عناصر الخطبة
1/ملخص رحلة الإنسان في الحياة 2/تقلب حال الإنسان بين ضعفين 3/النظرة الصحيحة إلى الشيخوخة والتقدم في العمر 4/فضائل كبار السن وأهميتهم في المجتمع 5/حقوق كبار السن في الإسلام 6/تعامل الحضارة المزيفة مع كبار السن 7/من صور إكرام كبار السن.اقتباس
لا خير في أمة تتنكّر لكبارها، وتجحد تاريخ مُسنّيها، لا خير في ابن يَبرّ صديقه ويُهين أباه، ويكرم زوجته ويحرم أُمّه، لا خير في بيت حُرِمَ دعوات الكبار وبركاتهم، وبُوركت بيوت تستلذّ بخدمة كبارها وترى في شعراتهم البيضاء أنوارًا تضيء جوانبها، وفي تجاعيد وجوههم خطوط سعادتها وتسترخص لأجلهم كل بذل وعطاء...
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله الذي خلقنا من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وبثَّ منهما رجالاً كثيرًا ونساء، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له؛ خلق فسوى، وقدَّر فهدى؛ فهو المستحِق حمدًا وثناءً، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله؛ الذي علّمنا وأرشدنا وأفنى حياته بذلاً وعطاءً، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا بررة أتقياء وسلم تسليمًا.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله ونفسي- بتقوى الله؛ فاتقوا الله، واتقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله، واتقوا النار التي أُعِدت للكافرين والظالمين.
بدأ خلق الإنسان من ضعف، ثم كان من بعد الضعف شباب وقوة، ثم جاء من بعد القوة ضعف وشيبة.
هكذا هي رحلة الإنسان في هذه الحياة. تبدأ بضعف وتنتهي بضعف. أما في الضعف الأول فيجد مَن يحميه ويكرمه ويطعمه ويسقيه ويؤويه. وأما في الضعف الآخر فيجد من يتنكر له ويستثقله ويزدريه.
إن هذه المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان تغيُّرات طبيعية، وقدَر من أقدار الله الحتمية وسننه في الحياة البشرية، لا يملك الإنسان لها دفعاً مهما جهد في ذلك. ومِن ثَم ينبغي أن يتقبلها المسلم باعتبارها أمراً حتمياً قضاه الله على عباده، فلا يُصاب من جرّائها بالضيق والضجر، ولا يتبرم بها، فيلجأ إلى الانتحار أو يقع في دوامة من الاكتئاب واليأس. كما يحدث في بعض المجتمعات التي بعدت عن هدى الله.
إن هذه التغيرات التي يمر بها الإنسان في هذه المرحلة لا تُغيّر من حقيقته كإنسان يتمتع بالكرامة، وله حقوق ينبغي أن تُصان ويُحافَظ عليها.
كما ربَّى الإسلام المسلم على الأمل والرجاء في رحمة الله، فلا ييأس ولا يقنط مهما كانت الظروف التي يمر بها من ضعف أو عجز: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87].
كما أن تعاليم الإسلام تُربِّي المسلمين على أن ينظروا إلى الشيخوخة والتقدم في العمر على أنها نعمة من نعم الله؛ فقد ورد في الحديث: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله".
فما أجمل الإنسان يزداد عمره وتزداد معه حسناته! وما أسوأ المُسِنّ الذي يشيب وتشيب معه سيئاته! ما أسوأ المُسِنّ الذي يتهاون بالصلاة، ويقصر في الطاعات ويرتكب خوارم المروءة! ما أسوأ المُسِنّ الذي لم يمنعه شيبات رأسه من معاكسة النساء والظهور في مواقع التواصل بما لا يليق! ما أسوأ المُسِنّ الذي تراه في المضامير قد كشف عن فخذيه المهترئتين لا يحجزه دين ولا حياء!
كما أن الحياة في نظر المسلم ليست عبثاً، بل إنها في جملتها ابتلاء واختبار. فطول العمر وقِصَره، والقوة والضعف، والقدرة والعجز كلها امتحان من الله -تعالى-، يستلزم الشكر أو الصبر؛ (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك: 2].
إن كِبَر السِّنّ لا يعني الوهن والتكاسل، ولربما وجدت شيوخًا من علماء وقادة لم يقف كِبَر السِّن عائقاً أمام الأعمال العظام والمهام الجسام، ولربما وجدت مَن بلغ الثمانين يفوق في عطائه أبناء الأربعين.
إن كبار السن بيننا هم الفئةُ العزيزةُ الغاليةُ، التي لها المكانةُ العاليةُ، هم في المساجد شموعها والنور، وهم في البُيوتِ مصدرُ السَّعادةِ والسُّرورِ، وهم في العوائلِ أعمدةُ الحِكمةِ والنُّورِ، قد ذَهبَتْ قُوَّتُهم، وجاءَ ضَعفُهم وشَيبَتُهم؛ كما قالَ -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)[الروم: 54]، فكَم من نَصرٍ ورِزقٍ جاءَ من دُعائهم وصلاتِهم؛ فـ"هلْ تُنْصَرونَ وَتُرْزَقُونَ إلا بضعفائِكمْ؟ بدعوتِهم وإخلاصِهم".
قد شابتْ رؤوسُهم من تَجاربِ الزَّمنِ وشَريطِ الذِّكرياتِ، وتوقَّدِتْ عقولُهم من مواقفِ ومواعظِ مَدرسةِ الحياةِ، إذا تكلَّمَ سَمِعتَ في حديثِه التَّاريخَ والحَوادثَ والخَبَرَ، وإذا سكتَ رأيتَ على وجهِه الأسرارَ والعِبرَ.
إن الكبار في أعمارهم كبار في أعمالهم وهِمَمهم وخبراتهم وتجاربهم ونظرتهم.
إن بياض شعورهم وتجاعيد وجوههم وانحناء ظهورهم يحكي قصة من الكفاح والمعاناة لإنشاء جيل وتكوين أسرة وبناء وطن. إنه يحكي فترة من الزمن عانوا فيها من البأساء والضراء، وتعرضوا خلالها لأنواع من الشدة والبلاء ليطعموا صغيرًا، ويزوّجوا كبيرًا، ويداووا مريضًا، ويجبروا كسيرًا.
إن كبار السن في كل مجتمع هم ثروة لا ينبغي أن يُستهان بها؛ فالبركة مع الأكابر، وفي تجاربهم في الحياة دروس وعِبَر لمن عرف قَدْرهم وأدرك فضلهم.
"إن من إجلال الله -تعالى- إكرام ذا الشيبة المسلم"، خصوصًا الوالدان، وقد خصّهما الله بالتوصية؛ (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23-24].
فأوصى بِهما إذا بَلَغا الكِبرَ، أتعلمونَ لماذا؟، لأنَّ كبيرَ السِّنِّ يَلتفتُ فلا يَرى الأحبابَ، ويُنادي فلا يُجيبُ الأصحابُ، قد ذهبَ الأهلُ والأصدقاءُ، وقد ماتَ العَشيرُ والجُلساءُ، فعِندَها يَحزنُ القَلبُ ويضيقُ الصَّدرُ، ويحتاجونَ إلى مُعاملةِ الإحسانِ والصَّبرِ؛ (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، و"ليس منا مَن لم يوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا قَدْره".
فإذا كُنتَ عِندَهم فاسكتْ، وإذا تَكلموا فأنصِتْ، وأطفئ جوالَكَ، وأجِّلْ أشغالَك، فذلكَ من توقيرِهم الذي هو من تَعظيمِ اللهِ -تعالى-، كما قالَ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إنَّ من إجلالِ اللَّهِ -أيْ: تَبجيلِهِ وتَعظيمِهِ- إِكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلمِ"، وذلكَ بالتَّوقيرِ والاحترامِ، وإنزالِه شَريفَ المَقامِ.
والكبيرُ هو الذي له الحقُّ في أن يُوصلَ ويُزارَ، ويجتمعَ عندَه في المنزلِ الكِبارُ والصِّغارُ، فعِندَما دَخلَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ فَاتحاً مُنتصِراً، فإذا بأَبي بَكْرٍ -رضيَ اللهُ عَنهُ- آخِذ بَيَدِ أبيهِ أَبِي قُحَافَة؛ ذلكَ الشيخ الكَبِير، يَسُوقُهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلمَّا رَآهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ لَهُ مُعاتِباً: "ألا تَرَكْتَهُ حَتَّى نَكُونَ نَحْنُ الَّذِي نَأْتِيهِ؟"، هكذا كانتْ أخلاقُ إمامِ المتَّقينَ، وخاتمِ النَّبيينَ، مع الكِبارِ والمُسنينَ.
إنه لا بد أن تتربى الأمة صغارها وكبارها على الوفاء لمن سبقوهم في الحياة، وعلى إنزالهم منزلتهم اللائقة بهم، والأدب في الحديث معهم، والحذر من استحقارهم وازدراء عقولهم وتفكيرهم. وإن حسن العهد من الإيمان، ولا خير في أمة جفَّت فيها ينابيع الوفاء.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإذا أردت أن تعرف صورة من صور عظمة هذا الإسلام ومنَّة الله علينا بالهداية له؛ فقَلِّب بصرك وبصيرتك، وتأمل في حال القذارة الغربية، ومن تبعهم من المنهزمين من المسلمين في تعاملهم مع كبارهم ومسنيهم.
إنها الحضارة المزيفة، والتي تتعامل مع الإنسان تعاملاً ماديًّا، فبقدر ما تستفيد منه تكرمه، فإذا وهن منه العظم واشتعل الرأس شيبًا، واحتاج إلى مَن يخدمه ويبرّه ويرعاه؛ ألقته في الملاجئ ودُور الرعاية، فلا أبناء يبرّونه ولا أقرباء يزورونه، ولا أصدقاء يؤنسونه؛ فيتقلب في الوحدة والعزلة إلى أن يموت.
ثم قلِّب نظرك في مجتمعات المسلمين الموحدين لتجد المُسِن يحظى بالتكريم والدًا وقريبًا وجارًا وأخًا مسلمًا. فالمؤمن أخو المؤمن، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض، وبالوالدين إحسانًا، وبذي القربى والجار ذي القرى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل.
في مجتمعات المسلمين المتمسكين تجد الكبير يُقدَّم في المجالس، يُقبّل رأسه الصغير والكبير، ويُؤثَر بالطعام والكلام، ويُعامَل بالتقدير والاحترام.
إن إكرام الكبار دِين ودَيْن، فأكرموهم بجميل الكلام وحسن التعامل.
أكرموهم بتعليمهم ما يجهلونه من أحكام دينهم باللطف والحسنى.
أكرموهم باستشارتهم والأخذ برأيهم والاستنارة بأفكارهم وعقولهم.
أكرموهم بعدم إشعارهم بضعفهم وعجزهم. فمن سوء الأدب معهم أن تحتقر قدراتهم وطاقاتهم، وكم في التأريخ من صور من البذل والعطاء لهذا الدين جهادًا ودعوةً وتعليمًا كان أبطالها شيوخًا وكبارًا، لم يَزِدهم وَهَن العظم إلا قوةً في العزم والحزم. وإن المُسِن من شابَت مشاعره لا شَعره، ومَن وَهَن حَزْمه لا عَظْمه، ومَن انحنى فِكْره لا ظهره.
أكرموا كباركم بأداء حق الله فيهم؛ من زيارتهم وتفقُّد أحوالهم، وإيناسهم، فلا تتركونهم نهباً للعزلة، والوحدة.
أكرموا كباركم بالحديث إليهم والاستماع إلى أحاديثهم، ولو كانت مكررة أو غير مهمة. وأشعروهم بتفاعلكم. ولا تنشغلوا عنهم بجوالات أو أحاديث جانبية. وأشركوهم في مناشطكم ورحلاتكم وهداياكم.
أكرموا كباركم بتعليم صغاركم فنّ التعامل مع الكبار بالأقوال والأفعال والقدوة الحسنة.
أكرموا كباركم بالأدب في الحديث معهم؛ فلا تحاولْ تصحيح معلوماتهم مباشرةً، ودعْهم يشعروا أن لديهم ما يخبرونك به، أخبرْهم بمدى سعادتك بالوقت الذي تقضيه معهم.
حفِّزْ ذاكرتهم بسؤالك عن حكاياتهم وذكرياتهم القديمة... دعْهم يشعروا أن جلوسك معهم ليس واجبًا ثقيلاً، بل وقتًا ثمينًا تحرص عليه.
ويَتأكدُ الاحترامُ والتَّوقيرُ، عِندَما يَضعُفُ الكبيرُ، فيَخونُه البصرُ، ويغدُرُ بهِ السَّمعُ، وتَتنكرُ له الذَّاكرةُ؛ فأكرموا كباركم بعدم إحراجهم في ذاكرتهم؛ فمن سوء الأدب أن تسألهم: هل تعرف هذا؟ أو هل عرفتني؟ أو هل تَذكرونَ ذاكَ الزَّمانَ؟ فتَضيقُ صُدورُهم بالنِّسيان، بل ينبغي حِينَها أن نُبادرَ بِالتَّعريفِ بأسمائنا، وأن نُسعِدَهم بأخبارِنا وأخبار أبنائنا، فإن أصبحوا لا يستطيعونَ التَّعرَّف علينا، فنحنُ لا نزالُ نذكرُهم ونَعرفُ حقَّهم علينا.
إنه لا خير في أمة تتنكّر لكبارها، وتجحد تاريخ مُسنّيها، وتتأثر بأمم كافرة لا تقيم للأخلاق والمبادئ وزنًا. لا خير في ابن يَبرّ صديقه ويُهين أباه، ويكرم زوجته ويحرم أُمّه، لا خير في بيت حُرِمَ دعوات الكبار وبركاتهم، وبُوركت بيوت تستلذّ بخدمة كبارها وترى في شعراتهم البيضاء أنوارًا تضيء جوانبها، وفي تجاعيد وجوههم خطوط سعادتها وتسترخص لأجلهم كل بذل وعطاء.
وما أجمل أن ترى في الأمة صور التنافس والتسابق لرعاية مسن وكبير، وإشعاره بقيمته ومكانته وإنزاله منزلته، وكما أَكرَمونا صِغاراً، فيَنبغي الإحسانَ إليهم كِباراً، فَهَلْ جَزَاءُ الإحسان إلا الإحسان. وعاقبة الذين أساءوا السوأى، ولا يظلم ربك أحدًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم