيحة أو تسبيحتين.
فعلام التسويف، وأنت ترى الناس في كل يوم ينعون قريبًا أو حبيبًا؟! فعلام التسويف؟! وأنت ترى عامنا هذا قد انصرم كأحلام ليل، لم يبق منه إلا الذكريات، وآلامًا تجرعناها، وآمالاً سعدنا بها، فما لبثت أن صارت أحاديث.
وتأمل -يا رعاك الله- قول ربك -تبارك وتعالى-: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء: 205-207]، فإذا مدّ الله أجلك، وبلغك رمضان فما عساك فاعل؟! وما الذي ستملي في أيامه ولياليه على الملكين؟! أغنية وتمثيلية؟! مسابقة وأمسية شعرية؟! ألا فاتق الله يا عبد الله، واستعد لرمضان بحسن الاستقبال، بنية صادقة، وعزم أكيد على شغل أوقاتك بما يفيد، صلاة وصيامًا، برًا وصلة، صدقة ودعاء، تلاوة وذكرًا، فرحمة الله قريب من المحسنين، بعيد من المعرضين، والراحة لا تنال بالراحة، ولا يمكن أن تصل إلى الجنة العليا إلا بالنصب والتعب، ومن طلب عظيمًا بذل في ذلك نفسه ومهجته، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، وقد قيل لأهلها: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24]، وقيل لهم: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32]، وقيل لهم: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) [الرحمن: 60]، فلا تغتر بكثرة الهالكين، ولا بكثرة المعرضين، الذين أطلقوا لنفوسهم العنان، تتبع غرائزها، وتعبد هواها، مكاسبهم وقود شهواتهم، وغفلتهم حطب ملذاتهم، ولكن: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3]، فلا تكن منهم، ولا معهم، ولا فيهم، ولكن كن راشدًا تقيًا، راضيًا مرضيًا، ساعيًا في طاعة ربك ما دمت حيًا، فهي زادك قبل أن تموت، وتكون نسيًا منسيًا.
فيا مولانا، يا ذا الحول والطول، يا من لا يبدل لديه القول: متعنا بما بقي من شعبان، وبلغنا رمضان، واجعلنا ممن كتبت لهم العتق من النيران، والفوز بالدرجات العلى من الجنان، فنالوا الزيادة، وحل عليهم الرضوان.
هذا، وصلوا على الحبيب، لعله أن يكون لكم شفيعًا: (اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم