إلى المغتبطين بقتل المؤمنين

الشيخ عبدالله بن محمد البصري

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ خطر الشبهات على الفرد والأمة 2/ ما المقصود بفتن الشبهات؟ 3/ تأملات في أحاديث (ليس منا) 4/ الأمر بالسمع والطاعة في المعروف لولاة الأمور 5/ من أعظم أسباب ظهور فتن الشبهات 6/ التحذير من شعارات براقة زائفة 7/ من أسباب بث فتن الشبهات ونشرها.

اقتباس

مَا عَلَى وَجهِ الأَرضِ مِن مُسلِمٍ إِلاَّ وَهُوَ يُرِيدُ لأُمَّتِهِ العِزَّةَ وَيَنشُدُ لَهَا التَّمكِينَ، وَأَنَّهُ لا طَرِيقَ لِذَلِكَ إِلاَّ بِإِعدَادِ القُوَّةِ وَرَفعِ رَايَةِ الجِهَادِ، كَمَا لا يُخَالِفُ غَيُورٌ في أَنَّ الأُمَّةَ بِحَاجَةٍ إِلى تَغيِيرٍ إِلى الأَحسَنِ وَتَصحِيحٍ لِلأَخطَاءِ، وَرَفعٍ لِلحَقِّ وَدَفعٍ لِلبَاطِلِ، وَإِزَالَةٍ لِلظُّلمِ وَمُحَارَبَةٍ لِلظَّالِمِينَ، وَلَكِنَّ الكَلامَ عَلَى الأُسلُوبِ المُتَّبَعِ في الإِصلاحِ وَالتَّغيِيرِ، فَالمُنكَرُ لا يُدفَعُ بِمُنكَرٍ مِثلِهِ أَو أَقوَى مِنهُ، وَاللهُ لا يُصلِحُ عَمَلَ المُفسِدِينَ، وَالتَّكفِيرُ وَالتَّفجِيرُ، وَاستِهدَافُ رِجَالِ الأَمنِ وَالمُستَأمَنِينَ أَوِ المُنشَآتِ وَالمُقَدَّرَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لا يَرَاهُ عَاقِلٌ أَبِيٌّ، فَضلاً عَمَّن مُؤمِنٍ تَقِيٍّ...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أَمَّا بَعدُ، فَـ(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].

 

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: المُؤمِنُ يُوقِنُ أَنَّهُ مُلاقٍ رَبَّهُ وَلا رَيبَ، وَمِن ثَمَّ فَلا تَرَاهُ إِلاَّ مُهتَمًّا بِنَجَاةِ نَفسِهِ، مَشغُولاً بِفَكَاكِ رَقَبَتِهِ، مُسَارِعًا إِلى مَا يُرضِي رَبَّهُ، طَامِعًا فِيمَا يُثقِلُ مِيزَانَهُ وَيُكَفِّرُ ذَنبَهُ.

 

وَإِنَّ مِن رَحمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ، أَن أَنزَلَ إِلَيهِم كِتَابًا مُبِينًا، وَبَعَثَ إِلَيهِم رَسُولاً أَمِينًا، وَبَينَ آيَاتِ ذَلِكَ الكِتَابِ وَسُنَّةِ ذَلِكَ الرَّسُولِ، تَكمُنُ النَّجَاةُ وَيَكُونُ الفَوزُ، فِعلاً لِلوَاجِبِ وَالمُستَحَبِّ، وَتَركًا لِلمُحَرَّمِ وَالمَكرُوهِ، وَاتِّقَاءً لِلفِتنَةِ وَبُعدًا عَن مَوَارِدِهَا وَنَأيًا عَن مَوَاطِنِهَا، إِذْ إِنَّ هَلاكَ النَّاسِ وَخَسَارَتَهُم، إِنَّمَا تَنشَأُ عَنِ الفِتَنِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، يَستَوِي في ذَلِكَ فِتَنُ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَإِن كَانَتِ الشُّبُهَاتُ أَعظَمَ وَأَخطَرَ، وَأَشَدَّ فَتكًا بِالأُمَّةِ أَفرَادًا وَمُجتَمَعَاتٍ؛ ذَلِكُم أَنَّهَا تَضُرُّ بِعَقِيدَةِ المَرءِ وَتُفسِدُهَا، وَقَد تُخرِجُهُ مِن دِينِهِ بِالكُلِّيَّةِ، بما يَقَعُ فِيهِ بِسَبَبِهَا مِن بِدَعٍ مُنكَرَةٍ وَتَجَاوُزَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَمَا يُصِيبُ قَلبَهُ وَعَقلَهُ جَرَّاءَهَا مِن صَرفٍ عَنِ الهُدَى وَصَدٍّ عَنِ الحَقِّ، وَاشتِغَالٍ بِأَعمَالٍ بَاطِلَةٍ وَهُوَ يَحسَبُ أَنَّهُ يُحسِنُ صُنعًا.

 

نَعَم - أَيُّهَا المُؤمِنُونَ- إِنَّ المُبتَلَى بِالشَّهوَةِ يَعتَرِفُ بما اقتَرَفَ، وَيُقِرُّ بِأَنَّهُ قَد وَقَعَ في ذَنبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَمِن ثَمَّ يَسأَلُ رَبَّهُ العَفوَ وَالهِدَايَةَ، فَهُوَ إِلى التَّوبَةِ أَقرَبُ، وَالرَّحمَةُ مِنهُ أَدنى، وَأَمَّا صَاحِبُ الشُّبهَةِ، فَإِنَّهُ مَرِيضُ قَلبٍ وَسَقِيمُ عَقلٍ، يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى هُدًى وَيَحسَبُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ، بَل وَقَد يَرَى مَن حَولَهُ عَلَى ضَلالٍ وَبَاطِلٍ، فَلا يَزدَادُ إِلاَّ عُتُوًّا عَلَى المُسلِمِينَ وَنُفُورًا مِنَ النَّاصِحِينَ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لا يُوَفَّقُ لِلتَّوبَةِ وَلا يُهدَى لِلرُّجُوعِ.

 

وَإِنَّهُ لَمَّا سَلِمَتِ الأُمَّةُ في قُرُونِهَا الثَّلاثَةِ المُفَضَّلَةِ مِنَ الشُّبُهَاتِ إِلاَّ مَا قَلَّ وَنَدُرَ، كَانَت في القِمَّةِ مِن عِزَّتِهَا وَقُوَّتِهَا وَاتِّفَاقِ كَلِمَتِهَا، فَلَمَّا فُتِحَ بَابُ الشُّبُهَاتِ، وَأَطَلَّ مِنهُ المُبتَدِعُونَ بِرُؤُوسِهِم، وَصَارُوا شِيَعًا وَأَحزَابًا وَتَفَرَّقُوا، وَخَرَجُوا عَنِ السُّنَّةِ وَفَارَقُوا الجَمَاعَةِ، بَقِيَت فِتَنُهُم وَبِدَعُهُم جِرَاحًا غَائِرَةً في جَسدِ الأُمَّةِ، فَبُلِيَت بِالذُّلِّ وَالهَوَانِ، وَفَشِلَت وَذهَبَ رِيحُهَا.

 

 نَعَم - أَيُّهَا المُوَحِّدُونَ - إِنَّ مَا أَصَابَ الأُمَّةَ مِن تَسَلُّطِ أَعدَائِهَا الخَارِجِيِّينَ، لم يَكُنْ لِيَحصُلَ إِلاَّ بَعدَ أَن تَسَلَّطَ عَلَيهَا مِنَ الدَّاخِلِ أَهلُ الأَهوَاءِ وَالبِدَعِ، الَّذِينَ يَنتَسِبُونَ لِلإِسلامِ، وَكَانُوا وَمَا زَالُوا كَمَا نَرَى في عَدَدٍ مِنَ البِلادِ، أَشَدَّ نِكَايَةً بِالأُمَّةِ مِنَ الكُفَّارِ أَنفُسِهِم.

 

وَيَتَسَاءَلُ حَرِيصٌ عَلَى نَجَاةِ نَفسِهِ: مَا المَقصُودُ بِفِتَنِ الشُّبُهَاتِ؟ فَيُقَالُ: إِنَّهَا كُلُّ مَا يُؤَدِّي إِلى بِدعَةٍ أَو ضَلالَةٍ، أَو يُحدِثُ فُرقَةً وَخُرُوجًا عَنِ الجَمَاعَةِ، أَو يَنتُجُ عَنهُ خَلَلٌ في العَقِيدَةِ أَوِ المَنهَجِ، أَو في المَوَاقِفِ تِجَاهَ مُشكِلاتِ الحَيَاةِ المُختَلِفَةِ؛ ذَلِكُم أَنَّ العَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ الصَّافِيَةَ، لَيسَت مُجَرَّدَ عِلمٍ نَظَرٍيٍّ فَحَسبُ، بَل وَلا دَعَاوَى تَلُوكُهَا الأَلسِنَةُ وَيُتَمَدَّحُ بها، وَلَكِنَّهَا اعتِقَادٌ وَقَولٌ وَعَمَلٌ، تُصَدِّقُهُ مَوَاقِفُ الحَيَاةِ وَتُؤَيِّدُهُ، وَالعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ تَشمَلُ جَمِيعَ أُصُولِ الدِّينِ وَثَوَابِتِهِ وَمُسَلَّمَاتِهِ، سَوَاءٌ مِنهَا مَا كَانَ عِلمِيًّا اعتِقَاديًّا كَأَركَانِ الإِيمَانِ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنهَا، أَو مَا كَانَ عَمَلِيًّا ظَاهِرًا كَأَركَانِ الإِسلامِ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنهَا.

 

 وَلأَنَّ أُمُورَ العِلمِ وَالاعتِقَادِ في القُلُوبِ لا يَعلَمُهَا إِلاَّ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلأَنَّ كُلاَّ سَيَدَّعِي الحَقَّ مُؤمِنًا كَانَ أَو مُنَافِقًا، فَإِنَّ ثَمَّةَ أَعمَالاً وَمَوَاقِفَ ظَاهِرَةً، هِيَ اختِبَارَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ تَتَّضِحُ مِن خِلالِهَا صِحَّةُ العَقِيدَةِ أَو فَسَادُهَا، وَمِن ثَمَّ فَلا غَرَابَةَ أَن نَجِدَ المَصَالِحَ العُظمَى وَالضَّرُورَاتِ، قَد جُعِلَت مِن ثَوَابِتِ الدِّينِ الَّتي يَجِبُ حِفظُهَا وَالاعتِنَاءُ بها، وَبِهَا يُقَاسُ الإِيمَانُ وَيُعرَفُ الصِّدقُ فِيهِ.

 

 وَاقرَؤُوا في ذَلِكَ مَثلاً قَولَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ" (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)، وَقَولَهُ: "لَيسَ مِنَّا مَن لَطَمَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعوَى الجَاهِلِيَّةِ" (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ)، وَقَولَهُ: " لَيسَ مِنَّا مَن لم يَرحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا " (رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ)، وَقَولَهُ: " مَن حَمَلَ عَلَينَا السِّلَاحَ فَلَيسَ مِنَّا " (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ)، وَزَادَ مُسلِمٌ: " وَمَن غَشَّنَا فَلَيسَ مِنَّا " وَقَولَهُ: " لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

 وَقَولَهُ: "وَاللهِ لا يُؤمِنُ، وَاللهِ لا يُؤمِنُ، وَاللهِ لا يُؤمِنُ " قِيلَ: مَن يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِي لا يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)، وَقَولَهُ: "لَن يَزَالَ المُؤمِنُ في فُسحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لم يُصِبٍ دَمًا حَرَامًا " (رَواهُ البُخَارِيُّ)، وَقَولَهُ: "مَن قَتَلَ مُؤمِنًا فَاغتَبَطَ بِقَتلِهِ لم يَقبَلِ اللهُ مِنهُ صَرفًا وَلا عَدلاً " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ)، وَقَولَهُ: " مَن قَتَلَ مُعَاهَدًا لم يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ " (رَوَاهُ البُخَارِيُّ).

 

وَإِنَّهُ لَمَّا جَهِلَ بَعضُ أَفرَادِ الأُمَّةِ هَذِهِ الثَّوَابِتَ أَو تَجَاهَلُوهَا، وَقَعُوا في فِتنَةِ الشُّبُهَاتِ، وَزَاغُوا عَن أُصُولِ الاعتِقَادِ المُقَرَّرِ عِندَ السَّلَفِ، فَخَرَجُوا عَلَى أُولي الأَمرِ وَخَالَفُوا العُلَمَاءَ، وَرَوَّعُوا الآمِنِينَ وَسَفَكُوا دِمَاءَ الأَبرِيَاءِ، بَل وَقَتَلُوا رِجَالَ الأَمنِ المُرَابِطِينَ، وَفَرَّقُوا الوحدَةَ وَأَذهَبُوا الهَيبَةَ، وَأَخَلُّوا بِالأَمنِ وَمَزَّقُوا اللُّحمَةَ، وَشَقُّوا الصَّفَّ وَاعتَدَوا عَلَى المَصَالِحِ العُظمَى لِلأُمَّةِ، مُخَالِفِينَ بِذَلِكَ مَا أَوصى بِهِ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مِن ضَرُورَةِ الانضِمَامِ لِلجَمَاعَةِ وَلُزُومِ السَّمعِ وَالطَّاعَةِ، وَوُجُوبِ اجتِمَاعِ الكَلِمَةِ وَحِفظِ الحُقُوقِ المُعتَبَرَةِ.

 

وَلَو أَنَّهُم تَأَنَّوا لَعَلِمُوا أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قَد ذَكَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ عَلَى الأُمَّةِ أُمَرَاءُ مُختَلِفُونَ، بَينَ بَرٍّ تَقِيٍّ وَفَاجِرٍ شَقِيٍّ، وَلَكِنَّهُ أَمَرَ بِالسَّمعِ وَالطَّاعَةِ لِلجَمِيعِ بِالمَعرُوفِ، مَعَ التَّنَاصُحِ وَالدُّعَاءِ، وَالصَّبرِ عَلَى الظُّلمِ وَالأَثَرَةِ، عَن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ: بَايَعنَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمعِ وَالطَّاعَةِ في العُسرِ وَاليُسرِ، وَالمَنشَطِ وَالمَكرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَينَا، وَأَلاَّ نُنَازِعَ الأَمرَ أَهلَهُ، إِلاَّ أَن تَرَوا كُفرًا بَوَاحًا عِندَكُم مِنَ اللهِ فِيهِ بُرهَانٌ، وَعَلَى أَن نَقُولَ بِالحَقِّ أَينَمَا كُنَّا لا نَخَافُ في اللهِ لَومَةَ لائِمٍ. (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ).

 

وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لِلأَنصَارِ: " إِنَّكُم سَتَلقَونَ بَعدِي أَثَرَةً، فَاصبِرُوا حتى تَلقَوني عَلَى الحَوضِ" (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ). وَعَن عَوفِ بنِ مَالِكٍ عَن رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم، وَتُصَلُّونَ عَلَيهِم وَيُصَلُّونَ عَلَيكُم، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبغِضُونَهُم وَيُبغِضُونَكُم، وَتَلعَنُونَهُم وَيَلعَنُونَكُم" قَالَ: قُلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلا نُنَابِذُهُم عِندَ ذَلِكَ؟ قَالَ: " لا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، لا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، أَلا مَن وِلِيَ عَلَيهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأتي شَيئًا مِن مَعصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكرَهْ مَا يَأتي مِن مَعصِيَةِ اللهِ، وَلا يَنزَعَنَّ يَدًا مِن طَاعَةٍ" رَوَاهُ مُسلِمٌ. أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَلْيَهتَمَّ كُلٌّ مِنَّا بِإِصلاحِ نَفسِهِ وَأُسرَتِهِ وَمَن حَولَهُ، وَلْيُرَبِّ مَن تَحتَ يَدِهِ عَلَى صَحِيِح الاعتِقَادِ، وَلْيُنَمِّ في مُجتَمَعِهِ الغَيرَةَ الصَّحِيحَةَ عَلَى الدِّينِ، بِأُسلُوبٍ سَلِيمٍ مُهَذَّبٍ، يَتَّسِمُ بِالتَّيسِيرِ وَالرَّحمَةِ وَمَحَبَّةِ الخَيرِ، بَعِيدًا عَنِ العُنفِ وَالغِلظَةِ وَالشِّدَّةِ وَالتَّنفِيرِ.

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (قُلْ تَعَالَوا أَتلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلاَّ تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالوَالِدَينِ إِحسَانًا وَلا تَقتُلُوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيَّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ. وَلا تَقرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتَّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالمِيزَانَ بِالقِسطِ لَا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلاَّ وُسعَهَا وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربى وَبِعَهدِ اللهِ أَوفُوا ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُون)[الأنعام: 151- 153].

 

 

الخطبة الثانية:

 

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى- حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ. وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا.

 

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ أَعظَمَ سَبَبٍ لِظُهُورِ فِتَنِ الشُّبُهَاتِ، هُوَ الخَلَلُ في مَنهَجِ التَّلَقِّي وَالاستِدلالِ، حَيثُ استَسهَلَ المَفتُونُونَ وَخَاصَّةً مِنَ الشَّبَابِ، الاستِدَلالَ عَلَى مَا يَذهَبُونَ إِلَيهِ مِن مَذَاهِبَ فَاسِدَةٍ، بِأَدِلَّةٍ مِنَ القُرآنِ وَالسُّنَّةِ، هِيَ وَإِن كَانَت صَحِيحَةً وَصَرِيحَةً، إِلاَّ أَنَّهُم غَفَلُوا عَن كَونِ تَطبِيقِهَا عَلَى وَاقِعٍ بِعَينِهِ، لَيسَ مِن شَأنِهِم وَلا شَأنِ عَشَرَاتٍ وَلا مِئَاتٍ مِن أَمثَالِهِم، مِمَّن قَلَّ عِلمُهُ وَغَابَ فِقهُهُ، وَلَكِنَّهُ شَأنُ الرَّاسِخِينَ في العِلمِ وَالفُقَهَاءِ في الدِّينِ، العَالِمِينَ بِالقَضَايَا الكُبرَى وَالمَصَالِحِ العُظمَى.

 

إِنَّهُ لا يُمَارِي أَحَدٌ في أَنَّهُ مَا عَلَى وَجهِ الأَرضِ مِن مُسلِمٍ إِلاَّ وَهُوَ يُرِيدُ لأُمَّتِهِ العِزَّةَ وَيَنشُدُ لَهَا التَّمكِينَ، وَأَنَّهُ لا طَرِيقَ لِذَلِكَ إِلاَّ بِإِعدَادِ القُوَّةِ وَرَفعِ رَايَةِ الجِهَادِ، كَمَا لا يُخَالِفُ غَيُورٌ في أَنَّ الأُمَّةَ بِحَاجَةٍ إِلى تَغيِيرٍ إِلى الأَحسَنِ وَتَصحِيحٍ لِلأَخطَاءِ، وَرَفعٍ لِلحَقِّ وَدَفعٍ لِلبَاطِلِ، وَإِزَالَةٍ لِلظُّلمِ وَمُحَارَبَةٍ لِلظَّالِمِينَ، وَلَكِنَّ الكَلامَ عَلَى الأُسلُوبِ المُتَّبَعِ في الإِصلاحِ وَالتَّغيِيرِ، فَالمُنكَرُ لا يُدفَعُ بِمُنكَرٍ مِثلِهِ أَو أَقوَى مِنهُ، وَاللهُ لا يُصلِحُ عَمَلَ المُفسِدِينَ، وَالتَّكفِيرُ وَالتَّفجِيرُ، وَاستِهدَافُ رِجَالِ الأَمنِ وَالمُستَأمَنِينَ أَوِ المُنشَآتِ وَالمُقَدَّرَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لا يَرَاهُ عَاقِلٌ أَبِيٌّ، فَضلاً عَمَّن مُؤمِنٍ تَقِيٍّ، يَخَافُ اللهَ وَيَرجُو اليَومَ الآخِرَ، وَاللهُ يُعطِي بِالرِّفقِ مَا لا يُعطِي بِالعُنفِ، وَ"مَا كَانَ الرِّفقُ في شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِن شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ"، وَالسَّعِيدُ مَنِ اعتَبَرَ بِالتَّارِيخِ وَاستَفَادَ مِن دُرُوسِ الوَاقِعِ.

 

وَلِلحَقِّ وَالعَدلِ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - فَإِنَّ ذَلِكُمُ الخَلَلَ في مَنهَجِ الاستِدلالِ لم يُظهِرْ شُبُهَاتِ الغُلُوِّ وَالتَّكفِيرِ فَحَسبُ، بَل لَقَد كَانَ هُوَ نَفسُهُ السَّبَبَ الرَّئِيسَ في ظُهُورِ مَظَاهِرِ الجَفَاءِ، وَضَعفِ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ، وَبُرُوزِ التَّوَجُّهَاتِ الَّتي اجتَذَبَت عَدَدًا مِنَ الشَّبَابِ، عَبرَ أَسَالِيبَ وَمُصطَلَحَاتٍ وَأَلفَاظٍ خَدَّاعَةٍ، تَحمِلُ مَعنَى التَّنَوُّرِ وَالثَّقَافَةِ، وَالفِكرِ وَالحُرِّيَّةِ، وَالرَّأيِ وَالرَّأيِ الآخَرِ، وَالإِنصَافِ وَالعَدلِ وَالتَّجَرُّدِ العِلمِيِّ، وَهِيَ في حَقِيقَتِهَا شِعَارَاتٌ خَادِعَةٌ كَاذِبَةٌ، تَستَهدِفُ نَسفَ الفَضِيلَةِ وَوَأدَ الكَرَامَةِ، وَتَدعُو إِلى الانفِلاتِ وَالتَّميِيعِ، وَتُشَجِّعُ ظُهُورَ الفُجُورِ وَانتِشَارَ المَعَاصِي، وَتُدَندِنُ حَولَ إِشَاعَةِ الشَّهَوَاتِ، وَتَسهِيلِ أَمرِ الفَوَاحِشِ وَالمُنكَرَاتِ.

 

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَلْنَحذَرْ وَسَائِلَ الإِعلامِ وَالتَّوَاصِلِ بِمُختَلِفِ أَنوَاعِهَا؛ فَإِنَّهُا مِن أَسبَابِ بَثِّ الشُّبُهَاتِ وَنَشرِهَا، وَلْنَتَفَاءَلْ وَلْنَطمَئِنَّ؛ فَإِنَّهُ لم تَزَلْ في الأُمَّةِ طَائِفَةٌ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ بِإِذنِ اللهِ، وَكُلَّمَا اشتَدَّ ظَلامُ اللَّيلِ آذَنَ الفَجرُ بِالانبِلاجِ، وَاللهُ قَد جَعَلَ مَعَ العُسرِ يُسرَينِ (وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعلَمُونَ) [المنافقون: 8]، (يُرِيدُونَ أَن يُطفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفوَاهِهِم وَيَأبى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ) [التوبة: 32- 33].

 

 

 

المرفقات

المغتبطين بقتل المؤمنين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات