استغفروا ربكم يا قوم

حسان أحمد العماري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ من أهم الأعمال لاستقبال شهر رمضان 2/ الاستغفار من أجل العبادات 3/ أهمية ملازمة التوبة وكثرة الاستغفار 4/ الاستغفار في حياة الأنبياء والصالحين 5/ الاستغفار سبب لرفع العذاب 6/ استقبال رمضان ومواسم الطاعات بالاستغفار.

اقتباس

إن الاستغفار من أجل العبادات، وبوابة من أعظم بوابات الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومع سهولة هذه العبادة ويسرها إلا أن المستغفرين قليل! وليس في ذلك زيادة عبء، ولا دفع مال، ولا جهد يبذله الإنسان، إنما هي كلمات يتمتم بها العبد مع قلب خاشع منيب لله -عز وجل-، ورحمة الله قريبة من عباده المخبتين المستغفرين الذين لا تفتر ألسنتهم بطلب المغفرة من ربهم.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي خلق الشهور والأعوام والساعات والأيام، وفاوت بينها في الفضل والإكرام وربك يخلق ما يشاء ويختار، أحمده سبحانه فهو العليم الخبير.. الذي يعلم أعمال العباد ويجري عليهم المقادير.. لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيء قدير.. في السماء ملكه.. وفي الأرض عظمته.. وفي البحر قدرته خلق الخلق بعلمه.. فقدر لهم أقداراً.. وضرب لهم آجالاً.. خلقهم.. فأحصاهم عدداً  وكتب جميع أعمالهم فلم يغادر منهم أحداً.. وأصلي وأسلم على أفضل من صلى وصام  ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام.. صلى الله وسلم وبارك عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار  وتعاقب الليل والنهار، ونسأل الله  أن يجعلنا من خيار أمته وأن يحشرنا يوم القيامة في زمرته.

 

أما بعد: أيها المؤمنون: لقد شرع في شهر شعبان من العبادات والأعمال الصالحة ما يؤهل المسلم ويجعله في أتم الاستعداد لاستقبال شهر رمضان، شهر الصيام والقيام والتوبة والقرآن والصدقة والذكر والدعاء، وإن من أهم الأعمال لاستقبال شهر رمضان، كثرة الاستغفار، فعامنا الذي مضى وصفحات أعمالنا خلال السنة الماضية لاشك أن فيها كثير من الهفوات والزلات والذنوب والمعاصي والموبقات.

 

وهذا ظاهر للعيان في سلوكياتنا وأخلاقنا ومشاكلنا مع بعضنا، ودمائنا التي تسفك، وضعف الأخوة والظلم وتسلط بعضنا على بعض، وتدخل أعدائنا في كل أمورنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، فزادت النار اشتعالاً، والبون شاسعًا، والفتن لا تكاد أن تنتهي وتتوقف حتى يظهر غيرها، ولا حل لكل تلك المشاكل إلا بالعودة الصحيحة إلى قيم الإسلام وأخلاقه وتشريعاته ، مع بذل الأسباب الدنيوية والمأمور بها شرعًا، وإن صفاء النفوس، وحسن النية، وسلامة المقصد، تبدأ من نقطة العودة إلى الله والفرار إليه وكثرة الاستغفار وطلب المغفرة.

 

عباد الله: إن الاستغفار من أجل العبادات، وبوابة من أعظم بوابات الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومع سهولة هذه العبادة ويسرها إلا أن المستغفرين قليل! وليس في ذلك زيادة عبء، ولا دفع مال، ولا جهد يبذله الإنسان، إنما هي كلمات يتمتم بها العبد مع قلب خاشع منيب لله -عز وجل-، ورحمة الله قريبة من عباده المخبتين المستغفرين الذين لا تفتر ألسنتهم بطلب المغفرة من ربهم.

 

إن الاستغفار أول طاعةٍ عملها إنسان بعد أول خطأ، وتلك الطاعة مِنَّة من الله، وهداية هدي إليها آدم وحواء -عليهما السلام-، وبقيت للأبناء من بعدهما: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:37].

 

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال آدم: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكنِّي جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن تبت وأصلحت، أراجِعِي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى، قال: فهو قوله: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) [البقرة:37]" (رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي).

 

وتلك الكلمات هي كلمات الاعتراف بالخطأ، وطلب المغفرة والرحمة من الله: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ) [الأعراف:23].

 

وكانت الرسل والأنبياء -عليهم السلام- مقتفين أثر أبيهم آدم في ملازمة التوبة، وكثرة الاستغفار، فهذا نوح -عليه السلام- يسأل ربه نجاة ابنه المشرك من الطوفان، فيعاتبه الله في ذلك، ويخبره بأن ابنه ليس من أهله؛ لأنه مشرك، ويحذره أن يكون من الجاهلين، فيبادر بالتوبة والاستغفار، وطلب الرحمة: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخَاسِرِينَ) [هود:47].

 

ولما دعا نوح على الكفار من قومه بالهلاك بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله فلم يستجيبوا له؛ أعقب ذلك بالاستغفار له وللمؤمنين معه، فقال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ) [نوح:28].

 

وظهر استغفار خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام-، بعد أن بنى البيت الحرام، فدعا بدعوات كان منها: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ) [إبراهيم:41].

 

وحاجج قومه فيما يعبدون فحَجَّهُم، وقال في معرض حجته عليهم معرِّفاً بربه متبرئًا من أصنامهم: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 77-82].

 

وقال -عليه السلام- يدعو ربه: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [الممتحنة:5].

 

وهذا موسى -عليه السلام- يقر بذنبه، ويعترف بظلمه، ويطلب مغفرة ربه، حين نَصَرَ من كان من شيعته على من كان من عدوه: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [القصص:15-16].

 

ولما رجع -عليه السلام- من مناجاته لربه غضب أشد الغضب من عبادة قومه للعجل، (وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأعراف:150-151].

 

ولما أصاب الله مَن أصاب من بني إسرائيل بالرجفة بادر -عليه السلام- بالاستغفار وطلب الرحمة: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ) [الأعراف:155].

 

وابتلى الله تعالى داود -عليه السلام- بخصمين يحكم بينهما، فلما علم أنه قد فُتن بذلك بادر بالاستغفار: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ) [ص:24-25].

 

وابُتلي ابُنه سليمان -عليه السلام- من بعده، فسار على سنة آبائه من الأنبياء -عليهم السلام- بالمبادرة إلى الاستغفار: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ) [ص: 34-35].

 

وهذا خاتم الأنبياء، وأفضل الرسل، محمد -عليه الصلاة والسلام-؛ أمره ربه بالاستغفار بقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ) [محمد:19]، وفي آية أخرى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النَّصر:3]، فامتثل أمر ربه، ولازم طلب المغفرة منه.

 

قالت عائشة -رضي الله عنها-: ما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة بعد أن نزَلَت: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ) [النَّصر:1] إلا يقول فيها: "سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" (متفق عليه).

 

وفي رواية عنها -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" (متفق عليه).

 

ولم يكن استغفاره -عليه الصلاة والسلام- مقصوراً على صلاته فحسب؛ بل لازم الاستغفار في جميع أحواله، حتى قال -عليه الصلاة والسلام-: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" (متفق عليه).

 

وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يَعُدُّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد يقول مائة مرة قبل أن يقوم: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه" (رواه النسائي).

 

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة *** فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن *** فبمن يلوذ ويستجير المجرم

مالي إليك وسيلة إلا الرضا *** وجميل عفوك ثم أني مسلم

 

معاشر المسلمين: كم نحن بحاجة إلى الاستغفار والانابة إلى الله في سائر أحوالنا وكل ظروفنا، ولقد جاء في القرآن ما يدلُ صراحة على أن هذه الأمة، أفراداً ودول، إن لزمت التوبة والاستغفار حفظها الله من العذاب، ومن تسلط الأعداء، وبسطَ لها الأرزاق، ومتَّعها متاعاً حسناً في الحياة الدنيا؛ وذلك في قول الله -تعالى-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) [هود:3].

 

وهذه الآية الكريمة تدل على أن الاستغفار والتوبة إلى الله من الذنوب سبب لأن يمتع الله مَن فعل ذلك متاعاً حسَناً إلى أجل مسمى؛ لأنه رتَّب ذلك على الاستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه، والظاهر أنَّ المرادَ بالمتاع الحسَنِ: سَعَةُ الرزق، ورغدُ العيش، والعافية في الدنيا.

 

وجاء عن الحسن بن علي أنه وفد على معاوية -رضي الله عنهم- فقال له بعض حُجَّابه: إني رجل ذو مال ولا يولد لي، علمني شيئاً لعل الله يرزقني ولداً، فقال الحسن: عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحدٍ سبعمائة مرة، فولد له عشرون، فبلغ ذلك معاوية -رضي الله عنه- فقال: هلاَّ سألته مم قال ذلك؟ فسأله الرجل، فقال: ألم تسمع قول هود -عليه السلام-: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود:52] ، وقول نوح -عليه السلام-: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) [نوح:12].

 

 لما كان الإمام أحمد بن حنبل في سفر وأراد أن يبيت ليلته في مسجد في قرية من القرى، ولكن الحارس منعه. حاول معه الإمام ولكن لا جدوى، فقال له الإمام: سأنام موضع قدمي، وبالفعل نام الإمام أحمد بن حنبل مكان موضع قدميه، فقام حارس المسجد بجرّه لإبعاده من مكان المسجد، وكان الإمام أحمد بن حنبل شيخاً وقوراً تبدو عليه ملامح الكبر، فلما رآه خباز يُجرّ بهذه الهيئة عرض عليه المبيت، وذهب الإمام أحمد بن حنبل مع الخباز، فأكرمه وأحسن إليه، وذهب الخباز لتحضير عجينه لعمل الخبز، ولما سمع الإمام أحمد، الخباز يداوم على الاستغفار، عجب له.

 

فلما أصبحا سأله الإمام عن استغفاره في الليل، فأجابه الخباز: أنه دائم الاستغفار، فسأله الإمام أحمد: وهل وجدت لاستغفارك ثمرة؟

فقال الخباز: نعم، والله ما دعوت دعوة إلا أُجيبت، إلا دعوة واحدة.

فقال الإمام أحمد: وما هي؟

فقال الخباز: رؤية الإمام أحمد بن حنبل.

فقال الإمام أحمد: أنا أحمد بن حنبل، قد جرني الله إليك جراً.. !!

 

وهذا شيخ الإسلام ابن تيميَّة كما يقول تلميذه ابن القيِّم - رحمه الله -: "وشَهِدتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيميَّة - رحمه الله - إذا أعيَته المسائل واستعصَتْ عليه، فَرَّ منها إلى التوبة والاستغفار والاستعانة بالله واللجوء إليه، واستِنزال الصوابِ من عنده، والاستفتاح من خَزائن رحمته، فقلَّما يلبَثُ المددُ الإلهي أنْ يَتتابَع عليه مَدًّا، وتَزدلِف الفتوحات الإلهيَّة إليه، بأيَّتهنَّ يبدأ" (إعلام الموقعين: 4/ 172).

 

قال ابن القيم - رحمه الله -: "إنَّ إبليس قال: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبـ"لا إله إلا الله"، فلمَّا رأيتُ ذلك بثَثْت فيهم الأهواء، فهم يُذنِبون ولا يتوبون؛ لأنَّهم يحسَبُون أنهم يُحسِنون صنعًا" (مفتاح دار السعادة: 1/158).

 

جاء في الحديث الذي أخرَجَه أحمد وحسَّنه شعيب الأرنؤوط: عن أبي سعيد الخدري - رضِي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: "إنَّ إبليس قال لربِّه: بعِزَّتك وجَلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامَت الأرواح فيهم، فقال الله: فبعزَّتي وجَلالي لا أبرَحُ أغفر لهم ما استغفَرُوني".

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: إن الاستغفار سبب لرفع العذاب، سواء كان العذاب سماوياً كحبس الأمطار، وقلة الأرزاق، الذي ينتج عنه ما ينتج من الفقر والجوع والضعف، وغيرها من المحن والفتن، أو يكون العذاب من قبيل تسلط الأعداء على المسلمين، أو تسليط المسلمين بعضهم على بعض باختلاف كلِمتهم، وتشعُّب آرائهم، الذي ينتج عنه التفرق، ثم الاقتتال، نسأل الله العافية والسلامة.

 

فالاستغفار يرفع ذلك كله، وهو أمان للعباد من كل أنواع الفتن والعذاب، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقاً على قول الله -عز وجل-: (وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33]: والكلام عليها من وجهين:

أحدهما: في الاستغفار الدافع للعذاب، والثاني: في العذاب المدفوع بالاستغفار.

أما الأول: فإن العذاب إنما يكون على الذنوب، والاستغفار يوجب مغفرة الذنوب التي هي سبب العذاب فيندفع العذاب... وأما العذاب المدفوع فهو يعم العذاب السماوي، ويعم ما يكون من العباد، وذلك أن الجميع قد سماه الله –تعالى- عذاباً؛ كما قال تعالى في النوع الثاني: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) [البقرة:49].

 

وإذا كان كذلك فقوله تعالى: (قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام:65]، مع ما ثبت عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لما نزل قوله -عز وجل-: (قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعوذ بوجهك!"، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)، قال: "أعوذ بوجهك!"، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)، قال: "هذا أيسر" (رواه البخاري).

 

ويقتضي أن لبسنا شيعاً وإذاقة بعضنا بأس بعض هو من العذاب الذي يندفع بالاستغفار؛ كما قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25]، وإنما تُنفَى الفتنة بالاستغفار من الذنوب، والعمل الصالح، اهـ ملخصاً من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-.

 

استغفروا ربكم يا قوم وأنيبوا إليه، وأكثروا من الاستغفار ليلاً ونهارًا، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم تفلحوا في دينكم ودنياكم وآخرتكم، وتستقبلوا شهر رمضان بنفوس طيبة وقلوب نقية وأعمال مغفورة.. حفظكم الله ورعاكم وسدد خطاكم وسائر المسلمين في كل مكان.

 

ثم اعلموا أن الله -تبارك وتعالى- قال قولاً كريماً تنبيهاً لكم وتعليماً وتشريفاً لقدر نبيه وتعظيماً: (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية الصحابة والقرابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

المرفقات

ربكم يا قوم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات