عناصر الخطبة
1/ حديث: إنهما ليُعَذَّبان وما يعذّبانِ في كبير... 2/ شرحه 3/ بيان ما يستفاد منهاقتباس
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بحائط من حيطان المدينة -أو مكة- فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير"، ثم قال: "بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة". ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا"، أو "إلى أن ييبسا" رواه البخاري.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بحائط من حيطان المدينة -أو مكة- فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبريهما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير"، ثم قال: "بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة". ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا"، أو "إلى أن ييبسا" رواه البخاري.
ومعنى الحديث -معاشر المسلمين- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمشي ذات يوم بالمدينة، ومعه بعض أصحابه -رضي الله عنهم-، فمروا بقبرين، فأسمع الله -تعالى- نبيه صوت من في القبرين يعذبان، وأطلع -سبحانه- نبيه على سبب العذاب الذي يجري عليهما، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إنهما ليعذبان بسبب أمرٍ كبير، لكن جملة من الناس لا ينظرون إليه، ولا يعدونه كبيراً، لأنه خفيٌ وحقير، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوضح حقيقة الأمر بأنه كبير، نحو قوله -تعالى-: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15]، ويؤيد هذا المعنى ما روي في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة: "يعذبان عذاباً شديداً في ذنب هيِّن"، أي: هين في عيون المتساهلين به.
وقال بعض أهل العلم في معنى "وما يعذبان في كبير"، أي: إن الاحتراز منه ليس كبيراً ولا شاقاً.
عباد الله: ما المراد بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يستتر من بوله؟"، ذهب بعض أهل العلم إلى أن المعنى: لا يستبرئ ولا يتنزه ولا يتوقى ولا يتحفظ من البول فيراه يقع على جسمه أو على ملابسه، ولا يهتم ولا يلتفت إليه، وهذا القول هو القول الراجح، والله أعلم.
وذهب آخرون إلى أن معنى "لا يستتر من بوله": يعني: لا يستر عورته حين يتبول. لكن القول الأول أرجح كما أسلفت.
وقد ورد في صحيح ابن خزيمة ما يؤكد المعنى الأول من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أكثر عذاب القبر من البول". وفي السنن من حديث أبي هريرة أيضاً: "استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه".
أيها المؤمنون: الشق الثاني من الحديث فيه وعيد شديد -أيضاً- لمن يمشي بالنميمة أو لا يتورع عن الغيبة. والنميمة نقل كلام الغير بقصد الإضرار، أما إذا اقتضى نقل الكلام فعل مصلحة، أو ترك مفسدة فمندوب إليه، وربما كان واجباً في بعض الأحيان والمواقف؛ كمن رأى شخصاً يفعل منكراً ويجاهر به، أو يسعى في نشره وإشاعته ولو خفية، فهنا يجب على من رآه أو علمه نقلُ ما يفعل ذلك الفاسق إلى من يعنيه الأمر منعاً لفشو المنكرات بين المسلمين.
وقد ورد في بعض طرق الحديث التي أخرجها البخاري في الأدب المفرد قال -صلى الله عليه وسلم-: "أما أحدهما فكان يغتاب الناس".
وأخرج أحمد والطبراني بإسناد صحيح قال: "مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير"، وبكى، وفيه: "وما يعذبان إلا في الغيبة والبول". وفي المسند والطبراني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر على قبر يعذب صاحبه فقال: "إن هذا كان يأكل لحوم الناس"، وأكل لحوم الناس يصدق على الغيبة والنميمة وهما محرمتان بإجماع المسلمين، كما حكاه النووي في الأذكار، وتظاهرت الأدلة على ذلك.
لكن من اغتاب صاحب فضلٍ كعالمٍ أو محتسب أو داعية أو مصلحٍ بين الناس أو متصدق ومتبرع لمشاريع الخير ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلاً، وإن كانت الغيبة محرمة على كل أحد إلا ما استثناه الشرع.
ولشناعة وبشاعة الغيبة صورها النبي -صلى الله عليه وسلم- ومثّلها أحسن تمثيل وأبلغه فيما رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في قصة ماعز ورجمه في الزنا، وأن رجلاً قال لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه يعني ماعزاً -رضي الله عنه- فلم يدع نفسه حتى رُجمَ رجم الكلب، فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلا من جيفة هذا الحمار -لحمار ميت- فما نلتما من عِرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة".
ويلاحظ -معاشر الإخوة- من هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر المتكلم بالغيبة والسامعَ له كليهما بالأكل من جيفة الحمار، مما يدل على تحريم سماع الغيبة، وأن الواجب في حق مع سمع أحداً يغتاب آخر أن ينكر عليه، ويذكِّره بحرمة الغيبة.
وقد عرَّف النبي -صلى الله عليه وسلم- الغيبة بقوله: "ذكرك أخاك بما يكره"، وسواءٌ كان ذلك فيه أولم يكن.
ونقل الحافظ ابن حجر عن بعض العلماء قوله: وسواءٌ كانْ ذكرك له: أن تعيبه في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خُلقِه أو خَلقه أو مالهِ أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، وسواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز. اهـ.
فاتقوا الله عباد الله ولا تبطلوا أعمالكم، وغالبوها وقاهروها في إبعادها عما يضر ولا ينفع.
اللهم إنا نسألك العزيمة على الرشد...
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: بعد أن بين النبي -صلى الله عليه وسلم- حال صاحبي القبرين، وأنهما يعذبان، وبين سبب عذابهما، دفعته رحمته -صلى الله عليه وسلم- بأمته محاولاً جهدَه أن يخفف عنهما من العذاب، فدعا بجريدة، وهو العسيب الرطب كما في بعض الروايات، فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة، ولما سأله الصحابة -رضي الله عنهم-: لم فعلت هذا؟ أجاب -صلى الله عليه وسلم- بأنه لعله أن يخفف عنهما العذاب ما لم تيبس الجريدتان.
وهذا الفعل؛ أي وضع جريدتين رطبتين على القبر من خواصه -صلى الله عليه وسلم- فشفع لهما هذه المدة، وفَعَله فقط على قبور مخصوصة أطلع على تعذيب أهلها، ولو كان مشروعاً على إطلاقه لفعله -صلى الله عليه وسلم- في كل القبور. كما أن كبار الصحابة لم يفعلوا ذلك وهم أعلم بالسنة؛ وعليه فلا يجوز لأحد أن يأتي بغصنين رطبين ويضعهما على قبرِ قريب له أو حبيب أو صديق رجاء أن يخفف عنه عذابٌ، ولا أن يغرس عليه شجرة، ولا يبني عليه قبة تظله، ونحو ذلك مما ابتدعه من لا علم لهم بالشرع، فالأمر ليس عواطف، وإنما ليس للإنسان إلا ما سعى.
وقد مرَّ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعليه فسطاط مضروب، أي بيت من الشعر يظلل القبر، فقال ابن عمر: "يا غلام، انزعه؛ فإنما يظله عمله" رواه البخاري.
عباد الله: جانب مهمٌ في هذا الموضوع هو محل استفسار كثيرٍ ممن يسمعه وهو: هل صاحبا القبرين كانا مسلمين أم كافرين؟ قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: الظاهر من مجموع طرق الحديث أنهما كانا مسلمين، وساق أدلة كثيرة على ذلك منها رواية عن ابن ماجة: "مرَّ بقبرين جديدين"، وفي المسند أنه -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بالبقيع، فقال: "من دفنتم اليوم هنا؟"، فهذه وغيرها من المرجحات تدل على أنهما كانا مسلمين.
أيها المسلمون: إن أجسادنا على النار لا تقوى، فاتقوا الله -تعالى- وراقبوه، ولا تدعوا للشيطان فرصة يعبث في دينكم، فالأمر كما سمعتم، أمرٌ قد لا يبدو في نظر البعض أنه ذو شأن، فإذا به سبب من أسباب عذاب القبر.
ذلكم الوعيد في من ارتكب واحداً من الذنبين، فما بالكم بمن وقع فيهما معاً؟ أي: لا يتنزه من البول، ولا يتورع عن الغيبة، ومات ولم يتب من ذلك، ماذا سيلاقي؟ وكم سيندم!.
وأخيراً -معاشر المؤمنين- قد يتساءل مسلم: لماذا جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين هاتين الخصلتين في حديث واحد؟ هل هناك حكمة، أو مناسبة؟ أجاب بعض أهل العلم قائلاً: إن البرزخ -والبرزخ هو الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو المدة التي يقضيها الميت في قبره- مقدمة للآخرة، وأولُ ما يُقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله -تعالى- الصلاة، ومن حقوق العباد الدماء، ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث، ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم