إضاءات من سيرة سعد بن أبي وقاص

د عبدالعزيز التويجري

2022-07-29 - 1443/12/30 2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/من ثمرات القراءة في سير الصحابة 2/قوة العلاقة بين النبي وسعد 3/من فضائل ومناقب سعد 4/ابتلاؤه وزهده وورعه 5/الدروس المستفادة من سيرة سعد

اقتباس

اعتزل كل ما يؤثر على دينك أو ثباتك فلا تمييع ولا مداهنه, بل ثبات واعتزال للفتن, وهذا ما تمثله سعد بن أبي وقاص حين اعتزل الفتن, واتخذ غنيمات خارج المدينة متمثلاً قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله العلي الأعلى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهديه اهتدى, وسلم تسليما.

 

أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].

 

للإسلام رجال بذكرهم توقظ الهمم وتحيا القلوب، وفي قصصهم عبرة وذكرى، ومن هؤلاء التي تحيى القلوب بذكر سيرتهم ومواقفهم وعطائهم فارس القادسية، الأمير الفذ أبو إسحاق, أحد العشرة، وأحد السابقين الأولين، وأحد من شهد بدرا والحديبية، وأحد الستة من أهل الشورى, أسد من أسود الإسلام، وزاهد من زهاده، ورجل من كبار رجاله، ألا وهو سعد بن أبي وقاص, خال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, قال جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا خَالِي, فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ"(أخرجه الترمذي).

 

لبِسْتَ منَ الفضائِلِ ثوبَ فخْرٍ *** ولكنْ كُنتَ أنتَ لهُ الطرازا

 

يفخر به لا لأنه أكثر الصحابة مالا, ولا لأنه أو سعهم دارا, ولا لأنه يحضر المجامع ليشهر نفسه ويتبجح بعمله؛ يفخر به لأنه فارس المهمات ورجل النائبات, قالت عَائِشَةَ: "سَهِرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ: "لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ", قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟" قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا جَاءَ بِكَ؟" قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ نَامَ"(متفق عليه), ما أسعد الإنسان حين يكون همه ومهمته حراسة الإسلام.

 

لَهُ هِمَّةٌ تَعلُو علَى كلِّ هِمَّةٍ *** كمَا قَد عَلا البَدرُ النُّجومَ الدَّرَارِيَا

 

ويكفيه مكرمة وفخرا وفضلاً ما جاء في صحيح مسلم قال سعد: "لَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ".

 

شرفُ تخجلُ الكواكبُ إذ يبدو *** وتُطوى بذيلهِ الجوزاءُ

 

قال عَلِيُّ: مَا سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ  -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ أَبَوَيْهِ لأَحَدٍ غَيْرَ سَعْدٍ، قال سعد نَثَلَ لِي رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ: "ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي"(أخرجه البخاري), وَكَانَ سَعْدٌ رَامِياً، وكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لسعد: "ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي", قَالَ فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ، فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ فَسَقَطَ، فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى نَوَاجِذِهِ"(أخرجه مسلم).

 

ولاه عمر قيادة الْقَادِسِيَّةِ، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وكانت وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ يَكُنْ بِالْعِرَاقِ أَعْجَبُ مِنْهَا, وكَانَ سَعْدٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَدْ أَصَابَهُ مرض، وَأصابه دَمَامِلُ فِي جَسَدِهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الرُّكُوبَ وَإِنَّمَا هُوَ فِي مشرفةٍ مُتَّكِئٍ عَلَى صَدْرِهِ فَوْقَ وِسَادَةٍ، يَنْظُرُ إِلَى الْجَيْشِ وَيُدَبِّرُ أَمْرَهُ، ويَنْظُرُ فِي مَصَالِحِ الْجَيْشِ... حتى انْهَزَمَتِ الْفُرْسُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ الْمُسَلْسَلُونَ بِكَمَالِهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَقَتَلُوا قَبْلَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ.

 

وَسَاقَ الْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُمُ الْمُنْهَزِمِينَ حَتَّى دَخَلُوا الْمَدَائِنُ الَّتِي فِيهَا إيوان كسرى، وغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ وَقْعَةِ الْقَادِسِيَّةِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوَصَفُ كَثْرَةً، وَبُعِثَ بِالْخُمُسِ وَالْبِشَارَةِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.

 

وَقَدْ كَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَسْتَخْبِرُ عَنْ أَمْرِ الْقَادِسِيَّةِ كُلَّ مَنْ لَقِيَهُ مِنَ الرُّكْبَانِ, وَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ كل يوم يَسْتَنْشِقُ الْخَبَرَ".

 

يا من رأى عُمَراً تكسوه بردته *** والزيت أدم له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسيه فرقاً *** من بأسه وملوك الروم تخشاه

 

وبعد هذا المكارم والمكرمات لبطل القادسية سعد بن أبي وقاص, يكافئه عمر فيوليه إمرة الكوفة؛ لكفاءته وحنكته وعدله وحسن إدارته.

 

 وحين يتنكر الأقزام من الكرام، ولا يحفظ حق من لهم سابقة في الإسلام, تطرق سمعك شنشنات يحتقر أو يزهد بأهل الفضل بأنهم رجال كغيرهم, لا يعتبر لهم قولاً, ولا يحترم لهم فضلاً, ويتكلم فيهم على الدين, قال سعد بن أبي وقاص حين تُكلم فيه ووشي عليه إلى عمر: "إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقَ الْحِبلَةِ وَهَذَا السَّمَرُ, حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ, وَمَا لَهُ خِلْطٌ, ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَيِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ, لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

ما أعظم أن يقهر الانسان في نفسه أو يتهم في دينه بغير حق, قال جابر بن سمرة -رضي الله عنه-: "شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر -رضي الله عنه- أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق! إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال سعد: أما أنا -والله- فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء، فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق!.

 

فأرسل معه رجالا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه، ويثنون معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم قال: أما إذ نشدتنا, فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما -والله- لأدعونَّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة؛ فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن"(أخرجه البخاري), هذا جزاء من آذى الصالحين ورماهم بما ليس فيهم.

 

وليتعزى أهل الدين والصلاح بمثل فارس القادسية، إذا لم يرع الجهلاء حقهم, وتندر السفهاء من ثباتهم وتدينهم.

 

وكم على الأرض أشجار مورقة *** وليس يرجم إلا من به ثمر

 

فيا ويل الَّذين يظْلمُونَ النَّاس ويبغون فِي الأَرْض بِغَيْر جزائهم؛ (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[آل عمران: 91].

 

وبعد هذه الفضائل والمكرمات والفضائل والسابقة في الإسلام والتضحيات نرى سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة, وممن شهد بدرا والحديبية، وأحد الستة أهل الشورى لما أطلت الفتن وتاقت نفوس للمناصب والرئاسة, اشترى غنيمات ورحل خارج المدينة واعتزل الناس.

 

حكى عنه ابنه عامر بنِ سَعْدٍ قال: "اتخذ أبي غَنَما لَهُ، فَجَاءَ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ أبي قَالَ: أَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ، قَالَ: يَا أَبَتي! أَرَضِيْتَ أَنْ تَكُوْنَ أَعْرَابِياً فِي غَنَمِكَ، وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُوْنَ فِي الملْكِ بِالمَدِيْنَةِ، فَضَرَبَ صَدْرَ عُمَرَ وَقَالَ: اسْكُتْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُوْلُ: "إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَّنِيَّ، الخَفِيَّ".

 

حتى وافته المنية وهو في قصره في العقيق خارج المدينة، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لما تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ"(أخرجه مسلم).

 

رضي الله عنه وعن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, جعلنا الله من الأتقياء الأغنياء الأخفياء،  ونستغفر الله إنه كان للأوابين غفورا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وعلى آله وصحبه والتابعين.

 

أما بعد: الله الله في السرائر؛ فإن الله لما علم صدق سعدٍ وإقباله على الدين وإخلاصهِ؛ وفَقَه وألهمه وسدده في المواقف, فكان مسدداً مهدياً حتى مات -رضي الله عنه-.

 

فبقدر صدقك يمنحك الله الثبات في الأقوال والأفعال والتصرفات، ويحرسك -سبحانه وتعالى- بعين رعايته.

 

أعطى سعدُ بن أبي وقاص درساً: "إن المكارم لا تنال إلا بالسباق في المكرمات, ولو كنت وحدك في الطريق قال: "لَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ".

 

فلا تمييع للدين ولا مداهنة فيه, بل ولاء لله ورسوله والمؤمنين واستقامة على الطريق, العمل للدين قائم على كل مسلم كل بحسبه, انفق رجل من بره, من صاع تمره, من علمه, من شعره من رأيه, فسعد لم يقعده المرض عن المشاركة في نصرة الإسلام, فلا تحتقرن عملاً تقوم به في نصرة الإسلام وحفظ دينك، ولو بكلمة طيبة, أو موقف يحفظك الله به.

 

إذا شرفك الله بهذا الدين فكن ثابتا فيه لا تزحزحك الظروف، ولا تغيرك المستجدات والصروف, اعتزل كل ما يؤثر على دينك أو ثباتك فلا تمييع ولا مداهنه, بل ثبات واعتزال للفتن, وهذا ما تمثله سعد بن أبي وقاص حين اعتزل الفتن, واتخذ غنيمات خارج المدينة متمثلاً قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ؛ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ".

 

اللهم اهد قلوبنا واعمالنا، وطهر سرائرنا, واستعملنا في طاعتك, وجنبنا وذرياتنا الفتن, واكفنا يا ربنا شر الأشرار, وشر طوارق الليل والنهار.

 

 

 

المرفقات

إضاءات من سيرة سعد بن أبي وقاص.pdf

إضاءات من سيرة سعد بن أبي وقاص.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
05-08-2022

جزاكم الله خيراً