عناصر الخطبة
1/وجوب الحج وفرضيته 2/تهاون القادرين عن أداء فريضة الحج 3/بعض مفاسد تأخير الحج 4/بعض النصوص الحاثة على تعظيم الأشهر الحرم 5/دلالات النصوص الحاثة على تعظيم الأشهر الحرماقتباس
عباد الله: كيف تطيب نفسُ مسلمٍ بترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه؟! وهو ينفق الكثيرَ مِن ماله في ما تهواه نفسُه؛ في السفر والرحلات؟! وكيف يوفّر نفسَه عن التعب في الحج، وهو يرهقها في التعب في أمور دنياه؟ وكيف يتثاقل عن أداء الحجِّ الفرض وهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة؟ وكيف...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
ففي يوم من أيام المدينة النبوية، قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ببضعة عشر شهر، قام خطيباً في الناس، فقال: "أيها الناس! قد فرض اللهُ عليكم الحجَّ فحُجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها الرجل ثلاثًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" [مسلم ح(1337)].
إنه حديث واضح في تقرير حكمِ هذا الركن الخامس من أركان الإسلام، والذي دلّت بقيةُ الأدلة على أنه منوط بالاستطاعة -سبيل وزاد وراحلة-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97].
ولما كان هذا الركن بهذه المثابة؛ صحّ عن الفاروق -رضي الله عنه- أنه خطب الناس أيضًا فقال: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كلَّ من كان له جِدَةٌ - غنىً - فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين!" [أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (1/ 381)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 546)، ويروى مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح، والصواب وقفه على عمر، وسنده جيد، ينظر: تلخيص الحبير (2/488)].
عباد الله: كيف تطيب نفسُ مسلمٍ بترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه؟! وهو ينفق الكثيرَ مِن ماله في ما تهواه نفسُه؛ في السفر والرحلات؟! وكيف يوفّر نفسَه عن التعب في الحج، وهو يرهقها في التعب في أمور دنياه؟ وكيف يتثاقل عن أداء الحجِّ الفرض وهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة؟ وكيف يؤخّره وهو لا يدري ما يَعرِض له! أيستطيع الوصول إليه مرة أخرى بعد عامِه أم لا؟
أحدُهم يسأل: عن إنسان قدر على الحج، لكنه تكاسل، حتى مرت عليه عشرون سنة ولم يحج! ثم أصابه خرَف في عقله؛ أيُجزئ الحج عنه أم لا؟!
فانظروا -يا عباد الله- كيف أخّر الحج حتى أصابه الخرف، ثم أصابه الموت!.
ألم يسمع أولئك المتثاقلون عن الحج -مع قدرتهم- بالأحاديث الصحيحة التي أخبر فيها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بتلك الفضائل العظيمة التي تحصل للحاج في هذا النسك العظيم؟
ألم يسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه"؟! [البخاري ح(1820)].
ألم يسمعوا قولَه صلى الله عليه وسلم: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"؟! [البخاري ح(1773)، مسلم ح(1349)].
ألم يهيج مشاعرَهم قولَه صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء!" [مسلم ح(1348)].
ومعلوم أنهم لا يريدون إلا عفو الله ومغفرته.
ألم يهيجهم منظر الحجيج وهم في لباس الإحرام متجردين! وبالتلبية يَعجُّون! وبأنواع الأدعية والأذكار في تلك المشاعر يَلهجون! وحولَ بيتِ ربهم يَسعون ويَتقربون! ولحوائجِ دينهم ودنياهم يَسألون! وبمراضي مولاهم ومحبوباته يقومون؟!.
ألا ما أبهى منظرَهم وهم لدماء القربان والهدايا يَثجّون! وبالخشوع والخضوع والانكسار يَضِجون! ولإحسان الكريم يرجون ويأمَلون! وهو الذي أوْفدهم بتوفيقه وحَدَاهم! أَفتَظن بعد هذا أن يرد سؤالهم ودعاءهم؟ حاشا جود أكرمِ الأكرمين وأرحم الراحمين!.
فاتقوا -عباد الله- يا من تيَسَّر لكم الحج ولم تحجوا.
بالله عليكم! لو دعاكم ملِكٌ من ملوك الدنيا للوفود إليه، ليَهَب لكم شيئًا مِن حطام الدنيا، أو يقرّبكم إليه؛ لسارعتم إلى ذلك مشاةً وركباناً، ولتسابقتم إليه زرافات ووحداناً، مع قلة حاصل ما يحصل لكم وفنائِه! والربُّ قد دعاكم، ليُحسن قِراكم، ويُكرم مثواكم، ويغفر ذنوبَكم، ويزيل شَقاكم، ويُجزل لكم الخيرات، ويحقق رجاكم، ويُصلح دينَكم ودنياكم؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
فأنتم -أيها المسلمون- تعيشون هذه الأيام أوائلَ الأشهر الحُرم، تلك الأشهر التي عظّمها الله -جل جلاله- في قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة: 36].
وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته يوم النحر: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنةُ اثنا عشر شهرا، منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب - شهر مُضَر الذي بين جمادى وشعبان -" [البخاري ح(3197)، مسلم ح(1679)].
عباد الله: إن هذه النصوص الكريمة لها دلالاتها وعِبَرها التي ينبغي أن نستفيد منها ونحن نعيش أوائل أيام هذه الأشهر الحرم، ومن هذه الدلالات:
1- أن هذا الاصطفاء لهذه الأشهر أثرٌ من آثار كمال علم الله -تعالى-، وتمام حكمته، وهذا مما يزيد المسلم عبوديةً وإيماناً بربه.
2- ومنها: تعظيم ما عظّمه الله -تعالى-، فإن هذه الأشهر عظيمة القدْر والمكانة في شرع الله بلا شك، ومن تعظيم المؤمن لربه أن يعظّم ما عظَّمه، بل ذلك من أمارات خيرية العبد وتقواه، كما قال سبحانه: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30].
(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
وإذا كان أهلُ الجاهلية يعظّمون هذه الأشهر بالامتناع عن القتال فيها، حتى يمر الرجلُ بقاتل أبيه أو أخيه، فلا يحرّك له ساكناً؛ فإن المؤمن الموحّد المعظّم لله ورسوله أولى بتعظيمها -لا تقليداً- بل تعبّداً واتباعاً.
3- ومن دلالات تحريم هذه الأشهر: ابتلاء العباد واختبارهم، هل يمتثلون أمرَ الله أم لا.
4- ومن أعظم دلالات تحريم هذه الأشهر عند المسلم، وهو من أعظم ما تُعظّم به هذه الأشهر: الكف فيها عن المعاصي كلها، فإن ارتكاب المعاصي والإصرار عليها لا ريب أنه ظلم للنفس، لكن تحريمها في هذه الأشهر مؤكد؛ فقد قال الله عن هذه الأشهر بخصوصها: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة: 36].
قال قتادة -رحمه الله-: "إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله تعالى يعظّم من أمره ما يشاء" [ينظر: تفسير ابن كثير للآية، رقم (36) من التوبة 2/340، وجامع ابن رجب 2/317، ففيه بحث حول مضاعفة الذنوب في المكان والزمان الفاضل].
5- ومما تُعظَّم به الأشهر الحرم: الازدياد من العمل الصالح فيها؛ فإن العلماء يقولون: إن تعظيم الشرع للزمان أو المكان له أثر في استحثاث العبد على مزيد العمل، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "وأفضل الصيام صيام شهر الله المحرم" [مسلم ح(1163)].
لذا فهم جماعة من السلف هذا المعنى؛ فكانوا يحرصون على كثرة الصيام في هذه الأشهر الحرم، كما ذكر ذلك ابنُ رجب -رحمه الله- [لطائف المعارف (229)].
فلنتق الله -عباد الله- ولنعظّم أمرَ ربنا بالكف عن ظلم أنفسنا بالمعاصي، ولنُكثر ما استطعنا في هذه الأشهر من الطاعات؛ فإن أجر الطاعة في الزمان الفاضل أكثر وأكبر، ولنتذكر جيداً أن تعظيمَنا لهذه الحرمات خيرٌ لنا، وعلامة على تقوى القلوب.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم