اجتنبوا أربعا

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ حلاوة الثواب دافعة للإذعان والقبول 2/ الأمر باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام 3/ الحكمة من الجمع بين هذه الأربع 4/ استهانة الكثيرين بالخمر والمخدرات 5/ وجوب التوبة الفورية عن كل ما سبق

اقتباس

فِي آيَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ أُمِرْنَا بِاجْتِنَابِهَا؛ لِفَسَادِهَا وَرِجْسِهَا وَإِثْمِهَا، فَهِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ قَدْ أَفْرَغَ وُسْعَهُ وَجُهْدَهُ لِإِغْوَاءِ بَنِي آدَمَ وَإِفْسَادِهِمْ، وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَيَقْضِي حَيَاتَهُ كُلَّهَا لِهَذِهِ الْغَايَةِ دُونَ غَيْرِهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، الْقَدِيرِ الرَّحِيمِ؛ أَبَاحَ لِعِبَادِهِ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبِيثَاتِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَرِعَايَةً لِمَصَالِحهِمْ، وَتَحْقِيقًا لِمَنَافِعِهِمْ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا وَاصْطَفَانَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَوْلَانَا وَأَعْطَانَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ شَهَادَةً لَنْ يُحَقِّقَهَا عَبْدٌ حَتَّى يُقِرَّ وَيُذْعِنَ بِأَنَّ الْحُكْمَ للهِ تَعَالَى، وَأَنَّ التَّشْرِيعَ حَقٌّ لَهُ سُبْحَانَهُ اقْتَضَتْهُ رُبُوبِيَّتُهُ، وَأَنَّ الْتِزَامَ شَرْعِهِ إِذْعَانٌ لِأُلُوهِيَّتِهِ، وَأَنَّ رَفْضَ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ خُرُوجٌ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لَنْ يُؤْمِنَ عَبْدٌ بِرِسَالَتِهِ حَتَّى يُصَدِّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَيَجْتَنِبَ مَا عَنْهُ زَجَرَ، فَذَلِكَ الَّذِي آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَلَّمُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ لِإِتْيَانِهِ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ لِاجْتِنَابِهِ، وَمَا خَصَّكُمْ بِهِ لِشُكْرِهِ وَالْإِقْرَارِ بِآلَائِهِ؛ فَإِنَّ نِعْمَهُ سُبْحَانَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ نُحْصِيَهَا، وَهِيَ نِعَمٌ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَنِعَمٌ فِي التَّشْرِيعِ وَالْأَحْكَامِ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَمَرَنَا بِهِ فَفِعْلُهُ نِعْمَةٌ وَإِنْ بَدَا لَنَا أَنَّهُ ثَقِيلٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ نَهَانَا عَنْهُ فَتَرْكُهُ نِعْمَةٌ وَإِنْ أَحْسَسْنَا أَنَّ تَرْكَهُ عَسِيرٌ، وَمَنْ نَظَرَ بِهَذَا المِنْظَارِ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَجِدْ ثِقَلًا فِي الِامْتِثَالِ، وَلَا عُسْرًا فِي الِاسْتِجَابَةِ.

 

وَحَلَاوَةُ الثَّوَابِ تَدْفَعُ المُؤْمِنَ إِلَى الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ، وَتُزِيلُ مِنْ قَلْبِهِ آفَةَ التَّمَرُّدِ وَالطُّغْيَانِ: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ) [المائدة: 92].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: فِي آيَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ أُمِرْنَا بِاجْتِنَابِهَا؛ لِفَسَادِهَا وَرِجْسِهَا وَإِثْمِهَا، فَهِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ قَدْ أَفْرَغَ وُسْعَهُ وَجُهْدَهُ لِإِغْوَاءِ بَنِي آدَمَ وَإِفْسَادِهِمْ، وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَيَقْضِي حَيَاتَهُ كُلَّهَا لِهَذِهِ الْغَايَةِ دُونَ غَيْرِهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة:90-91].

 

وَالْخَمْرُ مَعْرُوفَةٌ، وَكُلُّ مَا أَسْكَرَ فَهُوَ خَمْرٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَامِرُ الْعَقْلَ وَيُغَطِّيهِ. وَالمَيْسِرُ يَشْمَلُ كُلَّ أَنْوَاعِ الْقِمَارِ، وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَهِيَ أَصْنَامٌ لَهُمْ يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا لِلتَّقَرُّبِ لِلْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَلِذَا جَاءَ فِي آيَةِ المَائِدَةِ فِي المُحَرَّمَاتِ مِنَ المَآكِلِ: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، حَتَّى نُهِيَ فِي السُّنَّةِ عَنِ الذَّبْحِ فِي مَكَانٍ كَانَ فِيهِ صَنَمٌ أَوْ نصَبٌ أَوْ كَانَ عِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانَ يُذْبَحُ للهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ لِئَلَّا يُشَابِهَهُمْ فِي مَكَانِ الذَّبْحِ.

 

وَأَمَّا الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ فَهُوَ المُقَامَرَةُ عَلَى أَجْزَاءِ جَزُورٍ يَنْحَرُونَهُ وَيَتَقَامَرُونَ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَأَيْضًا كَانَ أَحَدُهُمْ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ مَا قُسِمَ لَهُ مِمَّا لَمْ يُقْسَمْ لَهُ.

 

وَأَشْهَرُ صُوَرِ الِاسْتِقْسَامِ: ثَلَاثَةُ قِدَاحٍ: أَحَدُهَا مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: "أَمَرَنِي رَبِّي"، وَيُسَمُّونَهُ الْآمِرَ. وَالْآخَرُ: مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: "نَهَانِي رَبِّي" وَيُسَمُّونَهُ النَّاهِيَ. وَالثَّالِثُ: غُفْلٌ، أَيْ: مَتْرُوكٌ دُون كِتَابَةٍ. فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ سَفَرًا أَوْ عَمَلًا لَا يَدْرِي أَيَكُونُ نَافِعًا أَمْ ضَارًّا، ذَهَبَ إِلَى سَادِنِ صَنَمِهِمْ فَأَجَالَ الْأَزْلَامَ، فَإِذَا خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ كِتَابَةٌ، فَعَلُوا مَا رُسِمَ لَهُمْ، وَإِذَا خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادُوا الْإِجَالَةَ.

 

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْكَفِّ وَالْفِنْجَانِ، وَالتَّنْجِيمُ، وَالْعِرَافَةُ، وَعَمَلُ الْكُهَّانِ؛ فَالْجَامِعُ بَيْنَهَا ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى.

 

فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَأْمُرُ بِاجْتِنَابِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءٍ، اثْنَانِ مِنْهَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَهِيَ الْخَمْرُ وَالْقِمَارُ، وَاثْنَانِ مِنْهَا شِرْكٌ وَهِيَ الْأَنْصَابُ وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ. فَمَا عَلَاقَةُ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ بِالشِّرْكِ؟!

 

إِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِي جَمْعِهَا لِهَذِهِ المُحَرَّمَاتِ الْأَرْبَعَةِ، وَجَمَعَ مَعَهَا النُّصُوصَ الْأُخْرَى فِي الْبَابِ نَفْسِهِ، وَأَسْقَطَ الْجَمِيعَ عَلَى وَاقِعِ النَّاسِ يَجِدُ أَنَّ ثَمَّةَ ارْتَبَاطًا بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي أُمِرَ بِاجْتِنَابِهَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مُدْمِنُ الخَمْرِ، كَعَابِدِ وَثَنٍ"، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "مَا أُبَالِي شَرِبْتُ الْخَمْرَ أَوْ عَبَدْتُ هَذِهِ السَّارِيَةَ مِنْ دُونِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-".

 

وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَبِي مُوسَى يَعْنِي: أَنَّهُ يَعْدِلُ شُرْبَ الْخَمْرِ بِالشِّرْكِ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيُحْمَلُ عَلَى مَنْ شَرِبَهَا مُسْتَحِلًّا لَهَا، أَوْ أَنَّ مُرَادَ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْخَمْرَ تَجُرُّ إِلَى الشِّرْكِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ، فَصَارَتْ فِي دَرَجَتِهِ فِي نَظَرِ المُؤْمِنِ. وَلَعَنَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- شَارِبَهَا، وَنَفَى عَنْ شَارِبِهَا الْإِيمَانَ، وَقَالَ فِيهَا: "هَذَا شَرَابُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَشَارِبُهَا مُتَوَعَّدٌ بِرَدِّ صَلَاتِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.

 

إِنَّ الْخَمْرَ تُذْهِبُ الْعَقْلَ، وَإِذَا ذَهَبَ عَقْلُ الْإِنْسَانِ فَقَدْ يَذْهَبُ دِينُهُ وَأَهْلُهُ وَمَالُهُ وَنَفْسُهُ:

 

أَمَّا ذَهَابُ دِينِهِ؛ فَبِكِلَامٍ يَفُوهُ بِهِ وَهُوَ سَكْرَانُ يَكُونُ كُفْرًا، وَقَدْ يَسْتَحِلُّهَا لِإِدْمَانِهِ عَلَيْهَا، وَاسْتِحْلَالُ المُحَرَّمِ كُفْرٌ.

 

وَأَمَّا ذَهَابُ الْأَهْلِ؛ فَكَثِيرٌ مِنْ قَضَايَا الطَّلَاقِ الَّتِي تُعَالَجُ فِي المَحَاكِمِ قَدْ طَلَّقَ فِيهَا سَكْرَانُ زَوْجَتَهُ، أَوْ زَوْجَةٌ تَطْلُبُ الْخُلْعَ بِسَبَبِ خَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا وَبَنَاتِهَا مِنْ زَوْجِهَا إِذَا شَرِبَ.

 

وَأَمَّا ذَهَابُ مَالِهِ؛ فَالْخَمْرُ يَقْتَرِنُ غَالِبًا بِالْقِمَارِ، وَأَشْعَارُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تَذْكُرُ الْخَمْرَ إِلَّا وَالمَيْسِرُ مَعَهَا فِي الْغَالِبِ، وَكَانَ السُّكَارَى مِنْهُمْ يُقَامِرُونَ. وَفِي عَصْرِنَا هَذَا لَا تَخْلُو صَالَاتُ الْقِمَارِ مِنَ الْخُمُورِ، حَتَّى لَكَأَنَّ الْخَمْرَ وَالْقِمَارَ قَرِينَانِ. وَقَدْ قُرِنَ بَيْنَهُمَا فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [البقرة: 219].

 

وَقَرَنَ بَيْنَهُمَا النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيَّ، أَوْ حُرِّمَ الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالْكُوبَةُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالْكُوبَةُ هِيَ الطَّبْلُ، وَفِي مَعْنَاهَا كُلُّ آلَاتِ المُوسِيقَى.

 

وَأَمَّا ذَهَابُ نَفْسِهِ؛ فَأَضْرَارُ الْخَمْرِ يَعْرِفُهَا الْقَاصِي وَالدَّانِي، وَالدِّرَاسَاتُ الصِّحِّيَّةُ عَنْ آثَارِهَا عَلَى أَبْدَانِ المُدْمِنِينَ تَغُصُّ بِهَا أَرْفُفُ المَكْتَبَاتِ، وَتَمْلَأُ فَضَاءَ الشَّبَكَةِ الْعَالَمِيَّةِ حَتَّى لَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ يُنْكِرُ أَضْرَارَ الْخَمْرِ؛ لِشُهْرَتِهِ وَتَنَوُّعِ مَصَادِرِهِ.

 

وَقَدْ يَشْرَبُ فَيَسْكَرُ فَيَتَشَاجَرُ مَعَ أَحَدٍ فَيَكُونُ مَقْتُولًا ذَهَبَتْ نَفْسُهُ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَبِئْسَ الْخَاتِمَةُ! أَوْ يَكُونُ قَاتِلًا فَيَسْتَوْجِبُ الْقَصَاصَ بِسَبَبِ كَأْسٍ. نَعُوذُ بِاللِه تَعَالَى مِنْ شُؤْمِ الْعَاقِبَةِ، وَسُوءِ الْخَاتِمَةِ.

 

إِنَّ الْخَمْرَ مُفْقِدٌ لِلْعَقْلِ، وَإِذَا ذَهَبَ الْعَقْلُ فَمِنَ المُحْتَمَلِ أَنْ يَفْقِدَ صَاحِبُهُ كُلَّ شَيْءٍ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْضَى أَنْ يُغَامِرَ بِكُلِّ شَيْءٍ فِي لَحْظَةِ سُكْرٍ يَظُنُّهَا أُنْسًا وَهِيَ شَقَاءٌ يَجُرُّهُ إِلَى شَقَاءٍ، وَلَا عَجَبَ أَنْ سُمِّيَتِ الْخَمْرُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ (أُمَّ الْخَبَائِثِ)؛ لِأَنَّهَا تَجُرُّ صَاحِبَهَا حَالَ سُكْرِهِ إِلَى كُلِّ قَوْلٍ خَبِيثٍ، وَإِلَى كُلِّ عَمَلٍ خَبِيثٍ.

 

وَصَاحِبُ الْقِمَارِ إِذَا لَعِبَهَا شَرِبَ الْخَمْرَ؛ فَإِنَّ الْكَبِيرَةَ تَقُودُهُ إِلَى أُخْرَى، وَالشَّيْطَانُ يُزَيِّنُهَا لَهُ؛ فَمَا دَامَ أَنَّهُ لَعِبَ الْقِمَارَ، وَأَكَلَ المَالَ الْحَرَامَ، فَمَا الَّذِي يَرْدَعُهُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ؟!

 

وَإِذَا خَسِرَ مَالَهُ فِي الْقِمَارِ هَرَبَ بِالْخَمْرِ مِنْ هَمِّهِ وَحُزْنِهِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَغِيبَ عَقْلُهُ؛ لِئَلَّا يَتَذَكَّرَ خَسَارَتَهُ. وَكَثِيرٌ مِنْ مُدْمِنِي الْخَمْرِ إِنَّمَا يَكْثُرُ شُرْبُهُمْ لَهَا عِنْدَ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَتَفَاقُمِ المُشْكِلَاتِ، فَيَهْرَبُونَ بِالْخَمْرِ مِنْ مُوَاجَهَةِ وَاقِعِهِمْ، وَلَنْ تُحَلَّ مَشَاكِلُهُمْ بِهُروبِهِمْ مِنْهَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُوَاجَهَتِهَا، وَتَحَمُّلِ آلَامِهَا، وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَرَجَاءِ أَجْرِهَا.

 

وَالْقِمَارُ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَآكِلُهَا بِالْبَاطِلِ مُتَوَعَّدٌ بِالنَّارِ، وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَعِبَ بالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغ يَدَهُ فِي لحْمِ خِنْزِيرٍ ودَمِهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

إِنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَ: الْخَمْرَ وَالمَيْسِرَ وَالْأَنْصَابَ وَالْأَزْلَامَ؛ تَصْرِفُ الْوَاقِعَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَنِ التَّعَلُّقِ بِاللهِ تَعَالَى، وَصِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ الَّتِي يُذْبَحُ فِيهَا لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَيُسْأَلُ غَيْرُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيَنْصَرِفُ الْقَلْبُ عَنِ اللهِ تَعَالَى إِلَى المَخْلُوقِ.

 

وَالْخَمْرُ تُغَيِّبُ الْعَقْلَ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ مَا دَامَ تَحْتَ وَطْأَةِ سُكْرِهَا، وَالْقِمَارُ طَلَبٌ لِلرِّزْقِ بِالْحَظِّ أَوِ الْحَذَاقَةِ فِي اللَّعِبِ أَوِ الْحِيلَةِ عَلَى الْخَصْمِ، وَأَكْلِ مَالِهِ بِالْبَاطِلِ، فَإِدْمَانُهُ وَالتَّكَسُّبُ بِهِ يُزِيلُ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِاللهِ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ الرِّزْقِ وَالْكَسْبِ.

 

وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَهَانَا عَنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ لِمَصْلَحَتِنَا، وَحِمَايَةً لَنَا، وَرَحْمَةً بِنَا، وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، وَوَعَدَ بِالْفَلَاحِ مَنِ اجْتَنَبَهَا: (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ لَنَا أَنَّهَا سَبَبٌ لِفَسَادِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، أَمَّا فَسَادُ الدُّنْيَا: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ)، وَأَمَّا فَسَادُ الدِّينِ: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ) [المائدة: 91].

 

فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ تَلَطَّخَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ أَنْ يُبَادِرَ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ المَوْتِ، فَبِئْسَ مِيتَةُ المُصِرِّ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 131- 132].

 

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: ابْتُلِيَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمُمَارَسَةِ الْقِمَارِ بِسَبَبِ الدِّعَايَةِ الْفَجَّةِ لَهُمَا، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْأَبْرَاجِ، وَقِرَاءَةِ الْكَفِّ، وَمَعْرِفَةِ الْحَظِّ، وَتَصْدِيقِ الْكُهَّانِ، غَزَا بُيُوتَ المُوَحِّدِينَ عَنْ طَرِيقِ الْفَضَائِيَّاتِ وَالشَّبَكَاتِ الْعَالَمِيَّةِ، وَصَارَ فِي بَعْضِ أَبْنَاءِ المُسْلِمِينَ وَبَنَاتِهِمْ تَعَلُّقٌ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَتَصْدِيقٌ لِلدَّجَّالِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُنْذِرُ بِخَطَرٍ عَظِيمٍ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ.

 

إِنَّ كَثِيرًا مِنْ شَارِبِي الْخُمُورِ، وَمُتَعاطِي المُخَدِّرَاتِ؛ قَدِ اسْتَهَانُوا بِهَا حَتَّى لَكَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَا أُمَّ الْخَبَائِثِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ: كَثْرَةُ تَهْرِيبِهَا وَتَصْنِيعِهَا وَبِكِمِّيَّاتٍ ضَخْمَةٍ جِدًّا، فَلَوْلَا وُجُودُ مَنْ يَشْرَبُ وَيَتَعاطَى لَكَسَدَتْ سُوقُهَا، وَاضْمَحَلَّ بَاعَتُهَا.

 

وَاللهُ تَعَالَى قَدْ سَتَرَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْخُمُورِ وَالمُخَدِّرَاتِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ سَتْرِهِ إِيَّاهُمْ عَنِ النَّاسِ، وَحَالُهُمْ مِمَّا يُسْتَحْيَا مِنْهُ وَمِمَّا يَقْدَحُ فِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ وَالمُرُوءَةِ.

 

وَمِنْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ: الْإِقْلَاعُ الْفَوْرِيُّ عَنْهَا، وَالْعِلَاجُ مِنْ إِدْمَانِهَا، وَإِتْلَافُ مَا بَقِيَ مِنْهَا، كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- حِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ أَفْرَغُوهَا مِنْ آنِيَتِهِمْ حَتَّى سَالَتْ بِهَا سِكَكُ المَدِينَةِ مِنْ كَثْرَتِهَا، وَمِنْ سُرْعَةِ امْتِثَالِهمْ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى سَكَبُوهَا وَهُمْ يَقُولُونَ: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا، انْتَهَيْنَا رَبَّنَا.. جَوَابًا للهِ تَعَالَى حِينَ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

 

فَلْيَنْتَهِ كُلُّ شَارِبٍ لِلْخَمْرِ، وَمُتَعَاطٍ لِلْمُخَدِّرَاتِ عَنْهَا، وَلْيَصْدُقْ فِي تَوْبَتِهِ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَلْيَخْشَ سُوءَ الْخَاتِمَةِ بِأَنْ تُخْتَمَ حَيَاتُهُ وَبَقَايَاهَا فِي فَمِهِ، وَقَدْ خَالَطَتْ دَمَهُ.

 

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَتُوبَ عَلَى كُلِّ مُدْمِنٍ وَمُدْمِنَةٍ، وَأَنْ يَأْخُذَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى مَا يُرْضِيهِ، وَأَنْ يُجَنِّبَهُمْ مَا يُسْخِطُهُ، وَأَنْ يَحْفَظَنَا وَأَوْلَادَنَا وَالمُسْلِمِينَ مِنْ تَضْيِيعِ وَاجِبَاتِهِ، وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ، وَتَعَدِّي حُدُودِهِ، وَمِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].

 

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ...

 

 

 

 

 

المرفقات

أربعا

أَرْبَعًا - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات