عناصر الخطبة
1/حديث الرؤيا وما فيه من توجيهات وعظات 2/لإسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد ثواب عظيم 3/ثواب الجلوس في المساجد وانتظار الصلاةاقتباس
وأكثر ما يكون الوضوء مكفِّرًا حين يترتب عليه إسباغٌ على المكروهات، إما في حال بردٍ لاسع، أو حرّ لاذع، أو مشقة وعناء، وتلك أحوال لا يسعى للإسباغ فيها إلا المحبون لربهم، المشتاقون للقائه، فنالوا بذلك غفران الذنوب.
الخطبة الأولى:
مجلسٌ آخر من مجالس الحكمة، وحديث من أحاديث المصطفى -عليه السلام-، فيه الهدى والنور، وفي تأمله التُّقَى والإيمان، وكل أحاديثه كذلك.
حديث اليوم فيه خبر أعظم رؤيا قصها المصطفى -عليه السلام-؛ لأنه رأى فيها ربه -عز وجل-، فما خبرُ هذه الرؤيا؟
حدّث معاذ بن جبل ط قال: احتبس عنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ غداةٍ من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عينَ الشمس، فخرج سريعًا فثوَّب بالصلاة، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتجوَّز في صلاته، فلما سلَّم دعا بصوته فقال لنا: "على مصافِّكم كما أنتم" ثم انفتل إلينا فقال: "أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداةَ: إني قمتُ من الليل فتوضأتُ فصلّيتُ ما قُدِّرَ لي فنعستُ في صلاتي فاستثقلتُ، فإذا أنا بربي -تبارك وتعالى- في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت: لبيكَ ربِّ، قال: فِيمَ يختصمُ الملأُ الأعلى؟ قلتُ: لا أدري ربِّ، قالها ثلاثا"، قال: "فرأيتُه وضعَ كفَّه بين كتفي حتى وجدتُ بَرْدَ أنامِلِه بين ثدييّ، فتجلَّى لي كلُّ شيء وعرفتُ، فقال: يا محمد، قلتُ: لبيكَ ربِّ، قال: فِيمَ يختصمُ الملأُ الأعلى؟ قلتُ: في الكفاراتِ، قال: ما هُنَّ؟ قلتُ: مشيُ الأقدامِ إلى الجماعات، أو الجُمُعَات، والجلوسُ في المساجد بعد الصلوات، وإسباغُ الوضوء في المكروهات، قال: ثم فيم؟ قلتُ: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام. قال: سَلْ، قلتُ: اللهم إني أسألكَ فعلَ الخيراتِ، وتركَ المنكراتِ، وحبَّ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردتَ فتنةً في قوم فتوفَّني غيرَ مفتون، وأسألك حبكَ وحبَّ مَنْ يحبك، وحبَّ عمل يقرِّب إلى حبك"، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنها حق فادرسوها ثم تعلموها".
لله ما أعظمَ هذا الحديثَ، الملأ الأعلى وهم المقرَّبُون من الملائكة يختصمون فيما بينهم، ويتراجعون القولَ في الأعمال التي تقرِّب بني آدم إلى الله -عز وجل- وتكفَّرُ بها عنهم خطاياهم، هؤلاء الملائكة وَرَدَ في القرآن أنهم يستغفرون للذين آمنوا ويدعون لهم، يقولون: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)[غَافِرٍ: 7].
هنا اختصموا في أي شيء يُكَفِّرُ الذنوبَ، ويمحو السيئاتِ، وتالله ما أحوَجَنا لمعرفة هذه الخصال، سيما ونحن قد نُذنب ونعصي، ونزلّ ونخطئ، ونحن إلى غفران ربنا طامحون، وبعفوه مؤملون.
هذه الكفارات ذكرها الملأ الأعلى، وهم أقرب من غيرهم للرب -جل وعلا-، وأعرف بما يمحو وما يغفر.
أولها: إسباغ الوضوء في الكريهات، الوضوء، تلكم القطرات من الماء تريقها على بدنك، في كل يوم مرات، لها المفعول العجيب، والأثر الغريب، إنها تطهِّر ظاهرَ البدن بالماء، وتطهر باطنه من الذنوب.
في الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهَه خرَج من وجهه كلُّ خطيئة نظَر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخِر قطرِ الماءِ، فإذا غسَل يديه خرَج من يديه كلُّ خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخِر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخِر قطرِ الماء حتى يخرج نقيًّا من الذنوب"، فلله ما أعظَمَه من فضل، فهل نستشعر هذا ونحن نتوضأ.
بالوضوء تُحَطُّ السيئاتِ، بالوضوء نتهيأ للصلوات، بالوضوء ننظِّف أبدانَنا قبل لقاء رب البريات.
وأكثر ما يكون الوضوء مكفِّرًا حين يترتب عليه إسباغٌ على المكروهات، إما في حال بردٍ لاسع، أو حرّ لاذع، أو مشقة وعناء، وتلك أحوال لا يسعى للإسباغ فيها إلا المحبون لربهم، المشتاقون للقائه، فنالوا بذلك غفران الذنوب.
ولا عجب -عباد الله- أن يكون للوضوء هذه المنزلةَ المنيفة؛ لأن ديننا دينُ نظافة، فالوضوء شطر الإيمان، وهو مفتاح الصلاة، ومن أدَّاه على مراد رسول الله -عليه السلام- فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، ألا فطوبى لمن أكثر من عبادةٍ لا تستغرق منه إلا دقيقةً، فنال في مقابلها غفران الذنوب، والقرب من علام الغيوب.
يا كرام: وثاني المكفِّرات، المشيُ على الأقدامِ إلى الجماعات وإلى الجمعات، تلك الخطوات حين تتحرك لبيوت الله، كم لها عند ربها من ثواب، يخرج المرء من بيته، وقد تطهر واتجه صوبَ بيت ربه، فأي مكان أشرف من ذلك المكان، أي مكان أعظم من ذلك المكان "مَنْ تطهَّر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضيَ فريضةً من فرائض الله، كانت خطوتاه: إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة".
لذا لا عجب أن يقول نبينا -عليه السلام-: "إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة: أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم".
هناك حيث يفرح اللهُ بقدوم عبده؛ لأنه ما حضر إلا وفي قلبه رغبةٌ فيما عنده، وفي الحديث عند ابن ماجه بسند صحيح "مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ إِلَّا تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ، كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ".
هذا في كل صلاة، بَعُدَ المسجدُ أو قَرُبَ، ومع هذا فالأرض تشهد، والملائكة تكتب، وفي التنزيل: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)[يس: 12]، أي: خطواتهم، فليهنك الفضلَ يا مَنْ سمعتَ النداءَ فاتجهتَ صوب المسجد، تاركًا وراءَكَ كلَّ شغل، وكل مسؤولية وعمل؛ لأن النداء حان، واللقاءَ بالله جلّ جلاله قد آن، فليُتْرَكْ كلُّ شيء لأجل الله، لسانُ الحال، كل شغل يقف، فالآن شغلٌ بالله ولله لا غير، لتقف كلُّ الحياة، لتقف الأعمال، لتغلق المحالّ، فالآن حان وقتُ الصلاة، وهل نُريد الرزقَ إلا منه، وهل نطلب الربحَ إلا منه، فالعارفون تتجه أقدامُهم صوبَ المسجد عند سماع النداء، قال أبو داود في سننه: قال أبو داود: "كان إبراهيم الصائغ رجلًا صالحًا، إذا رفع المطرقة -وهو نجار- فسمع النداء سيّبها"، أي: من ورائه، ولم يتمم الطرق، واتجه صوب المسجد.
يا كرام: وكلما كان المشي للصلاة أكثرَ مشقةً، كلما زاد ربنا الثواب، ولذا فللفجر والعِشَاء من الثواب ما ليس لغيرها؛ لأنها في وقت الراحة، "مَنْ صلَّى العِشَاءَ في جماعة فكأنما قام نصفَ الليلِ، وَمَنْ صلَّى الصبحَ في جماعة فكأنما صلَّى الليلَ كلَّه"، "أثقلُ صلاةٍ على المنافقين: صلاةُ العِشَاءِ وصلاةُ الفجرِ، ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حَبْوًا"، "بَشِّر المشَّائينَ في الظُّلَم إلى المساجدِ بالنُّورِ التّام يومَ القيامة"؛ لأنه خرَج في ظلمة الليل لبيت ربه، أكرمه اللهُ بالنور التامّ يومَ يلتمس الناسُ النورَ يومَ القيامةِ، جزاءً مِنْ ربكَ حين ترك لذيذَ فراشِه وقام للصلاة.
كل هذه الخيرات -يا كرام- تفوت مَنْ صلَّى في بيته، وهيهات أن يصل إلى أَجْر مَنْ صلَّى في المسجد، ويكفيك في فضله أن صلاته أفضل من صلاة المرء في بيته سبعًا وعشرين مرة، لا سواء، ولكنه توفيقُ ربِّ الأرضِ والسماءِ.
أما صلاة الجمعة: فالمشي لها له شأن آخَر، وفضلٌ يا رِبحَ مَنْ وفِّق له، وقبلَ أن أذكره سَلِ النَّفْسَ كم خطوةً بين بيتك وبين مسجد الجمعة، مائة خطوة، ألف، ربما أكثر، اسمع إلى هذا الفضل الذي لم يرد مِثلُه في أحاديث الفضائل كلها، (روى أبو داود بسندٍ صححه أهل العلم) عن أوس بن أوس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ غَسَّلَ يومَ الجمعةِ واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عملُ سنةٍ، أجرُ صيامها وقيامها".
قالوا للشيخ الألباني -رحمه الله-: "الحديث صحيح؟ قال: نعم، ولكن مَنْ يوفَّق له"، وصدق واللهِ، مَنْ يوفق للتبكير بعد الاغتسال، والمشي لا الركوب، والدنو للإمام، والإنصات وعدم اللغو، فهنيئًا لمن أدرك هذا الفضل كلَّ جمعة، وفضلُ ربِّنا واسعٌ، اللهم صل على محمد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده...
وثالث الكفارات التي ذكرها الملأ الأعلى، "الجلوس في المساجد بعد الصلوات"، حين تؤدي الصلاة، يجذبك للخارج جواذبُ كثيرةٌ، البيتُ، التجارةُ، الدنيا كلُّها، لكنَّ ذلك الذي نبذ كل هذا وراءه، ولزم بيتَ ربه، بقي فيه والناس يخرجون، إما تاليًا أو مصليًا أو ذاكرًا، تكفَّرُ بتلك الدقائق -يمضيها في بيت الله- سيئاتُه، بل ويباهي اللهُ به ملائكتَه.
في الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: صليتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المغربَ، فرجع مَنْ رجع، وعقَّب من عقب، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسرعًا قد حَفَزه النَّفَسُ، وقد حسر عن ركبته فقال: "أبشروا! هذا ربكم قد فتح عليكم بابًا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكةَ، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضةً وهم ينتظرون أخرى".
هنيئًا لأولئك القوم الذين لزموا المساجدَ، ففي المساجد تَحُلُّ السكينةُ، وتهبط الملائكة، في المساجد تطهر النفوس وتزكو، ويجد المؤمن راحتَه؛ فحين تنغلق أبواب الخَلْق، يجد في بيت الله الملاذَ والطريقَ لمناجاة الملك -سبحانه-، فلا باب يُوصَد، ولا حاجب يمنع، بل رب كريم يجيب الدعاء ويكشف البلاء.
هنيئًا لقوم عمروا المساجد فهي أطهر بقعة في الأرض، وأحب مكان لله، فيه تطمئن النفوسُ، وفي رحابه تتعلق القلوب، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من الذين يظلهم الله في ظله: "رجل قلبه معلَّق بالمساجد".
يا مؤمن: تريد الغنى، تريد الاستثمار الباقي، تريد التجارة الحقة، دونَكَ بيتَ الله، في الحديث: "لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحبّ إليَّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليَّ من أن أعتق أربعة"، لكن هذا يا كرام لا يكون لمن عمروا المساجد بأبدانهم، في حين أن قلوبهم تطوِّف في الدنيا، يتخذون المسجد لحديث البيع والشراء، أو لأمور الدنيا، بل لمن بقوا ذاكرين تالين متفكرين.
رأى أبو الدرداء رجلًا يقول لصاحبه في المسجد: "اشتريتُ وسقَ حطبٍ بكذا وكذا"، فقال أبو الدرداء: "إن المساجد لا تعمر لهذا"، وقال الحسن: "يأتي على الناس زمانٌ لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم، فليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم".
وبعدُ، فلا زال في حديثنا بقية، وخصالٌ تستحق الحديثَ، وهذا ما نتحدث عنه في الجمعة القادمة -إن شاء الله-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم