أولئك هم الراشدون

محمد بن عبدالله السحيم

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/منزلة الرشد ومكانته 2/أسباب وسبل تحصيل الرشد 3/فوائد وثمرات الرشد

اقتباس

أيها المؤمنون: إن محبةَ القلب للإيمان، وإصغاءَه إليه، واستحسانَه له، ونفرتَه من المعاصي، وبغضَها بشتى صورها، أجلُّ ما يُكرِمُ اللهُ به عبدَه؛ فبها يُشرح الصدر للهدى، وتُحفز النفس للطاعة، وتَصبر على مشاقها، وتُستعذَب لأواءُ الأقدار، وتُجتنب مواطن المساخط والقبائح؛ وذاك سبيل الرَّشَدِ اللاحبُ، وقرارُه المَعين؛ إذ هو بصيرة نافذة وافقت أمر الله في تحسين ما حسّن، وتقبيح ما قبّح؛ إقراراً وقولاً، تركاً وفعلاً، وهل الرَّشَد إلا ...

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الهادي إلى صراطه المستقيم، الداعي إلى دار النعيم، ذي الفضل العظيم، والسلطان القديم، وأشهد ألا إله إلا الله البر الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أوفى تسليم.

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-: فإنها وصية الله للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131].

 

عباد الله: الرشد مقام رفيع، يستقيم به صاحبه على طريق الحق، والعمل به، والثبات عليه، وذاك مهيع جلي لا غموض فيه، ولا لبس؛ كما قال الله -تعالى-: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[البقرة: 256].

 

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر سؤال ربه إياه، إذ يقول: "اللهم قني شر نفسي، واعزم لي على أرشد أمري"[رواه أحمد وصححه ابن حبان].

 

وكان يتفاءل بحصوله إذا رأى هلال كلِّ شهر بادياً؛ فقد كان إذا رأى الهلال، قال: "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله، هلال رشد وخير"[رواه الترمذي وحسنه].

 

فإن سألتَ عن عُمَد الرشد التي يقوم عليها ساقه، ويُشيَّد عليها بناؤه، فإنها محض منّة ربانية؛ يتفضل بها العليم الحكيم على من سبقت له منه الحسنى؛ حين يحبِّبُ إليه الإيمان، ويزيِّنُه في قلبه، ويبغِّض إليه الكفر والفسوق والعصيان؛ يقول الله -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الحجرات: 7-8].

 

أيها المؤمنون: إن محبةَ القلب للإيمان، وإصغاءَه إليه، واستحسانَه له، ونفرتَه من المعاصي، وبغضَها بشتى صورها، أجلُّ ما يُكرِمُ اللهُ به عبدَه؛ فبها يُشرح الصدر للهدى، وتُحفز النفس للطاعة، وتَصبر على مشاقها، وتُستعذَب لأواءُ الأقدار، وتُجتنب مواطن المساخط والقبائح؛ وذاك سبيل الرَّشَدِ اللاحبُ، وقرارُه المَعين؛ إذ هو بصيرة نافذة وافقت أمر الله في تحسين ما حسّن، وتقبيح ما قبّح؛ إقراراً وقولاً، تركاً وفعلاً، وهل الرَّشَد إلا هذا؟! يقول الله -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 125].

 

ويقول: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)[التغابن: 11].

 

وهذا ما جعل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يسأل ربه تلك الكرامة، ومودةَ من أُكرِم بها، ومودةَ كلِّ سبب موصل لها؛ إذ كان يدعو قائلاً: "أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّك"[رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].

 

فالفضل من الله وحده، والعبد مأمور بالسعي إليه، ومعاتَب على التفريط فيه والنكوص عنه.

 

عباد الله: إن لدرك الرَّشَد أسباباً يأتي أولَّها: طاعةُ الله -عز وجل- ورسوله -عليه الصلاة والسلام-؛ فقد، قال صلى الله عليه وسلم: "من يطع الله ورسوله فقد رشد"[رواه مسلم].

 

واتباع القرآن جادة من طلب الرشاد؛ كما قال الله -سبحانه- عن مؤمني الجن: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)[الجن: 1-2].

 

وطلب العلم النافع من سبل تحصيل الرشاد؛ كما قال الله -تعالى- على لسان كليمه موسى للخضر -عليهما السلام-: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)[الكهف: 66].

 

وسؤال الله -سبحانه- تلك المنزلةَ، طريقٌ قويمٌ لنوالها؛ فقد سألها فتية الكهف حين أووا إلى كهفهم: (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الكهف: 10].

 

وأَمَر اللهُ -تعالى- نبيَّه -عليه السلام- بذلك السؤال في ذات سورة الكهف، إذ يقول: (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)[الكهف: 24].

 

وامتثل النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر ربه؛ فكان من سؤاله الرشد، قولُه: "اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي!"[رواه الترمذي وصححه الحاكم].

 

وقولُه صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْد"[رواه أحمد وصححه ابن حبان].

 

وقولُه صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْأَلُكَ مَا قَضَيْتَ لِي مِنْ أَمْرٍ أَنْ تَجْعَلَ عَاقِبَتَهُ رَشَدًا"[رواه أحمد وصححه الحاكم].

 

وقولُه صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ، وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ، وَالْفُسُوقَ، وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ!"[رواه أحمد وصححه الحاكم].

 

فاضرع إلى الله فيما أنت تقصده *** يهديك للرشد في الأفعال والكلم 

 

وطاعة خليفتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما اتفقا عليه من سبل إدراك الرشد؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن يطع الناس أبا بكر وعمر فقد أرشدوا"[رواه ابن حبان في صحيحه].

 

والتؤدة في الأمر وملازمة الأناة من أنجح سبل الرشد، كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ -رضي الله عنهما- فِي الْأَنَاةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ التَّفَهُّمَ فِي الْخَيْرِ زِيَادَةٌ وَرُشْدٌ، وَإِنَّ الرَّشِيدَ مَنْ رَشَدَ عَنِ الْعَجَلَةِ، وَإِنَّ الْخَائِبَ مَنْ خَابَ عَنِ الْأَنَاةِ، وَإِنَّ الْمُتَثَبِّتَ مُصِيبٌ، أَوْ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا، وَإِنَّ الْمُعَجِّلَ مُخْطِئٌ، أَوْ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا، وَإِنَّهُ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ الرِّفْقُ يَضُرُّهُ الْخَرَقُ، وَمَنْ لَا تَنْفَعُهُ التَّجَارِبُ لَا يُدْرِكُ الْمَعَالِيَ، وَلَنْ يَبْلُغَ الرَّجُلُ مَبْلَغَ الرَّأْيِ حَتَّى يَغْلِبَ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَصبرُه شَهْوَتَهُ، ولا يُدرك ذلك إلا بقوة الحلم".

 

وذاك هو الصبر الذي يقول عنه شيخ الإسلام: "لا يُنال الرشاد إلا بالصبر".

 

واستشارة ذوي العلم والرأي استرشاد يقود إلى رشاد، قال الحسن البصري: "ما تشاور قومٌ قطُّ إلا هُدوا لأرشد أمرهم".

 

وذكر ابن قتيبة: أن واعظاً نصح الخليفة أبا جعفر المنصور، فقال: "يا أمير المؤمنين! إن للناس أعلاماً -علماء راسخين- يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بهم في دنياهم؛ فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسدّدوك".

 

وصار من أمثلة العرب السائرة، قولهم: "لن يعدم المشاورُ مرشداً، والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل".

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

 

أيها المؤمنون: إن الارتواء من منهل الرشد والاصطباغ بشعاره مؤذن بثمار يانعة الأثر، والمنظر والمخبر، وأجلُّ تلك الثمار: ذوقُ حلاوة الإيمان؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ"[رواه البخاري ومسلم].

 

ومن شأن هذه الحلاوة: ثبات صاحبها على الحق، وعدم نكوصه عنه، مهما كان الثمن؛ فقد سأل هرقل أبا سفيان -رضي الله عنه- عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أَيَتَّبِعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ قَالَ: لاَ، بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ فقال: لا، فقال هرقل: سَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ القُلُوبِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يُزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِم"[رواه البخاري ومسلم].

 

ويقول القرطبي: "الرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه؛ من الرشاد، وهي الصخرة".

 

وأداء الأمانة، والسلامة من الخيانة من أجلى ثمار الرشد وأجلها، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ، وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ"[رواه أبو داود وحسنه الألباني].

 

ونضج العقل واستواؤه ومقاربة كماله من شأن تحصيل الرشد؛ وذلك مؤذن بحصافة الرأي، وسداد الأفعال والأقوال؛ مما تعلو به المنزلة، وتتحقق الرفعة في الدنيا والآخرة؛ عند الله وعند خلقه؛ فما جزاء من أكرمه الله بالإيمان، وثبّته عليه، ورعى الأمانة، وكان ذا عقل وسداد منطق وفعل إلا العلوُّ والرفعة، وذاك فحوى الإشارة الإلهية إلى مقام الراشدين الرفيع بأداة البعيد في قوله عز وجل: (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)[الحجرات: 7].

 

يا ربّ هيّئ لنا من أمرنا رشدا *** واجعل معونتك الحسنى لنا مددا

ولا تكلنا إلى تدبير أنفسنا *** فالنفسُ تعجز عن إصلاح ما فسدا

أنت الكريم وقد جهّزتُ من أملي *** إلى أياديك وجهاً سائلاً ويدا

 

 

 

 

 

المرفقات

هم الراشدون

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات