أنت لا تملك القرار النهائي

صلاح الدين بورنان

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الحياة الدنيا
عناصر الخطبة
1/حال من حكم عليه بالإعدام في الدنيا 2/حتمية الموت وبعض أسبابه 3/عدم السيطرة على الموت والسعي في تأخيره 4/غفلة الناس عن الله وخطر ذلك 5/اغتنام وقت من حُكِمَ عليه بالإعدام في الطاعات 6/توبة رجل مذنب على يد إبراهيم بن أدهم

اقتباس

نحن كبشر محكوم علينا بالإعدام قبل أن نخلق، ونخرج إلى الدنيا، فالذي أصدر حكم الإعدام فينا، هو الله -جلّ جلاله-. الجهة التي أصدرت حكم الإعدام فينا، هي: محكمة العدل الإلهية. الذي سينفذ حكم الإعدام فينا، هو: ملك الموت. وقت تنفيذ الحكم، هذا في علم الغيب لا نعرف وقته، ولا زمانه ولا مكانه. لكن حكم الإعدام سينفذ فينا حتما لا...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا، ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين، هادياً ومبشراً ونذيراً، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصحَ الأمّةَ، فجزاهُ اللهُ خيرَ ما جزى نبياً من أنبيائه، صلواتُ اللهِ وسلامه عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وآل بيته، وعلى من أحبهم إلى يوم الدين.

 

أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].

 

(وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة 197].

 

كثيرا ما نسمع في الإذاعة، أو في القنوات الفضائية، أو نقرأ في الصحف والجرائد: أن فلانا حكم عليه بالإعدام شنقا حتى الموت، أو رميا بالرصاص حتى الموت، أو بحدّ السيف حتى الموت، أو رجما بالحجارة حتى الموت، وهذا في الدول التى تطبق حكم الإعدام، كالصين، والولايات المتحدة الأمريكية، وباكستان، وإيران، والعراق، واليمن، والسودان، وغيرها من الدول التى تنفذ حكم الإعدام في حق الأشخاص الذين ارتكبوا جنايات وجرائم تستوجب الإعدام حسب قوانين تلك الدول.

 

أيها المؤمنون: هذا الذي حُكمَ عليه بالإعدام، وينتظر تنفيذ حكم الإعدام، تُرى كيف يكون حاله؟ هل يكون فرحا مسرورا أم يكون في حالة خوف وحزن؟ وإذا كان هذا الذي حكم عليه بالإعدام مسلما، لكنه ارتكب جريمة تستوجب الإعدام؟ وينتظر تنفيذ حكم الإعدام عليه، تُرى بماذا سيقضي وقته الذي بقي له قبل تنفيذ حكم الإعدام عليه؟ أيقضيه في اللهو واللعب والسمر والقيل والقال؟ أم يقضيه في التوبة والاستغفار والتسبيح  لعل الله يتجاوز عنه ويعفو عنه؟

 

فإذا كان مسلما حقّا، فإنّه سيقضي هذه اللحظات الأخيرة قبل تنفيذ حكم الإعدام عليه في التوبة والاستغفار، والتسبيح والتهليل، إلى أن ينفذ فيه الحكم.

 

فنحن كبشر محكوم علينا بالإعدام قبل أن نخلق، ونخرج إلى الدنيا، فالذي أصدر حكم الإعدام فينا، هو الله -جلّ جلاله- (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26- 27].

 

(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88].

 

الجهة التي أصدرت حكم الإعدام فينا، هي: محكمة العدل الإلهية: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء: 78].

 

الذي سينفذ حكم الإعدام فينا، هو: ملك الموت: (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة: 11].

 

وقت تنفيذ الحكم، هذا في علم الغيب لا نعرف وقته، ولا زمانه ولا مكانه: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34].

 

لكن حكم الإعدام سينفذ فينا حتما لا محالة شئنا أم أبينا، أحببنا أم كرهنا، وبطريقة التي يريدها الله -عزّ وجلّ- طال الزمن أو قصر، وبأي سبب كان، مرض قاتل، أو حادث مروري، أو سكتة قلبية، تسرب غاز، صعقة كهربائية، أو غيرها من الأسباب المؤدية إلى الموت، فإذا كان إعدامنا حتما محققا، وأكبر من هذا أنّه مجهول الوقت والزمان؛ فهذا يُحتم علينا أن نكون على استعداد تام، وجاهزية تامة؛ إذ نحن أحرى من أي إنسان جنى على نفسه جناية، فحكم عليه بالإعدام في محكمة دنيوية، قد حدد له فيها الزمان والمكان، وهذا ما لفت انتباهنا إليه عليه الصلاة والسلام في وصيته لابن عمر -رضي الله عنهما- أنّه قال: "أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

 

وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" [رواه البخاري].

 

ومن هنا ندرك ويدرك الجميع أيًّا كانت منزلته ومكانته، وحجمه ومكانه: أن القرار ليس بيده، وأن الأمر خارج عن السيطرة والتحكم، والحكم لا تأخير فيه، ولا يقبل فيه شفاعة، ولا يرجى فيه تعديل، ولا تنفع فيه الوساطات، أو الجاه، أو الاتصال بوزير العدل، أو دفع أموال لعل الحكم يتغير، كل هذا لن ينفع، يقول عزّ وجل: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34].

 

والعجيب والأغرب: أنه لما كان القرار ليس بيدك، لماذا الغفلة عن الله والتفريط في حقه؟ ولماذا التكاسل في طاعته والتواني في قربه؟ ما الذي غرك بربك حتى نسيته وقد كان الأصل أن تحث السير إليه، وتسرع الخطى إليه، بما أنّ حُكمَ الإعدام قد أخذ فينا جميعا، ولم يبق الآن إلإّ تنفيذ الحكم.

 

فهل يعقل أن ترى أن إنسانا حُكِمَ عليه بالإعدام يسارع إلى ارتكاب كبائر الذنوب، كالزنا، والربا، وشرب الخمور، والمخدرات، وسرقة المال العام والخاص، والرشوة، وشهادة الزور، وتحاكم إلى القوانين الوضعية، وغيرها من الموبقات، وانشغالنا التام بعمارة الدنيا، وكأننا مخلدون، وتخريب الآخرة، وكأنّنا لا نموت أبدا، كحالنا نحن في هذا الزمان؟!

 

من المفروض أنّ الذي حُكِمَ عليه بالإعدام: أن يغتنم اللحظات الباقية من حياتة في التوبة والاستغفار والإكثار من الطاعات والقربات، والتصدق والإحسان إلى الخلق، لعلّه يُختم له بخاتمة حسنة، ويلقى الله على أحسن حال.

 

نسأل الله أن يهدينا جميعا لما يحبه ويرضاه، وأنّ يبصرنا بعيوبنا وأخطائنا، إنّه ولى ذالك والقادر عليه.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا.

 

أيها المؤمنون: جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم، فقال: "يا إبراهيم لقد أسرفت على نفسي بالذنوب والمعاصي فقل لي في نفسي قولاً بليغاً؟ قال إبراهيم بن أدهم: "أعظك بخمس".

 

قال: هات الأولى؟

 

قال: لا تأكل من رزق الله إذا أردت أن تعصيه.

 

قال: كيف يا إبراهيم! وهو الذي يُطعِم ولا يُطعَم؟ قال: عجباً لك تأكل من رزقه وتعصيه؟

 

قال: هات الثانية؟

 

قال: الثانية: لا تسكن في أرض الله، واعصِ الله.

 

قال: كيف يا إبراهيم! والأرض أرضه والسماء سماؤه؟

 

قال: عجباً لك، تأكل من رزقه وتسكن في أرضه وتعصيه؟

 

قال: هات الثالثة؟

 

قال: الثالثة: اذهب في مكان لا يراك فيه الله، واعصِ الله.

 

قال: أين يا إبراهيم! وهو الذي لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ؟

 

قال: عجباً لك، تأكل من رزقه وتسكن في أرضه وفي كل مكان يراك ثم تعصيه؟

 

قال: هات الرابعة؟

 

قال: الرابعة إذا أتاك ملك الموت ليقبض الروح فقل له: إني لا أموت الآن.

 

قال: من يستطيع يا إبراهيم! والله يقول: (إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس: 49].

 

قال: عجباً لك، تأكل من رزقه وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك وتعصيه؟

 

قال: هات الخامسة؟

 

قال: الخامسة: إذا جاءتك ملائكة العذاب تأخذك إلى النار، فخذ نفسك إلى الجنة، قال: من يستطيع هذا يا إبراهيم؟ قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا ناراً، ثم تعصيه؟

 

قال: اسمع يا إبراهيم! أنا أستغفر الله، وأتوب إليه، فأعلنها توبة وإنابة، وفراراً إلى الله.

 

وأنت يا من تأكل رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا ناراً، أما آن لك أن تتوب وتستغفر علام الغيوب؟!

 

 

 

المرفقات

لا تملك القرار النهائي

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات