إبراهيم عليه السلام وأسرته الكريمة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2021-06-11 - 1442/11/01 2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/إبراهيم عليه السلام ودعوته لأبيه2/موقف هاجر في ترك إبراهيم لها ولرضيعها في مكة 3/مواقف تربوية للابن البار إسماعيل عليه السلام.

اقتباس

أَرَأَيْتُمْ إِلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ وَهَذِهِ الثِّقَةِ بِاللَّهِ -تَعَالَى- مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ؛ إِنَّهَا رِسَالَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ لِكُلِّ امْرَأَةٍ أَنْ تَكُونَ عَوْنًا لِزَوْجِهَا فِي خِدْمَةِ دِينِهِ وَطَاعَةِ رَبِّهِ، وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ وَتَرْكِ رَغَبَاتِ النَّفْسِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي سِيَرِ الصَّالِحِينَ مَوَاقِفُ مُشْرِقَةٌ، وَمَعَالِمُ مُتَأَلِّقَةٌ، تَدْعُو النَّاسَ إِلَى سُلُوكِ سَبِيلِ الْقُدْوَةِ بِهِمْ، وَالِاقْتِبَاسِ مِنْ أَنْوَارِهِمْ، وَتُرْشِدُهُمْ إِلَى الْغَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهَا، وَيَتَجَنَّبُوا كُلَّ مُعَوِّقٍ يُبْعِدُهُمْ عَنْهَا.

 

وَمِنْ تِلْكَ الْمَوَاقِفِ: الْمَوَاقِفُ التَّرْبَوِيَّةُ الْأُسَرِيَّةُ الَّتِي تَهْدِي إِلَى سُبُلٍ تَرْبَوِيَّةٍ بَدِيعَةٍ، وَفِي حَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى امْتِدَادِ تَارِيخِهَا الطَّوِيلِ نَمَاذِجُ فَذَّةٌ يَتَأَسَّى بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَيَتَّبِعُ خُطَاهَا الْمُسْتَرْشِدُونَ؛ فَمِنْ أُولَئِكَ الْكِرَامِ؛ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَهَاجَرُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، هَذِهِ الْأُسْرَةُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي ضَرَبَتْ أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي الْعَمَلِ لِدِينِ اللَّهِ؛ وَلَعَلَّنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ نَقِفُ مَعَ بَعْضِ الرَّسَائِلِ التَّرْبَوِيَّةِ مِنْ حَيَاةِ هَذِهِ الْأُسْرَةِ الْكَرِيمَةِ حَتَّى تَسْتَلْهِمَ أُسَرُنَا مِنْهَا دُرُوسًا تُحَوِّلُهَا إِلَى سُلُوكٍ وَعَمَلٍ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَلِيلُ الرَّحْمَنِ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى- كَانَ أَبُوهُ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ، وَاضِعًا خَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ وَجَبْهَتَهُ بَيْنَ يَدَيْ صَنَمٍ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؛ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُهُ الْبَارُّ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِعْلَهُ ذَلِكَ؛ (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الْأَنْعَامِ: 74].

 

وَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يُنَاصِحُ أَبَاهُ فِي دَعْوَتِهِ لِلتَّوْحِيدِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ بِأَدَبٍ وَلُطْفٍ يَلِيقُ بِمَقَامِ الْأُبُوَّةِ -رَغْمَ جَفَاءِ وَالِدِهِ وَقَسْوَتِهِ- مُسْتَخْدِمًا مَعَهُ الْأَسَالِيبَ الدَّعْوِيَّةَ الْحَكِيمَةَ؛ حَيْثُ رَفَقَ بِهِ فِي الْخِطَابِ مَعَ شِرْكِهِ بِقَوْلِهِ: (يَا أَبَتِ)، وَحَاوَلَ إِقْنَاعَهُ إِقْنَاعًا عَقْلِيًّا، وَلَكِنَّ الْأَبَ الضَّالَّ رَفَضَ هَذِهِ الدَّعْوَةَ الْكَرِيمَةَ مِنَ ابْنِهِ الْبَارِّ وَتَوَعَّدَهُ بِالْمَكْرُوهِ. قَالَ -تَعَالَى-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)[مَرْيَمَ: 41-46]؛ غَيْرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ هَذَا الرَّفْضِ الْقَاطِعِ مِنْ أَبِيهِ لِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ لَمْ يَتْرُكْهُ، بَلْ سَعَى فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهُ فَقَالَ: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)[مَرْيَمَ: 47].

 

وَيَسْتَمِرُّ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يُبَيِّنُ لِأَبِيهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ؛ حَتَّى مَاتَ آزَرُ عَلَى شِرْكِهِ، ثُمَّ تَرَكَ الْخَلِيلُ اسْتِغْفَارَهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُ حُرْمَةُ الِاسْتِغْفَارِ لِأَهْلِ الشِّرْكِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 114].

 

وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ: أَيَسْتَغْفِرُ الرَّجُلُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى)[التَّوْبَةِ:113]. إِلَى قَوْلِهِ: (تَبَرَّأَ مِنْهُ)[التَّوْبَةِ: 114]، قَالَ: "لَمَّا مَاتَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

أَرَأَيْتُمْ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- الْوَلَاءَ الْإِبْرَاهِيمِيَّ الْخَالِصَ؛ إِنَّهَا رِسَالَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ لِكُلِّ ابْنٍ صَالِحٍ يَرَى أَبَاهُ عَلَى انْحِرَافٍ: أَنْ يُسَارِعَ إِلَى دَعْوَتِهِ إِلَى الْحَقِّ بِلُطْفٍ وَرِفْقٍ -وَلَوْ جَفَا عَلَيْهِ-، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِالْهِدَايَةِ. وَكَذَا مَا فَعَلَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَعَ أُمِّهِ وَدَعَوْتِهِ لَهَا مِثَالٌ صَالِحٌ.

 

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: مَا أَجْمَلَ أَنْ تَكُونَ الْأُسْرَةُ الْمُسْلِمَةُ عَامِلَةً لِدِينِ اللَّهِ، تَسْتَنْهِضُ هِمَمَهَا، وَتُوَظِّفُ طَاقَاتِهَا الْمُخْتَلِفَةَ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَهَكَذَا كَانَتْ أُسْرَةُ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ؛ فَإِبْرَاهِيمُ يُفَارِقُ الْأَهْلَ وَالْوَطَنَ وَالْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ فَيُهَاجِرُ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ إِلَى مَكَّةَ فَيَضَعُ ابْنَهُ الْوَحِيدَ وَزَوْجَهُ هَاجَرَ فِي وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ اسْتِجَابَةً لِأَمْرِ اللَّهِ لَهُ.

 

فَمَا حَالُ وَمَوْقِفُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَتْرُكُهَا زَوْجُهَا مَعَ طِفْلِهَا الرَّضِيعِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْخَالِي: هَلْ رَفَضَتْ ذَلِكَ، أَمْ أَنَّهَا أَعَانَتْهُ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ -يَعْنِي: هَاجَرَ- وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟! فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَتَلَفَّتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

أَرَأَيْتُمْ إِلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ وَهَذِهِ الثِّقَةِ بِاللَّهِ -تَعَالَى- مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ؛ إِنَّهَا رِسَالَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ لِكُلِّ امْرَأَةٍ أَنْ تَكُونَ عَوْنًا لِزَوْجِهَا فِي خِدْمَةِ دِينِهِ وَطَاعَةِ رَبِّهِ، وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ وَتَرْكِ رَغَبَاتِ النَّفْسِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ؛ وَمَا أَحْوَجَ الْأَزْوَاجَ وَالْأُسَرَ إِلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى لِتَحْقِيقِ مُرَادِ اللَّهِ وَالْفَوْزِ بِرِضَاهُ.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْعَظِيمِ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَبَيْنَ هَذِهِ الْأُسْرَةِ الْكَرِيمَةِ نَشَأَ الِابْنُ الْبَارُّ إِسْمَاعِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَكَانَ مِثَالًا فَرِيدًا فِي بِرِّ أَبِيهِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ: الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا إِبْرَاهِيمُ فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ يَذْبَحُ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ؛ فَتَصَوَّرُوا -يَا عِبَادَ اللَّهِ- هَذَا الْمَوْقِفَ الرَّهِيبَ، الَّذِي يَسْمَعُ فِيهِ ابْنٌ وَحِيدٌ فِي سِنِّ الطُّفُولَةِ أَبَاهُ الْمُحِبَّ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَذْبَحَكَ، لَمْ يَتَلَكَّأْ إِسْمَاعِيلُ وَلَا رَفَضَ الْأَمْرَ، بَلْ سَلَّمَ وَأَطَاعَ، قَالَ -تَعَالَى-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصَّافَّاتِ: 102].

 

إِنَّ هَذِهِ الطَّاعَةَ لِلَّهِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ فِي تِلْكَ السِّنِّ، وَقَدْ رُزِقَ بِهِ بَعْدَ طُولِ انْتِظَارٍ، وَاسْتِعْدَادِ إِسْمَاعِيلَ لِذَلِكَ؛ لَيُرِينَا الْعُمْقَ التَّرْبَوِيَّ وَالتَّأْصِيلَ الْأُسَرِيَّ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّسْلِيمِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ بِلَا تَرَدُّدٍ، مَهْمَا خَالَفَتْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ؛ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الْأَحْزَابِ: 36].

 

كَمَا تُرِينَا هَذِهِ الْحَادِثَةُ كَيْفَ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ حُبِّ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ إِيمَانِ الْعَبْدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

الْمَوْقِفُ الثَّانِي: اسْتِجَابَةُ إِسْمَاعِيلَ لِأَبِيهِ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- لِبِنَاءِ الْبَيْتِ، حَيْثُ كَانَ عَوْنَ أَبِيهِ الْوَحِيدَ مِنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمُهِمَّةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ -يَعْنِي: إِبْرَاهِيمَ-، وَإِسْمَاعِيلُ ‌يَبْرِي ‌نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(رواه الْبُخَارِيُّ).

 

وَالْمَوْقِفُ الثَّالِثُ: طَاعَتُهُ لِأَبِيهِ عِنْدَمَا أَمَرَهُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ الَّتِي شَكَتْ مِنْ سُوءِ الْحَالِ، وَإِمْسَاكِ زَوْجَتِهِ الْأُخْرَى الَّتِي أَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ بِحُسْنِ الْحَالِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: فَهَذِهِ مَشَاهِدُ تَرْبَوِيَّةٌ يَنْبَغِي عَلَى أَبْنَائِنَا الِاقْتِدَاءُ وَالتَّأَسِّي بِهَا؛ طَاعَةً لِلَّهِ أَوَّلًا وَبِرًّا بِالْآبَاءِ ثَانِيًا، وَلْنَسْتَلْهِمْ مِنْهَا دُرُوسًا تَرْبَوِيَّةً؛ لِنُصْلِحَ حَيَاتَنَا الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ؛ فَالزَّوْجُ الصَّالِحُ يُضَحِّي مِنْ أَجْلِ هَذَا الدِّينِ، وَقُدْوَتُهُ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَالزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ تَكُونُ عَوْنًا لِزَوْجِهَا فِي هَذِهِ الْمُهِمَّةِ الشَّرِيفَةِ، وَفِي هَاجَرَ قُدْوَةٌ لَهَا، وَالِابْنُ الصَّالِحُ لَا يُقَصِّرُ فِي التَّعَاوُنِ مَعَ وَالِدِهِ فِي رِسَالَتِهِ، وَلَهُ فِي إِسْمَاعِيلَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْعَامِلِينَ لِدِينِهِ، السَّاعِينَ فِي نَشْرِهِ وَتَحْبِيبِهِ إِلَى النَّاسِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

إبراهيم عليه السلام وأسرته الكريمة.doc

إبراهيم عليه السلام وأسرته الكريمة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات