اتقاء الفتن

أسامة بن عبدالله خياط

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ الحرص على اتقاء الفتن ديدن أولي الألباب 2/ من تعرض للفتن تعرضت له بشرها 3/ أنواع الفتن 4/ أصل الفتن تقديم الرأي على الشرع والهوى على العقل 5/ التحذير من مخالفة الشريعة ظاهرًا وباطنًا

اقتباس

كمالُ الحِرصِ على اتِّقاءِ الفتنةِ، والحذرِ من سُلوك سبيلِها والتعرُّض لأسباب الوقوع فيها ديدَنُ أُولِي الألباب، وطريقُ من خشِيَ الرحمنَ بالغيب، ونهجُ ذوي البصيرة من عباد لله، يحدُوهم إلى ذلك قوةُ يقين، وكمالُ تصديقٍ بما جاء عن الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه من البيِّناتِ المُحذِّرة من غوائِلها، الدالَّة على سبيل السلامة من شُرورها، المُرشِدة إلى ..

 

 

 

 

الحمد لله الملك القدوس السلام، أحمده -سبحانه- على آلائه ومِنَنه العِظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله قدوةُ المُتقين وسيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبِه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واذكُروا وقوفَكم بين يديه -سبحانه-، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89].

أيها المسلمون: كمالُ الحِرصِ على اتِّقاءِ الفتنةِ، والحذرِ من سُلوك سبيلِها والتعرُّض لأسباب الوقوع فيها ديدَنُ أُولِي الألباب، وطريقُ من خشِيَ الرحمنَ بالغيب، ونهجُ ذوي البصيرة من عباد لله، يحدُوهم إلى ذلك قوةُ يقين، وكمالُ تصديقٍ بما جاء عن الله ورسوله -صلوات الله وسلامه عليه- من البيِّناتِ المُحذِّرة من غوائِلها، الدالَّة على سبيل السلامة من شُرورها، المُرشِدة إلى الطريق الواجبِ انتِهاجُه وقتَ وقوعِها.

وفي الطليعةِ من ذلك: قولُ ربِّنا -سبحانه- في التحذير منها، وبيان عمومِ الضَّرر بها: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:25]، وقولُ نبيِّنا -صلواتُ الله وسلامه عليه-: "ستكونُ فتنٌ القاعِدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشِي، والماشِي فيها خيرٌ من السَّاعِي، ومن تشرَّف لها تستشرفه". أي: تُهلِكُه، بأن يُشرِفَ منها على الهلاك. وحاصِلُه: أنَّ من تعرَّض لها بشخصِه تعرَّضَت له بشرِّها.

ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "ومن وجدَ ملجَأً أو معاذًا فليَعُذْ به". أي: فليلْجَأْ إليه. أخرجه الشيخان في صحيحيهما.

وقولُه -عليه الصلاة والسلام-: "بادِرُوا بالأعمال فِتَنًا كقِطع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، أو يُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا". أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

ولا ريبَ أن معرفةَ حقيقة الفتنةِ أصلُ درءِ خطرِها، وصون النفس عن الاصطِلاء بنارِها.

والفتنةُ -كما قال ابن القيم رحمه الله- نوعان: "فتنةُ الشُّبهات -وهي أعظمُ الفتنتَيْن-، وفتنةُ الشَّهوات. وقد يجتمِعان للعبد، وقد ينفرِدُ بإحداهما. ففتنةُ الشُّبُهات ناشِئةٌ من ضعفِ البصيرة، وقِلَّة العلم، لا سيَّما إذا اقترنَ بذلك فسادُ القصد، وحُصولُ الهوَى، فهنالك الفتنةُ العُظمى، والمُصيبةُ الكُبرى".

فقُل ما شئتَ في ضلال سيِّئ القصدِ الذي حكَمَ عليه الهوَى لا الهُدى، مع ضعفِ بصيرتِه، وقِلَّة علمِه بما بعثَ اللهُ به رسولَه -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ) [النجم:23].

وقد أخبرَ الله -سبحانه- أن اتِّباعَ الهوى يُضِلُّ عن سبيلِه فقال: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص: 26].

وهذه الفتنةُ -يا عباد الله- مآلُها إلى الكفر والنِّفاق، وهي فتنةُ المنافقين وفتنةُ أهل البِدَع على حسب مراتبِ بدَعهم، ولا يُنجِّي من هذه الفتنة إلا تجريدُ اتِّباع الرسُول -صلى الله عليه وسلم- وتحكيمُه في دقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنِه، عقائِدِه وأعمالِه، حقائِقِه وشرائِعِه.

فيُتلقَّى عنه -عليه الصلاة والسلام- حقائقُ الإيمان وشرائعُ الإسلام، وما يُثبِتُه لله من الصفاتِ والأفعال والأسماء، وما ينفِيه عنه، كما يُتلقَّى عنه وجوبُ الصلوات وأوقاتُها وأعدادُها، ومقاديرُ الزكاة ومُستحقُّوها، ووجوبُ الوضوء، وصومُ رمضان، وحجُّ البيت لمن استطَاع إليه سبيلاً، وغيرُ ذلك من شرائع الإسلام.

فلا يجعلُه رسولاً في شيءٍ دون شيءٍ من أمور الدين؛ بل هو رسولٌ في كل شيءٍ تحتاجُ إليه الأمةُ في العلم والعمل، لا يُتلقَّى إلا عنه، ولا يُؤخَذُ إلا منه -عليه الصلاة والسلام-.

وأما النوعُ الثاني من الفتنة: فهي فتنةُ الشَّهوات. وقد جمع -سبحانه- بين ذكرِ الفِتنتَيْن في قوله -عزَّ اسمُه-: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ) [التوبة:69]؛ أي: تمتَّعوا بنصيبِهم من الدنيا وشهَواتِها، والخلاقُ هو النَّصيبُ المُقدَّر، ثم قال: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)، فهذا الخوضُ بالباطلِ وهو الشُّبُهات.

فأشارَ -سبحانه- في هذه الآية إلى ما يكونُ به فسادُ القلوب والأديان من الاستِمتاع بالخلاقِ والخوضِ في الباطل؛ لأن فسادَ الدين إما أن يكون باعتِقاد الباطلِ والتكلُّم به، أو بالعمل بخلافِ العلمِ الصحيح.

وأصلُ كلِّ فتنةٍ إنما هو من تقديمِ الرأي على الشرع، والهوى على العقل، وتقديمُ الرأي على الشرع أصلُ فتنةِ الشُّبهة، وتقديمُ الهوى على العقل أصلُ فتنةِ الشَّهوة. وفتنةُ الشُّبهات تُدفعُ باليقين، وفتنةُ الشَّهوات تُدفَعُ بالصبر.

ولذلك جعلَ -سبحانه- إمامةَ الدين منوطةً بهذَين الأمرَيْن؛ فقال -عز وجل-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]، وهو دليلٌ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين، ودليلٌ أيضًا على أن فتنةَ الشَّهوة تُدفَعُ بكمال العقل والصبر، وأن فتنةَ الشُّبهة تُدفَعُ بكمال البصيرةِ واليقينِ؛ أي: بما جاء عن الله من البيِّنات والهُدى.

فاتقوا الله -عباد الله-، وحَذارِ ثم حذارِ من فتنِ الشُّبهات وفتنِ الشَّهوات.

اللهم إنا نسألك الثَّباتَ على دينِك، والاستِقامةَ على شرعِك، ونسألُك أن تقِيَنا من مُضِلاَّت الفِتَن، إنك سميعٌ مُجيبُ الدعاء.

نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه كان غفَّارًا.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي خلقَ فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده -سبحانه- وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله المُصطفى وحبيبُه المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن بهديِه اهتدَى.

أما بعد:

فيا عباد الله: إن المُخالفَةَ عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو سبيلُه، ومنهاجُه، وطريقتُه، وسُنَّتُه، وشريعتُه؛ هو من أعظم أسباب الفِتنةِ في الدين، كما قال -سبحانه-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].

والمُراد: فليحْذَر وليَخشَ من خالفَ شريعةَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- باطِنًا وظاهِرًا؛ أن تُصيبَهم فتنةٌ -أي: في قلوبهم- من كُفرٍ، أو نفاقٍ، أو بدعةٍ، أو يُصيبَهم عذابٌ أليمٌ؛ أي: في الدنيا بقتلٍ، أو حدٍّ، أو حبسٍ. كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثَلي ومثَلُكم كمَثَل رجلٍ استوقَدَ نارًا، فلما أضاءَت ما حولَها جعلَ الفَراشُ وهذه الدوابُّ يقَعْنَ في النار، وجعلَ يحجِزُهنَّ ويغلِبْنَه فيقتحِمْنَ فيها". قال: "فذلِكَ مثلِي ومثَلُكم، أنا آخِذٌ بحُجَزِكم، هلُمَّ عن النار، فتغلِبُونَني وتقتحِمون فيها".

فاتقوا الله -عباد الله-، وحَذارِ من المُخالفَة عن أمر رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن عاقبةَ ذلك الإصابةُ بالفِتنةِ في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.

واذكروا على الدَّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام المُتَّقين، ورحمةِ الله للعالمين، فقال -سبحانه- في الكتابِ المُبين: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.

اللهم انصر دينكَ، وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
 

 

 

 

المرفقات

الفتن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات