أيها المنصتون.. أين الأماكن؟

عبد الله الواكد

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ العبادة هي الغاية من الخَلق 2/ السعي لتحصيل الهداية 3/ تهيئة الأماكن في أنفسنا لاستقبال الهداية وتقبُّلها

اقتباس

إن أهمية المكان، وإحداث المكان، لِتلج إليه المواعظ والنصائح، لهي مما يغفل عنه كثير من الناس، وهو أمر يدرك بالنقل قبل العقل، قال الله -تعالى-: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ) [يونس:42]...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: أيها المسلمون: فإن الدنيا لا ثمرة فيها، ولا خير يرجى منها، إذا لم يكن سعي العبد في مرضاة الله، وعمله في مراد الإله؛ لأن الإنسان، ما خلق في هذه الدنيا للعب والعبث، إنما خلق للعبادة، ولكن هذه المتع، التي تحف به من كل جانب، والمصالح التي يقضي بها أمر معاشه، ولوازم بقائه، إنما هي مقومات للعبادة، ومساند لإقامة الدين، لكن المقصد العظيم من الخلق، هو عبادة الله -سبحانه وتعالى-، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].

 

إخوة الإسلام: سؤال يطرح نفسه عليكم؛ فلتتأملوه، وتدركوه: لم يوفق أناس لعبادة الله، ويخذل آخرون؟ أوليسوا كلهم بشراً؟ أوليسوا كلهم خَلقاً؟.

 

ما الذي جاء بسلمان الفارسي، يدك مجالد الأرض، ويطوي أصقاعها، من بلاد فارس، يتقلب من دليل إلى دليل، ومن راهب إلى راهب، سلبت حريته، وبيع بثمن بخس دراهم معدودة، وهو لا يلويه عن مآتيه شيء، ولا يثنيه عن مراده مراد، حتى استقر به الأمر، وآل به المآل، إلى بستان من بساتين المدينة، فجاء البشير بقدوم البشير، وهو في فرع نخلة يخرفها لسيده، فانسلخ منها وخرج، قال له سيده: إلى أين؟ لم تركت النخلة؟ قال: ما أتيت لقطف الثمار، ولا لخرف النخيل، إنما للقاء الخليل، أتيت لألقى محمدا، وأدخل في دينه. سبحان الله! أي همة تلك! وأي صبر على معافرة الأسفار ذلك!.

 

رحلة الهداية، رحلة عظيمة، إن الهداية التي يسعى الناس إليها، ليست ناموسا يتنزل عليهم من السماء، وليست طباعة تطبع على قلوبهم، ولا منحة تمنح إياهم، إلا أن يسعوا لها سعيها، فلو كانت كذلك لكان أبو طالب وغيره، من قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق بهذه المنح، لكنها رحلة لا يوفق لها إلا من سعى إليها، قال -تعالى-: ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء:19] وقال -عليه الصلاة والسلام-: "كلكم يدخل الجنة إلا من أبى"، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".

 

إن الهدايةَ (تحصل) بمشيئة الله، ولا يمكن لعبد أن يهتدي إلا أن يشاء الله، ولكن الله -عز وجل- جعل مقاليد أمور العبد الاختيارية بيده، وأزمتها في عصمته، والله -عز وجل- لا يهدي المدْبِر ولا يهدي الكافر، ولا يهدي الظالم، ولا يهدي الكاذب، حتى يعود مقبلا، بسجايا تقابل سجايا الإدبار، قال -تعالى-: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:86]، وقال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) [الزمر:3]، وقال -تعالى-: (ولَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف:5].

 

إن الإعراض عن ذكر الله، والإدبار عن هدي الله، وهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لمن موجبات ختم القلوب، وامتناع محل الهداية والصلاح؛ لذا ينبغي لنا -أيها الأحبة في الله- أن لا ننتظر غيث الهداية أن يمطر علينا، دون أن نرفع أكف الاستغاثة والاستهداء، وكثيرا ما نعلق أمر تقصيرنا في التربية على عدم حينونة الهداية، وأن الهداية بيد الله، وأن الله -عز وجل-، هو الذي صرف الهداية عنا، وأفاضها على آخرين، وهذا الكلام صحيح في مجمله، ولكن الهداية صرفت عمن صرفت عنه بسبب تقصيره في طلبها، ووفق إليها من سعى واجتهد في طلبها، فأين سعينا في تحقيق الهداية؟.

 

رجل كان له ولد، هذا الولد، قد عج فيما عج فيه كثير من الناس، في فترة مضت، فصاحَب أصحاب الغفلة والأغاني والسهر، وتضييع حقوق الله، فناصحه والده فلم يجب، وكرر عليه فلم يستجب، فتركه حتى كان يأتي هو وأصحابه في بيت والده، ويسهرون على غيهم وغفلتهم، فقال أحد الأقارب لوالده ناصحا: أوَما كنت طاردا هذا الولد من بيتك؟! فلقد تجاوز حد الإساءة إليك، وأرهقك من أمرك عسرا. فقال الوالد -رحمه الله- لقريبه: إنه ليس من الحكمة أن أطرد ولدي من بيتي. أأخرجه من البيت الذي نشأ في بنائه، وترعرع في فنائه؟ أنا لن أطرد ولدي من بيتي وإن فعل ما فعل. وإن طردته؛ فمن الذي سيؤويه؟ وإن أبعدته؛ فمن الذي سيدنيه؟ سأصبر عليه، وسيجعل الله بعد عسر يسرا. قال لقريبه -وآفاق الأمل تفوق آفاق الحقيقة أمام ناظريه-: إنني الآن أسلك طريقا لا يفلس مَن سلكه، وأمسك حبلا لا يهوي بمن أمسكه. فقال قريبه: وماذا ستصنع؟ قال الوالد: حيلتي الآن، إذا جاء الثلث الأخير من الليل، اجتهدت له بالدعاء أن الله يصلحه ويهديه.

 

والآن أيها -الأحبة- أتدرون ما حال الولد؟ إنه الآن إمام مسجد، ومن خيرة الدعاة، ودبر كل صلاة يدعو لوالده بالرحمة والمغفرة، فنسأل الله لنا وله الثبات.

 

إخوة الإسلام: إنما نسوق هذه القصة من واقعنا، لنعلم أن الأمر، أمر صبر وحكمة، وليس حماقة وصرعة، إن بذل الوسائل الحسية والمعنوية، وطَرق أبواب السماء، لمن وسائل صناعة أماكن الهداية والصلاح، فمن أين تكون البداية؟ وما هي سبل الهداية؟ وكيف يكون التوفيق لها؟ وكيف يكون الخذلان؟.

 

يجب علينا -أيها الأحبة- أن نتأمل ذلك جيدا، بقلوب بصيرة، وأعين مبصرة، وأن لا نخطئ في تقديرنا وحساباتنا، ولا نتهاون في إعدادنا لأنفسنا، وأن نكون واقعيين في تعاملنا مع قضايانا الخاصة والعامة، وأن نكون أولي شفافية مطلقة، وصدق منقطع النظير، فالقضية قضية مصير، إما إلى جنة أو إلى سعير، نعوذ بالله من النار وسوء المصير.

 

أحبتي في الله: هل يستطيع أحدنا أن يعيش هو وأسرته، دون أن يكون لهم بيت يأوون إليه، ومسكن يترددون عليه؟ أوليس أحدنا يتجشم الديون، والاستلاف والأقساط، والعنت والمشقة، من أجل أن يبني له بيتا يؤويه وأسرته؟ أيستطيع أحدنا أن يبيع ويشتري، دون أن يكون له دكان ومكان يضع فيه بضاعته؟ هل يستطيع أحدنا أن يضع شيئا ما، دون أن يكون لهذا الشيء مكان ما؟ فهذه الأماكن التي لا يمكن للأشياء الحسية إلا أن تستقر إلا فيها، إنما هي عامة في كل شيء، في الأمور الحسية والمعنوية، فهي تحتاج إلى أماكن تسكن فيها، وتستقر داخلها.

 

حينما تأمر شخصين، طفلا صغيرا وشابا ناضجا، بأمر، فإن الشاب يستوعب الأمر، وأما الطفل، فلا يستوعب ذلك، وذلك لأن محل قبول الأمر متوفر لدى الشاب دون الطفل.

 

ولو نصحت شخصين بنصيحة واحدة، فاستنصح أحدهما ولم يستنصح الآخر، فإن ذلك دليل على أن لدى أحدهما محلا لقبول النصيحة دون الآخر، قال ابن القيم -رحمه الله-: ثم فكرت، هل للتوفيق والخذلان سبب، أم هما بمجرد المشيئة لا سبب لهما؟ فإذا سببهما أهلية المحل وعدمها، فهو -سبحانه- خالق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت. انتهى كلامه رحمه الله.

 

فالأمور المعنوية، شأنها شأن الأمور الحسية، لا بد لدخولها واستقرارها وبقائها، من محل تبقى فيه، ومكان تسكن إليه، فإن لم نوجد للموعظة محلا، فكيف يتضمخ بها القلب؟كونها تلج من ها هنا وتخرج من هنالك، لا يستفيد منها القلب، لأننا ما لم نهيئ لها مكانا في أنفسنا فلن تستقر، ولن تبقى إلا ببقاء صدى النصيحة في الأذنين، فهل تنبهنا لأهمية المكان، وقيمته العظيمة؟ وإن التوجيهات والنصائح، والكلمات والمحاضرات، والخطب والمواعظ، لا تفعل شيئا، ولا تحرك ساكنا، ما لم نعد لها مكانا في أنفسنا تستقر فيه، ومحلا في قلوبنا تلج إليه.

 

فنسأل الله أن يوفقنا لذلك، وأن يعيذنا من أن نكون ممن قال الله فيهم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال:22-23].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

إخوة الإسلام: إن أهمية المكان، وإحداث المكان، لِتلج إليه المواعظ والنصائح، لهي مما يغفل عنه كثير من الناس، وهو أمر يدرك بالنقل قبل العقل، قال الله -تعالى-: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ) [يونس:42]، وقال -سبحانه-: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) [الروم:52].

 

عباد الله: إن الأماكن المعنوية، تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم أعطاه الله أماكن محددة كالجمادات والبهائم، تستوعب محلاتها على قدر ما تحتاج إليه، من غذاء وتناسل، وغير ذلك، مما تتصل به مع بعضها البعض، أو مع غيرها من البشر، بطرقها البهيمية، كتعليم الطيور، وتكليب الكلاب، ولا تصل هذه الأماكن إلى درجة أماكن البشر، واستيعاب تكاليف العبادة، فرفع الله عنها تكاليف العبادة مطلقا، وجعل منها متعا وزينة لعباده.

 

وقسم منحه الله صنع الأماكن وتطويرها، وتوسيعها، لتستوعب، ما يمكن استيعابه، من علوم الشريعة، وأسباب الهداية والتوفيق، والعلوم الدنيوية، ووسائل العيش والتربية، والمدنية والاجتماع، وغير ذلك مما هو على نحوه وشاكلته، وهذا القسم مكلف بالعبادة، مأمور بأوامر الشريعة، محاسب بشريعة الله في الدنيا، ومجزي على عمله في الآخرة، وهؤلاء هم نحن يا عباد الله.

 

وأما القسم الثالث فهو قادر على صنع أماكن الاستيعاب ولكنه ممنوع منه مؤقتا، إما لنمو في العقل الصانع كالصغير الذي لم يبلغ، أو لاحتجابه بمانع، بذهاب العقل كالمجنون والنائم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق".

 

نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا وإياكم جميعا، لفتح أماكن الخير في قلوبنا، وسلوك سبل الهداية، إنه سميع مجيب.

 

ألا وصلوا وسلموا...

 

 

 

المرفقات

المنصتون.. أين الأماكن؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات