عناصر الخطبة
1/المنهج الشرعي في الترغيب للعمل الصالح 2/نماذج من الأعمال الصالحة وثوابها 3/آثار استحضار ثواب القرباتاقتباس
إذا استحضر المؤمن الثواب الذي أعده الله لأهل طاعته، وعلم الأجر المترتب على بعض الأعمال الصالحة بعينها؛ أثمر ذلك أموراً منها: المسارعة إلى الطاعات والمنافسة عليها: وقد حثت الشريعة على المبادرة إلى الطاعات...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: خلق الله -تعالى- الخلق لعبادته، وأوجب عليهم تقواه والاشتغال بطاعته، وامتحاناً منه -عز وجل- لهم سلط عليهم من نفوسهم الأمارة بالسوء، ومن شياطين الجن والإنس؛ ما يزين لهم المخالفة ويدعوهم إليها، وحف سبحانه طاعته بالمكاره، ومخالفة أمره بالشهوات؛ ليرى -تعالى- من يُقبل عليه بإرادة واختيار، ومن يلهو في بحار الشهوات ويسرح في أودية الملذات؛ فينسى نفسه والغاية من خلقه .
وأمام ذلك فلا بد لمريد النجاة من وسائل معينة تثبته على الطاعة والخير؛ ألا وإن مما يعين العبد على الطاعة استحضار ثوابها؛ إذ جبلت النفوس على حب الثواب والسعي لنيله، ومهابة العقاب والحذر منه؛ ولذا فإن استحضار ثواب القربات من آكد دواعي لزوم الطاعة والاجتهاد فيها.
أيها المؤمنون: والمتأمل في النصوص الشرعية يرى أن الترغيب إلى الأعمال الصالحة هو أحد الموضوعات الرئيسة التي اشتملت عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقد جاء بيان ثواب الطاعات من خلال طريقين:
أولاً: ثوابٌ مطلق غير مقيد، ومن ذلك قوله -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[النساء:13]، وقوله -سبحانه-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)[النساء: 57]، وفي البخاري عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه، أضمن له الجنة"(أخرجه البخاري).
ثانياً: ثواب مقيد بأعمال صالحة مخصوصة، ومترتب على طاعات بعينها، ومن ذلك قوله -تعالى-: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة: 119]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة"(رواه البخاري).
وكلاهما له أثره في تحفيز النفس على الاستكثار من القربات، وبذل الجهد في عمل الآخرة؛ فإن النفس متى علمت بأن الله -تعالى- مثيبُها على الطاعات بجنة فيها "مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"؛ ولَّد ذلك داخلها رغبة صادقة في أن تظفر بذلك النعيم، وسعت لذلك سعياً حثيثاً؛ رجاء ما عند الله -تعالى- مما أعده لأهل طاعته؛ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة:17].
عباد الله: لقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يرغب أصحابه في الطاعة ببيان ثوابها؛ وهاكم جملةً من الأحاديث النبوية في ذلك:
قَالَ رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "من تَوَضَّأ فَأحْسن وضوءه، ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين؛ فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية يدخلهَا من أَيهَا شَاءَ"(رَوَاهُ مُسلم).
وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟"، قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِه، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ؛ فذَلِكُمْ الرِّبَاطُ؛ فذَلِكُمْ الرِّبَاطُ"(رواه مسلم).
وقَالَ رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "من صلى عَليّ صَلَاة وَاحِدَة؛ صلى الله عَلَيْهِ عشر صلوَات، وحطت عَنهُ عشر خطيئات، وَرفعت لَهُ عشر دَرَجَات"(رَوَاهُ النَّسَائِيّ وصححه الألباني).
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، ومن تبعه، وبعد:
أيها الأحبة: إذا استحضر المؤمن الثواب الذي أعده الله لأهل طاعته، وعلم الأجر المترتب على بعض الأعمال الصالحة بعينها؛ أثمر ذلك أموراً منها:
المسارعة إلى الطاعات والمنافسة عليها؛ فقد حثت الشريعة على المبادرة إلى الطاعات، قال -تعالى-: (فَاسْتَبِقُوا الْـخَيْرَاتِ)[البقرة:148]، وقال -سبحانه-: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين:26].
وقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستحث همم أصحابه للمسارعة والمنافسة في الخير؛ بذكر ثواب العمل؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ، قَالَ: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ"، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا، فَقَالَ: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ"، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ (رواه مسلم)، رهقوه أَي: غشوه وقربوا مِنْهُ.
وعن أنس -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لفلان نخلة وأنا أقيم حائطي بها؛ فَأْمُره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعطها إياه بنخلة في الجنة"، فأبى! فأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي؛ ففعل، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي؛ فاجعلها له فقد أعطيتكها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة" قالها مرارا (رواه أحمد وغيره). والْعِذْقُ هُنَا بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهُوَ: الْغُصْنُ مِنَ النَّخْلَةِ، والرَّدَاح: الثقيل بِحمْلِهِ.
ومن الثمرات: المداومة على العمل الصالح؛ فمن استحضر ثواب العمل داوم على فعله، عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "أدومه وإن قلَّ"(رواه مسلم)، وقد كان هذا هديه -عليه الصلاة والسلام-؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-: "أن عمله -صلى الله عليه وسلم- كان دِيمة"(رواه البخاري)، و "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا عمل عملاً أثبته"(رواه مسلم).
وهكذا كان السلف الصالح في المداومة على الطاعة، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ، فِي مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، بِحَدِيثٍ يَتَسَارُّ إِلَيْهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ حَبِيبَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ صلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ بُنِىَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّة"، قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَقَالَ عَمْرو بن أَوْسٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ (رواه مسلم).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ"(رواه النسائي وصححه الألباني)، قال ابن القيم: "وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية أنَّه قال: ما تركتها عقيب كلِّ صلاة".
ومن ذلك: إدراك مراتب الأعمال؛ فقد فاضَــلَ اللـه -تعالى- بـين الأعمـال الصـالحـة في الثواب والأجر كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(رواه مسلم)، ومن حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قـال: قلــت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على ميقاتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"(رواه البخاري).
فإذا علم المؤمن أن الأعمال الصالحة تتفاضل ويختلف ثوابها -تارةً لشرف زمانها، أو منزلة مكانها- تخيَّر من العمل الصالح ما كان ثوابه أعظم؛ فالصدقة في رمضان خير منها في غيره، والصلاة في المساجد الثلاثة أفضل من الصلاة في غيرها، وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد وهكذا.
ومن ثمارها: الصبر على الطاعة؛ فالنفس بطبعها تحب الركون إلى الراحة والخمول والكسل، يقول ابن القيم: "المصالح والخيرات واللذَّات والكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسر من التعب، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرَك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة؛ فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، وإذا تحمَّل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة".
ومن هنا فمن يدرك ثواب الطاعة يصبر على مشقتها؛ لأنه يعلم أن المشقة زائلة، ولكن ما يترتب على هذه الطاعة من أجر وثواب هو الباقي له، قال –تعالى-: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[القصص:60].
أيها المسلم: قلَّ أن تجد حديثاً نبوياً يحث فيه النبي -عليه الصلاة والسلام- على طاعة وقربة؛ إلا ويقرنها بثوابٍ عليها؛ فعلى العبد متى أراد فعل العمل الصالح أن يستحضر الثواب المترتب عليه؛ ليكون ذلك عوناً له في أدائه، والمسارعة إليه.
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم