عناصر الخطبة
1/ ذمُّ ظاهرة التلذذ باستفزاز الآخرين في المجالس 2/ آثار تلك الظاهرة 3/ بعض صورها 4/ الفرق بين الاستلذاذ بالاستفزاز وبين المزاح المشروع 5/ وصايا لمعالجة تلك الظاهرة المذمومةاقتباس
إن من المظاهر التي ينبغي الحذر منها ما يفعله بعض الـجلساء مع جلسائهم من استفزاز بعضهم لبعض، بأشياء قد تـخرج العاقل منهم عن طوره، فيوقعون بعض جلسائهم ببعض، من أجل أن يسعدوا هم، فيستفز أحدهم هذا بفعل، وذاك بقول، ولا يتلذذ الـبعض في المجلس إلا بقذف الكلمات القاسية، والتعليقات الممجوجة، والسخافات المرفوضة، على جلسائه، كأنـها جـمرات يلقيها عليهم، ليسعد هو بشقاء غيــــره، ويفرح بـحـــزن غيـره؛ فتختلف -بسبب استفزازه لـجلسائه- القلوب، وتتعارك الألسن، وينكّد على الجلساء مجلسهم، ويتفرق الشمل بعد جـمعهم، وتزرع العداوات بين الأهل والأصحاب.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واعلموا بأن خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول أحد الدعاة: كنت في بيت الله الحرام، في رحلة للعمرة مع بعض طلابي، وإذا بي أسـمع في جوف الليل صوت رجل يدعو بحسرة وحرقة على أناس بأسـمائهم، وهو مستقبل الكعبة، وفوجئت بأن من يدعو عليهم هم من طلابي، فالتفتّ إليه، فإذا هو أحد طلابي، يدعو على بعض زملائه، فعجبت منه وقلت: فلان؟! فقال وقد أصابه الـحرج: نعم، فقلت: أليس هؤلاء هم خاصة جلسائك؟ فلماذا تدعو عليهم بـمثل هذا الدعاء؟ فقال: آذوني بتعليقاتـهم علي، وتندرهم بي، فقلت له: ولكنـي أراك تضحك معهم، وتتقبلها منهم! فقال لشيخه: كنت مضطرا لذلك، فلو أظهرت رفضي لـها، لعاملوني كما عاملوا فلانا، الذي كان يُستفَز كلما استفزوه، ويتشاجر معهم كلما أثاروه، فأخذوا يصفونه بالعـصبـي، والأحـمق، وصغيـر السن، وقليل العقل، إلى غيـر ذلك من الأوصاف، وزادوا في إيذائه وتـهاجروا؛ فهذا المزاح الذي يدّعون أنــهم يـمازحوننـي به يـجعلنـي لا أنام الليل، يأكل معي نقدهم وتندّرهم بي ويشرب، أقض مضجعي وقهرني.
يقول الداعية: فناصحت هؤلاء الطــلاب بتـرك هذه التعليقات المشينة، وشدّدت عليهم في ذلك، وحذرتـهم من مغبتها، فتابوا، ثـم ما لبث بعضهم أن عاد لسيـرته الأولى، ولقد وجدت أثر دعوته عليهم بعد ذلك، ومن يضلل الله فلا هادي له.
عباد الله: إن من المظاهر التي ينبغي الحذر منها ما يفعله بعض الـجلساء مع جلسائهم من استفزاز بعضهم لبعض، بأشياء قد تـخرج العاقل منهم عن طوره، فيوقعون بعض جلسائهم ببعض من أجل أن يسعدوا هم، فيستفز أحدهم هذا بفعل، وذاك بقول، ولا يتلذذ الـبعض في المجلس إلا بقذف الكلمات القاسية، والتعليقات الممجوجة، والسخافات المرفوضة، على جلسائه، كأنـها جـمرات يلقيها عليهم، ليسعد هو بشقاء غيــــره، ويفرح بـحـــزن غيـره؛ فتختلف -بسبب استفزازه لـجلسائه- القلوب، وتتعارك الألسن، وينكّد على الجلساء مجلسهم، ويتفرق الشمل بعد جـمعهم، وتزرع العداوات بين الأهل والأصحاب.
فعجبا -والله- مـمن يعذبون أصحابـهم من أجل أن يسعدوا هم! أيرضي صنيعهم هذا رب العزة والجلال؟ لا وربي، لا يرضيه أبدا.
وبعضهم يشعل الفتيل بين جلسائه وأصحابه، فيثير بعضهم على بعض، بتذكيرهم بـمواقف قديـمة حدث فيها خلاف بينهم، فيتعمد إذكاء جذوته، وإشعالـها من جديد، مسعــِّراً حربا بينهم، كأنه شيطان، حتى إذا دب بينهم الشقاق، وتـجدد الخلاف القديم، لبس هو ثوب العاقل والحكيم والمصلح، مدعيا أنه يسعى لتهدئة الأنفس، ويذكرهم بالعقل، وهو أول من تخلى عنه، ليظل هو حلقة الوصل بينهم، مع أنه هو أس الشر وأساسه، ورأس الفتنة.
فمن ابتلي بـهذا الـخلق المشين، فعليه اجتنابه، فهناك ربٌّ يراقبه، وليتذكر قول القهار -جل في علاه-: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر:14].
ومهما قال أصحاب هذه التصرفات الـمشينة من حجج باردة لإجازة أفعالـهم، فما هي إلا شبهات مدحوضة لا تغنـي من الـحق شيئا، فالمعيار في الـحكم هو الشرع، ليس للأمزجة، ولا للأهواء ورغبات الأنفس، وليتذكر قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي حسنه النووي: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"، وهل يرضى أن يصنع به هذا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" رواه البخاري ومسلم.
عباد الله: ويشمل الـحكم على هذا الـخلق المعيب، ما يـحدث أيضا من استفزازات، عبـر المجموعات في وسائل التواصل الاجتماعي، بيـن بعض أعضاء المجموعات من شقاق وخصام وسخرية واستفزاز من بعضهم لبعض، فلا فرق في الحكم بين من يثير الفتنة بـحضوره بشخصه، أو عبـر مشاركاته بصفحات التواصل الاجتماعي بكتاباته، فتجد بعضهم يـخرج من هذه المجموعات بسبب التصرفات المشينة من بعض أفرادها، من سخرية واحتقار واستفزاز له.
والمسلم مطالب بإكرام أخيه المسلم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا؛ المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه" رواه مسلم.
عباد الله: هناك من لا يطيب له المجلس إلا بإثارة أصحابه، فيعرف كيف يثير فلانا على فلان، ويغضب فلانا، ويسعى جاهدا ليخرج فلانا عن عقله وحكمته، فيبحث عن مواطن الضعف فيهم، حتى يثيرهم ويحرجهم أمام بعضهم، وكأن سعادته لا تكون إلا بشقاء غيـره وإيلامه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!.
وأصحاب هذه التصرفات المشينة لا يخشون الله، ولا يستحون من الناس، ويصدق عليهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة، إذا لم تستح فافعل ما شئت" رواه البخاري.
عباد الله: كم من شاب صالح ترك جلسات الصالـحيـن بسبب إيقاع بعضهم لبعض في مثل هذا الاستفزاز المذموم الممقوت! وكم تــهاجر أقارب، وترك جيران أحياءهم مأسوفا عليهم! بل ووقعت بسببها جرائم قتل وطعن؛ فقدرة الناس على تحمل هذه الاستفزازات والصبـر عليها ليست واحدة، مع العلم أن البعض قد يتقبل هذه السخرية البغيضة، وذلك المزاح الممقوت ظاهريا، إما إكراهاً، أو ضعـفا، أو حاجة، أو مجاملة، أو خجلا وحياء، أو خوفا مـما هو أشد، أو دفعا للمفسدتيـن بأخفهما، فإذا خلا بربه دعا على من استفزه وأخرجه عن طوره، وأفقده عقله وصوابه. اللهم ردنا إليك ردا جـميلا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، ولـجميع المسلمـيـن فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على عظم نعمه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله: علينا أن نتـرفع في مـجالسنا عن سفاسف الأمور، وأن نسمو في جلساتنا، وأن نعرض أفعالنا وأقوالـنا على كتاب ربنا، وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن نحسن لـجلسائنا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البر حسن الخلق" رواه مسلم.
فلنتق الله -عز وجل-، ولنتأمل قول النبـي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" رواه التـرمذي وغيـره بسند حسن، وأن تكون هذه الـجلسات منضبطة بضوابط الشرع، لا سخرية، ولا إذلال، ولا استفزاز، وأن ننتقي كلماتنا مع جلسائنا، كما ننتقي أطايب الثمار.
والمسلم الـحق هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، مصداقا لقوله -تعالى-: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء:53].
وعلينا أن نذكر الـجلساء الذين ابتلوا بإثارة هذه الاستفزازات بالله -جل وعلا-، وليتأملوا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" رواه البخاري ومسلم. فهم لـم يقولوا خيـرا ولـم يصمتوا.
وعليهم أن يعلموا أن ما يفعلونه لا يدخل في باب المزاح في شيء، حيث يـخلط كثيـر من الناس بيـن المزاح والاستهزاء والسخرية والتهكم، فأفعالـهم الاستفزازية والعدوانية لا تدخل في باب المزاح في شيء؛ لأن المزاح المشروع هو المطايبة في الكلام، والانبساط مع الـخلان، من غيـر أذى، لأن مقصوده زرع الألفة بيـن الصحبة، وترويح القلوب من عناء الـجد، ووعثاء العمل، والاستئناس بالأصحاب، وخلا من الضرر؛ أما ما يفعلونه فبينه وبيـن المزاح خرط القتاد، ففيه ما يشيـن في العرض والدين، والاستخفاف بالمسلم، فأفعالـهم تدخل في باب السخرية التي تورث الضغينة، وتـحرك الـحقود الكمينة، وتقطع العلاقات المتينة.
كما أنصح من ابتلوا بـمثل هذه الجلسات، وبـمثل هذه النوعية من الأصحاب أن يـجتنبوها، فلا خـيـر فيها، ولا نفع، فما ألزمهم الله بـحضور جلسات تـمرض قلوبـهم، وتنقص قدرهم، وتكدر صفو حياتـهم، وتنكد معاشهم، فإذا تفرقوا من هذه الـجلسات، تـجد كل فريق يسلق الفريق الآخر بألسنة حداد، فحصد الـجميع سيئات في الـحضور والغـياب، وليكن شعارنا كما أرشد الله -عــز وجل-: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان:72].
وأنصحهم بـمجالسة خيار الصالـحيـن، استجابة لقوله -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف:28].
اللهم ارزقنا خيـرة الأصحاب، اللهم إنا نعوذ بك أن نَضِلَّ أو نُضَلَّ، أو نَظلِم أو نُظلَم، أو نـجهَل أو يُـجهَل علينا.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم