عناصر الخطبة
1/المسلم الحق هيِّن ليِّن 2/اجتناب المسلم الحق أذى الآخرين 3/مفهوم كف الأذى 4/خطورة اقتراف الأذى على الدين والدنيا 5/كف الأذى صدقةاقتباس
ألَا إنَّ الرابح مَنْ كفَّ لسانَه عن الغِيبة والنميمة، والهَمْز واللَّمز، وسلَّم يدَه من الأذى، وطهَّر قلبَه ونقَّاه من الغل والحسد، والتهويش والتشويش ورمي الآخَرين بما ليس فيهم، أو تتبُّع عوراتهم وزلاتهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله فاطر السموات والأرض، جاعل الملائكة رُسُلًا أُولي أجنحة، مثنى وثلاث ورباع، خلَق فسوَّى، وقدَّر فهَدَى، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شاء من شيء بعدُ، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجَدِّ منه الجدُّ، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، ذو المقام الرفيع، والخُلُق القويم، بلَّغ رسالةَ ربه، وأدَّى أمانته، وجاهَد في الله حقَّ جهاده، وترَكَنا على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلَّا هالكٌ، فصلواتُ ربي وسلامُه عليه، وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامينِ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فإن أحسنَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإنَّ يدَ الله مع الجماعة، ومَنْ شذَّ عنهم شذَّ في النار، ثم أوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، في سِرِّنا وجَهرِنا، وفِعلِنا وقَولِنا، وفيما نأخذ وما نذَرُ، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[الْقَمَرِ: 54-55].
عبادَ اللهِ: الخُلُق الرفيع سمةُ المسلم الهيِّن اللِّين، التقِيِّ النقيِّ، المسلم النافع، المسلم المسالِم، المسلم الذي لا غلَّ فيه ولا حسدَ، ولا أشرَ ولا بطرَ، المسلم الذي يحمل في قلبه حقَّ نفسه، وحقَّ الآخرين، المسلم الحصيف، الذي لا يغيب عن وعيه حاجتُه وحاجةُ مجتمعه إلى التوادِّ والتراحم، لا التشاحن والتنافر، المسلم اللبيب الذي يُحسن استحضارَ حرمة الآخَرين، والنأي بنفسه عن أن يطال أحدًا منهم بشرٍّ أو أذًى، ما قلَّ منه أو كَثُرَ، فإنَّ من حق المسلم على أخيه أن يكون سِلْمًا له، وعضوًا فاعِلًا في جسد الأمة الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالحُمَّى والسهر؛ إنَّه المسلم الذي يُدرِك أن المجتمعَ المتآلِف لا تخترمه المشكلاتُ، ما دام كلُّ فرد من أفراده كافًّا أذى لسانه ويده عن الآخرين؛ لأن الأذية ثقب في سفينة مجتمعه الماخرة، وأن تعدُّد الأذى بينهم فيها إنما هو تعدُّدٌ في الثقوب ولا شكَّ، وليس ثمة إلَّا غرقُ السفينة، ما من ذلك بدٌّ.
الأذى -عباد الله- كلُّ عمل أو قول من شأنه أن يُلحِق ضررًا بالغير، حسيًّا كان أو معنويًّا، وكلمة الأذى بهذا المعنى لفظة لا تحتمل إلَّا الذمَّ، لا غير؛ فهي لا حزن فيها بوجه من الوجوه؛ إذ لم يأت ذكرُها في كتاب الله، ولا في سُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلَّا مذمومةً مرذولةً، وهكذا في أقوال السلف الصالح، والحكماء ذوي الحجى، إنَّها كلمة تنفِر من لفظها طباعُ الأسوياء الأنقياء، فكيف بنتيجتها وأثرها إِذَنْ؟ وإنَّ فؤاد السويِّ لَيأبى أن يميل إلى الأذى؛ لأنَّه من طباع الأفاعي والعقارب، أعاذنا اللهُ وإياكم من ذلك.
ثم إنَّ مفهوم كفِّ الأذى -عبادَ اللهِ- أعمُّ من أن يكون منحصرًا في نفس مَنْ يصدُر منه الأذى وحسبُ، بل إنَّه لَيتَّسِع معناه ليعمَّ كلَّ مَنْ يستطيع كفَّ أذى الغير عن الناس، وإن كان بإزالة القذى عن الطريق، ففي الحديث الصحيح، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ"، وقد نصَّ بعضُ أهل العلم على أنَّه إذا كان هذا الفضل في إزالة الأذى عن الطريق فإنَّ إزالتَه عن القلوب أعظمُ فضلًا، وكما أن الأذى يكون بالقول أو الفعل فإنَّه كذلكم يكون بالامتناع عن القول أو الفعل، إذا كان فيهما إحقاق حق لأحد أو إبطال باطل؛ لِمَا (رواه البخاري)، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ".
إنَّه لا يمتهن الأذى إلَّا النفوسُ الصغيرةُ؛ لأنَّه لا تُتقن إلَّا إيقاعَه، وإنَّ أشجعَ الناس مَنْ كان جبانًا عن الأذى، وأجبن الناس من كان جريئًا عليه، وإنَّ المرء العاقل هو الذي يحتمل أذى الناس، لكنَّه لا يرتكبه تُجاهَهم، ولو أنَّ كل واحد منا استحضَر أن يَزِنَ الأذى الذي يرتكبه تجاهَ الآخَرين، بنفس الميزان الذي يَزِنُ به الأذى الذي يلقاه هو نفسه من الآخَرين لَانحَصَر الأذى بين الناس دون غيره.
ألَا ويلٌ لمن ملئت صحائفه بأذية الآخرين، ويلٌ له، ثم ويلٌ له، فيوم التغابن ستُشهر صحيفةُ إفلاسه؛ لينقلب على وجهه (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[الْحَجِّ: 11]، فما أحوجنا جميعًا أن نكون من الرابحين لا من المفلسين، وإنَّه لَمِنَ العقلِ بمكانٍ أن يحفظ المرءُ فكَّه، من أن يُطلق لسانَه يهرِف بما يؤذي غيرَه، وبما يضرُّ ولا ينفع، وأن يفكَّ كفَّ يده؛ ليبسط راحتَه لكل مُصافِح مُسالِم، لا يبطش بها، ولا يمدها إلى ما يُغضِب اللهَ مولاه؛ (ففي الصحيحين)، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"، وقد قدَّم اللسانَ في الحديث مع أن اليد أقوى جسديًّا؛ لأن جرح اللسان له غورٌ معنويٌّ ونفسيٌّ وأمديٌّ يفوق جرحَ اليد الآني؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنَّ بعض الناس لا تراه إلَّا منتقِدًا، ينسى حسنات الطوائف والأجناس، ويذكر مثالِبَهم؛ مثل الذباب، يترك موضعَ البرء والسلامة، ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج".
فيا خيبةَ امرئ انفضَّ الناسُ من حوله، هربًا من سطوات لسانه ومطارح يده، ويا فوزَ امرئ لم يؤذِ نفسَه، ولم يؤذِ جارَه، ولم يؤذِ قريبَه، أو يَجُر سوءًا إلى مسلم، مستحضِرًا حديثَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي قال فيه: "اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لا إِلَهَ إِلَا أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ"(رواه الترمذي).
ألَا إنَّ الرابح مَنْ كفَّ لسانَه عن الغِيبة والنميمة، والهَمْز واللَّمز، وسلَّم يدَه من الأذى، وطهَّر قلبَه ونقَّاه من الغل والحسد، والتهويش والتشويش ورمي الآخَرين بما ليس فيهم، أو تتبُّع عوراتهم وزلاتهم، بالتعيير والشماتة تارةً، أو بالتهويل والتحريش تاراتٍ أخرى.
الغرُّ مَنْ قَدْ أَلَانَ كَفَّهُ *** وفَكَّ عنه الأذى وكَفَّهُ
وصار هشًّا لنا وبشًّا *** فكَفَّ فكَّه وفَكَّ كفَّه
ألَا فاتقوا اللهَ -عباد الله-، وليتقِ كلُّ أحدٍ منا أن يكون من شرار الناس، الذين عناهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ"(رواه البخاري).
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذِّكْر والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورًا رحيمًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا كما أَمَرَ، وأصلِّي وأسلِّم على عبده ورسوله خير البشر.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنَّ ثمة صدقة عظيمة تنفع المسلمَ وترفعه، صدقةً لا تحتاج إلى مال، ولا إلى بذل جهد جسدي، ولا لفظ قوليّ، صدقة يستوي فيها القويُّ والضعيفُ، والغنيُّ والفقيرُ، إنَّها صدقةُ المرء بكفِّه الشرَّ عن الآخَرين، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ". قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا". قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: "تُعِينُ ضَعِيفًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ" قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ؟ قَالَ: "تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ"(مُتَّفَقٌ عليه).
ثم إنَّه لا يشكُّ عاقلٌ البتةَ، أن مِنَ ابتغاء الخيرِ الكفَّ عن الشرِّ، وقد قيل: "كما تُدِين تُدانُ"، وقيل: "الجزاء من جنس العمل"، فإن مَنْ آذى أخاه المسلم لَحِقَه الأذى، إن عاجلًا أو آجِلًا، وقد قال الإمام مالك -رحمه الله-: "أدركتُ بالمدينة أقوامًا ليس لهم عيوب، فعابوا الناس فصارت لهم عيوب، وأدركت بالمدينة أقوامًا كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم".
فالحذرَ الحذرَ -عبادَ اللهِ- من مغبَّة الإيذاء؛ فإنَّه الطبعُ المهلكُ، والعملُ الماحقُ، الذي يجلب الإثمَ المبينَ، والعذابَ المهينَ، قال الله في محكم كتابه: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الْأَحْزَابِ: 57-58].
هذا وصلوا -رحمكم الله-، على خير البرية، وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعن التابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، ونسألك اللهم نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عبادَ اللهِ: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم