أليس الله بأحكم الحاكمين

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

 

 معاشر الصالحين: الشكر للنعمة عِقال يحبسها، وحافِظ يحرسها، ورقيب يكنفها، وراعٍ يكفلها، ورباط يمعنها من الإباق ووثاق يصدها عن الفراق، حتى إذا استقرت في مسالكه واستوت في مرابعه ولهت في مراتعه وحصلت في ضمنه وعلقت في رهنه، وأمسكت بحبله أقامت فلم تسرح، وأربت فلم تبرح وأنست فلم تنفر، وأمنت فلم تزعر.

 

فاستديموا نعمة الله بحسن الفِعَال ودوام الشكر، تحظوا فيها بتمادي البقاء وطول العمر، واعملوا في ذلكم بما دعاكم إليه تنالوا ما وعدكم به، وتجنبوا ما نهاكم عنه تأمنوا ما حذركم منه، فإنه تعالى يقول: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].

 

معاشر الأحباب: جاء شهر الله المحرم وهو موسم رابح جاء بعد مواسم عظيمة جعل الله فيها للمؤمن أعظم الغنيمة، وفي ذلك ما فيه من الإشارات السنيات من رب البريات لأصحاب الفهم وأرباب العظم، إن الله يريد أن يرقيك إلى مقامات القرب الأشف وينتشلك من الحضيض الأسف، فتوالي هذه المواسم وتتبعها على المؤمن منح تستوجب شكرها والتعرض لنفحاتها، فنفحات الله ينالها المتعرض ويحرمها المعرض، ينالها المثابر ويحرمها المكابر.

 

ومن أرقى مظاهر شكر النعم المتمثلة في هذه المواسم إمساك الزمام زمان النفس والسير إلى الأمام هروبًا من الرجس، والتخلص من أمراض الحس، فتوالي العطايا يدفع أرباب الفهم إلى الحياء، الحياء من المعطي أن يراك على مخالفته ومعارضته ومعاندة أمره ومصاحبة نهيه.

 

جاء رمضان وفيه ما فيه من منح العناية، وسبل الرعاية، ثم جاء شوال، فكان صيام الست يعدل صيام الدهر منحة من ربنا للارتقاء بنا.

 

ثم جاء موسم الحج يحمل معه سحائب البركات والخيرات، سواء للواقفين بالباب ممن لم يتيسر لهم لمس تلك الأعتاب.

 

صوم يوم عرفة يكفر الله به ذنوب سنتين ماضية وآتية، وتلك منحة سنية للأمة المحمدية، ثم جاء شهر الله المحرم وفيه أفضلية وفضائل فقد صح عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "أفضل الصيام عند الله بعد صيام شهر رمضان صيام شهر الله المحرم".

 

فدل الحديث على أن أفضل الصيام أجرًا وأعظمه تطهيرا وطهرا بعد رمضان: شهر الله المحرم فضلاً عن الوارد في صيام عاشره، عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله" (أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما).

 

هذا فضل شهر الله المحرم فما موقفنا نحن أيها الأحباب من المحرم؟ لا أقصد الشهر من الأيام، ولكن أقصد المحرم من الأعمال هذه المنح المتوالية هل ارتقت بنا إلى مراقبة الله واجتناب ما حرم؟ هذا هو المقصود الأكبر عند أصحاب الفكر الأنور الذين يجعلون من الأيام مطايا تقربهم من الملك العلام، فمن أراد أجرًا غير مقطوع ووردًا غير ممنوع فليستغل الأعمار في الأعمال الصالحة فتلكم والله البضاعة الرابحة.

 

قال تعالى (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) [التين: 1- 8].

 

فلهم أجر غير منون أي غير مقطوع، أجر دائم مستمر في حياتهم وبعد مماتهم، أجر لا يرتبط بمواسم ولا أزمنة، بل أجر ممتد وبساط يحمل العبد من ارتقاء إلى ارتقاء إلى ارتقاء حتى يصل به إلى الوادي الأفيح؛ حيث يجتمع أهل الجنة فيجلس الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، فيكشف لهم الرب عن وجهه الكريم، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى وجه ربهم الكريم.

 

ثم تختتم سورة التين بقوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، وأنتم تسمعون معاشر الكرام أن المأمومين يقولون بعد قول الإمام: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) يقولون: "بلى" إقرار منهم بأن الله هو أحكم الحاكمين، ولكن قول "بلى" هل هو مقتصر على المسجد؟ أين ذهبت "بلى" وأنت تتعامل بالربا؟ ألم تقر بأن الله أحكم الحاكمين بقولك: "بلى"، فأين ذهبت "بلى"، وأنت تتعامل بهذا البلاء؟!

 

 ألم تسمع قول أحكم الحاكمين الذي أقررت بحكمته وحكمه بقولك: "بلى" ألم تسمع قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة: 278- 279].

 

ألم يبلغك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ".

 

فأين ذهب إقرارك بقولك: "بلى" فالإقرار لا يكفي بدون عمل، الإقرار لا يكفي بدون عمل، ولا يكون له اعتبار، تقول: "بلى"، ثم تدخل لتدفع الرشوة لتصل بها إلى حق غيرك وأحكم الحاكمين يقول: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:188].

 

ألم يبلغك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش" فأين ذهبت "بلى" إذاً؟!

 

تقول "بلى" في المسجد ثم تخرج لتتاجر في المحرمات من خمر ودخان، وغير ذلك مما حرم الله، وأحكم الحاكمين يقول: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[الأعراف: 157].

 

ألم يبلغك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لعن اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وآكل ثمنها"، كل هذه المنظومة المتصلة بالخمر ملعونة فأين ذهبت "بلى".

 

تقول "بلى" في المسجد ثم تخرج لتغتاب المسلمين وتنهش في أعراضهم، وتحكم على نواياهم، ومع الأسف إن الغيبة في زماننا أصبحت حتى في مساجدنا دون مراعاة لحرمة بيوت الله انتصارًا للذات ولو بالكذب والافتئات, ألم يبلغنا قول أحكم الحاكمين: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات: 13].

 

ألم يبلغك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"، فأين ذهب قولك "بلى"؟!

 

وأنت تقر بأن الله أحكم الحاكمين تقول "بلى"، وتترك بناتك عاريات متبرجات، وأحكم الحاكمين يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)[الأحزاب: 59]، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في دار سيده راعٍ وهو مسئول عن رعيته" (متفق عليه).

 

تقول "بلى" ثم تقصد السحرة والكهان، وتتمسح بالأحجار والأشجار، وتذبح لغير الله، وتصدق الكذبة من السحرة وأحكم الحاكمين يقول: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ..)[البقرة: 102].

 

ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"، بل ثبت أخطر من هذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-".

 

فإذا أقررت أن الله هو أحكم الحاكمين فلماذا تقصد السحرة؟ لماذا تستغيث بالقبور؟ لماذا تقدم لها الذبائح والنذور؟ إن قولك: "بلى" إقرار منك بأن الله أحكم الحاكمين، وهذا الإقرار يقتضي منك أن تجعل حياتك وفق مراد أحكم الحاكمين.

 

جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرا وجهرا آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الخالق للخلق القائم بالحق الواهب للعقل الآمر بالعدل أحسن كل شيء خلقا وتصويرا، وأحكمه ترتيبا وتدبيرا، وأبرمه تحبيرا وتحريرا، والصلاة والسلام على النبي الخاتم ذي الخلائق الصالحة والطرائق الواضحة والرسائل الصادعة والدلائل الناصعة، اللهم صلّ عليه وعلى آله وتبعه إلى يوم الدين..

 

معاشر الصالحين: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)؟ بلى، هذا الإقرار منك حليته وتمامه وتصديقه أن تطيع أحكم الحاكمين، أن تنقاد لأحكام أحكم الحاكمين، أن تعتقد أن أوامره ونواهيه وأحكامه سبل نجاة وطوق حياة، حياة طاهرة نقية وعيشة سوية مرضية، أما ترديد كلمات الاعتراف مع الإصرار على الاقتراف، فأمارة انفصام ودليل عدم انسجام.

 

قولك "بلى" يقتضي منك أن كل ما وافق القرآن علم وحق وكل ما خالفه جهل وهوى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الجاثية: 18].

 

كثيرون اليوم شغلوا دنيانا اليوم بدعاوى التنوير، وما هو بتنوير، أما التنوير فقد أخبر عنه أحكم الحاكمين قال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا)[النساء: 174]، وقال: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ)[المائدة: 15]، وقال: (وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157].

 

هذا هو التنوير كثيرًا ما تشعل أعواد ثقاب فكرية وتسمى تنويرًا، كثيرون من أدعياء الفكر والثقافة اليوم يقولون: "بلى" عند سماعهم: "أليس الله بأحكم الحاكمين"، فإذا رجعوا إلى كتاباتهم وآرائهم وجدتها مناقضة تمامًا لمنهج أحكم الحاكمين.

 

أيها الأحباب: الثقافة والفكر المجرد لا يخرج الإنسان من الأمية الشرعية؛ لأن كثيرًا من كفار قريش كانوا أصحاب فكر يناسب عصرهم كأبي جهل وكنيته من قبل أبو الحكم لفكره وحكمته عندهم، فظن أن وعيه وفكره يكفيه لرد حكم الله القاطع فسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا جهل.

 

الفكر هو تحريك العلم، وإذا زاد العلم وزاد التفكر خرجت الأفكار النافعة، وأكثر الأضرار من مفكر بلا علم، أكثر الناس يدركون بداية الأفكار، ولكن القلة يدركون متى تنتهي بهم، الأفكار بنهايتها لا ببداياتها فمرارة النهاية تذهب حلاوة البداية.

 

قد يهلك الإنسان بفكره وعقله ولو أطال الفكر والتأمل قال تعالى عن الوليد بن المغيرة إنه (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) [المدثر:18- 27]، تفكر طويل ينتهي به إلى مصرع وبيل؛ لأن الفكر إن لم يكن منضبطًا بأنوار الوحي التي هي أنظار الوعي ضل صاحبه بالتحقيق وهوى في مكان سحيق.

 

إن الكاتب إن لم يكتب انطلاقا من قول الله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، كانت كتاباته وبالاً عليه، وعلى من تلقاها بالقبول، الكاتب الأجير لا يصنع فكرًا ولا يحمي وطنًا ولا يجلب ولاء ولا يخيف خصمًا، يكتب إذا خاف وطمع ويتنكر إذا أمن وشبع.

إن الفكر والكتابة ينبغي أن يكون من منطلق العلم، العلم بالله وقدرته وعظمته، ومن لطائف الإشارة (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)،  يليها مباشرة في السورة التي بعدها قول الله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق:1- 2]، ففي سورة التين (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) [التين:5]، وفي مطلع سورة العلق التي بعدها (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق:2].

 

ومن التناسب بين الآيتين والسورتين ما لا يخفى فقراءة بغير اسم الله وفكر بغير اسم الله ينزل بالإنسان إلى أسفل سافلين؛ حيث تُباع الضمائر والمبادئ، تبتدئ سورة العلق بقول (اقْرَأْ) وتنتهي بقوله سبحانه (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، فقراءة باسم الله وخضوعًا له جلا في علاه هما سبيل الاقتراب وفتح الباب فطوبى لمن وعى وأناب .

 

الإعلام .. إعلام المسلمين إن لم ينطلق من قول الله (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، كان معول للهدم، هدم الأخلاق والقيم، بل والعبث بالعقائد وتقديم الفاسد في ثوب الجمال والصلاح.

 

أعداء الإسلام اليوم شُغلوا العالم بحرب الاستبداد على الأبدان، ثم تسللوا من تحتهم لاستبداد العقول وجلدها بالإعلام لتزعن لفكره .

 

وهل الأبدان إلا جثث تسوقها العقول؟ نعم لقد جلدوا العقول فظهر فينا من يطعن بالأصول، وكم شاهدنا وسمعنا من يطعن في أصول المسلمين الثابتة المتلاقاة بالقبول، طعنوا في الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطعنوا في بعض الصحابة الكرام تحت دعوى أن بعض الأحاديث لا تناسب العصر وما شابه ذلك.

 

واليوم هناك حملة للتشكيك في صحيح البخاري، ويتساءل المرء لماذا البخاري بالذات؟ ليهدم في وجدان المتلقي أنه أصح كتاب بعد كتاب الله يهدم عنده هذا اليقين ليسقطوا تلك الهيبة ويحطموا ذلك التصديق فيسهل الاقتحام.

 

لقد هيئوا جيلاً من المعطوبين واستعملوهم في زعزعة ثوابت المسلمين تحت عناوين الفكر الإبداع، الثقافة، حرية الإعلام، وأضفوا عليهم هالة من المديح.

 

ومعلوم أن النفس إذا تشبعت بحب نفسها شق عليها ترك أخطائها حتى لا تخسر المادحين، لقد خلقنا الله في أحسن تقويم عقلاً وفكرًا وسلوكًا وأخلاقًا، فاغتالتنا الشياطين شياطين الإنسان والجن يوحي بعضهم إلى بعضهم زخرف القول غرورًا، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام:112].

 

وتأملوا في هذه الإشارة (زُخْرُفَ الْقَوْلِ)، وهذا هو دور المفسدين اليوم زخرفة الأقوال من أجل الإضلال، ولله در القائل:

فِي زُخْرُفِ الْقَوْلِ تَزْيِينٌ لِبَاطِلِهِ *** وَالْحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبِيرِ

تَقُولُ: هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ *** وَإِنْ ذَمَمْتَ تَقُلْ: قَيْءُ الزَّنَابِيرِ

مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا *** حُسْنُ الْبَيَانِ يُرِي الظَّلْمَاءَ كَالنُّورِ

 

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ ..) [الأنعام:112- 113].

 

تأملوا رحمكم الله (وَلِتَصْغَى)، ومعلوم أن الإصغاء يكون بالسمع، ولكن هنا قال ربنا (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) زخرفة القول أدت إلى امتلاك قلوب المتلقين حتى أصبحوا يتلقون بقلوبهم (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) ..[الأنعام:113- 114].

 

سبحان الله ما أعظم التناسب (أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) هي (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)،  (وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) هي (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1- 5].

 

فقراءة وفكر، وثقافة وكتابة، ومعاملات وأخلاق، وعبادات ومحبة، وحركة وسكون؛ كل ذلك إن لم يكن تحت ظلال (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، كان شذوذًا وانحرافًا وإتباعًا للهوى وميلاً عن الحق (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)[ص: 26].

 

أيها الأحباب الكرام: علينا جميعا أن نشكل حياتنا وفق قول ربنا الأكرم (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، فإن أحوالنا ومعاملاتنا وسلوكنا من كبر وحب محمدة وانتصار للنفس وغش، وأكل لأموال الناس، وتجرؤ على محارم الله وتغيير للمبادئ وفق المصلحة الدنيوية المحدودة، وغير ذلك من مظاهر الانحراف والانصراف والانجراف عن شريعة الله كل ذلك يدعونا إلى تشديد التوبة، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

 

فعلام بُعد هذا المعول وماذا يتأول؟ فلنتقِ الله في أنفسنا ولننصحها، ولنغتنم فرص الحياة ولنرتجها قبل (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر:56]، وتقول يا ليت: (نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، وتقول أخرى (رَبِّ ارْجِعُونِ) وتستغيث أخرى (هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ).

 

فرحم الله من نظر لنفسه قبل غروب شمسه، وقدّم لغده من أمسه، وعلم أن الحياة تجر إلى الموت والغفلة تقود إلى الفوت، والصحة مركب الألم، والشبيبة سفينة فقط تقطع إلى ساحل الهرم.

 

اللهم أصلح أحوالنا، واجعل بطاعتنا اشتغالنا وإلى الخيرات مآلنا ..