عناصر الخطبة
1/ معاناة الأمهات في الولادة والتربية 2/ فرضية بر الوالدين في كل الديانات 3/ نماذج من بر السلف بآبائهم 4/ أفكار عملية في بر الوالدين 5/ دعوة ونداء لبر الوالدين 6/ الجزاء من جنس العملاقتباس
كم هو مؤسف حال بعض الشباب والفتيات مع آبائهم وأمهاتهم، شكاوى مقلقة، وأخبار مزعجة، تتفطر لها القلوب، وترتج لها النفوس، وربما تصل القضية إلى القتل كما نسمع مرارًا في بيانات تنفيذ بعض الأحكام. شاب يقتل والديه، هل هذا إنسان؟! هل هناك حيوان يفعل هذا؟! وفي المحاكم قضايا طعنت فيها الأبوة والأمومة بسبب الجشع وحطام الدنيا ..
الخطبة الأولى:
عباد الله: نحن لا نذكر تلك الأيام التي كنا فيها في ظلمات الأرحام، ولا ما نزل بأمهاتنا في الولادة والرضاعة من الزفرات والآلام، لكن الله يذكرنا بتلك الأيام: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].
عباد الله: تسعة أشهر من الحمل، عانت فيها أمك الأمرين: (وَهْناً عَلَى وَهْنٍ)، كرهًا على كره، تفرح بحركتك وأنت تميل، وتُسر بزيادة وزنك وهو عليها حمل ثقيل.
ثم حانت لحظة الولادة، ورأت فيها الأم الموت والألم، فلما خرجتَ إلى الحياة، امتزجت دموعُ صراخك بدموع فرحها، وأزالت رؤيتُك كلَّ آلامها وجراحها: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78]، كنت رضيعًا ضعيفًا، فأعطاك الله الحواس، وأحاطك بأرحم الناس، أمٍّ حنونٍ تسهر على راحتك، وأبٍ رحيمٍ يسعى لمصلحتك، حملتك أمك في قلبها، جعلت حجرها لك فراشًا، وصدرها لك غذاءً، تسهر إذا مرضت، وتحزن إذا تعبت، وبيديها تغسل الأذى عنك، وأخيرًا كبرت وأصبحت رجلاً، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
إن برَّ الوالدين فرض واجب بإجماع الأمة، بل الديانات كلها، يكفي أن الله تعالى قرنه بتوحيده فقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [النساء: 36].
من أجل ذلك -يا عباد الله- كان للسلف الصالح مقامات في البر، وصفحات في الإحسان، لا يتسع لذكرها الزمان.
كان أبو هريرة -رضي الله عنه- كلما أراد أن يدخل أو يخرج من دار أمه وقف على بابها فقال: السلام عليك -يا أمتاه- ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك -يا بني- ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا، فتقول: ورحمك الله كما سررتني كبيرًا.
وثبت عند أحمد وغيره عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟! فَقَالُوا: هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: كَذَلِكَ الْبِرُّ، كَذَلِكَ الْبِرُّ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ".
وهل أتاك نبأ أويس القرني؟! الذي أنبأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بقدومه، ونوّه ببره بأمه، وقال لعمر -رضي الله عنه- كما في صحيح مسلم: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن، له والدةٌ هو بارٌّ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل".
وهذا علي بن الحسين زين العابدين -رضي الله عنهم- كان من سادات التابعين، قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها".
وهذا حيوة بن شريح -من أئمة الدنيا- يقعد في حلقته ويأتيه الطلاب من كل مكان، فتقول له أمه -وهو بين طلابه-: قم يا حيوة فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
والسؤال المهم في هذه الخطبة: كيف نَبَر والدَينا أحياءً وأمواتًا؟! هذه بعض الأفكار العملية في بر الوالدين:
أولاً: السمع والطاعة: فإذا أمرك والداك في غير معصية فطاعتهما واجبة، ولو منعاك من الجهاد في سبيل الله، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
أطع والديك دائمًا، وقدم أمرهما، واطلب رضاهما قبل كل شيء، لا تسافر إذا لم يأذنا لك، لا تفضل زوجتك أو ولدك عليهما، ومع هذا نقول: إن لوالديك عليك حقًّا، ولزوجتك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه.
ثانيًا: التوقير والاحترام؛ قال تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) [الإسراء: 23]، قال الهيثمي: "أي اللين اللطيف المشتمل على العطف والاستمالة، وموافقة مرادهما وميلهما ومطلوبهما ما أمكن، لا سيما عند الكبر. ثم أمر تعالى بعد القول الكريم بأن يخفض لهما جناح الذل من القول؛ بأن لا يُكلَّما إلا مع الاستكانة والذل والخضوع، وإظهارِ ذلك لهما، واحتمالِ ما يصدر منهما، ويريهما أنه في غاية التقصير في حقهما وبرهما، ولا يزال على نحو ذلك حتى ينثلجَ خاطرُهما، ويبردَ قلبُهما عليه، فينعطفا عليه بالرضا والدعاء".
وقال ابن عباس -في قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الإسراء: 23]-: "يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يُغْلِظُ لهما في الجواب، ولا يُحِدُّ النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثلَ العبد بين يدي السيد تذللاً لهما".
إذًا؛ خاطب والديك بأدب، حتى وإن أخطآ، لا تجادلهما أو تعاندهما، أو ترفع صوتك عليهما، بل حاول أن تبين لهما الصواب بأدب وحكمة.
ومن التوقير تقبيل رأسهما ويديهما، وحسن الاستماع لهما، وهذا مما قد نفتقده ولا نعرف تأثيره، فإذا تحدث والداك، أقبل عليهما بوجهك، وتفاعل مع حديثهما، ولو كنت قد سمعته من قبل.
ثالثًا: الدعاء لهما: اجعل الدعاء لهما ملازمًا لك، تذكرهما في سجودك، في وترك، في دعائك المطلق، ادع لهما بالرحمة، بالمغفرة، بالعافية، بالهداية والصلاح، بطول العمر على الطاعة، بحسن الخاتمة، بدخول الجنة والنجاة من النار، بأن يجزيهما عنك خير الجزاء.
أحد الأفاضل وضع في شاشة جواله الرئيسة قوله تعالى: (رَّبِّ ارْحَمْهُمَا)، وآخر وضع الدعاء خلفية لشاشة حاسوبه، وآخر في توقيعه في المنتديات.
ادع لوالديك، واحرص على دعائهما لك، واحذر من دعائهما عليك؛ فإن دعوة الوالد لولده أو على ولده مستجابة؛ كما ثبت عند أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث دعوات مستجابات، لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده"، وفي لفظ: "ودعوة الوالدين على ولدهما"، وفي لفظ: "ودعوة الوالد لولده".
ذكر بعض الفضلاء أن أحد أئمة هذا العصر دعت له أمه وهو صغير، عندما زارهم ضيوف، فأراد أن يدخل عليهم في المجلس، فنهره بعض الحاضرين؛ لأنه كان كفيف البصر، فلما علمت أمه بذلك رفعت يديها وقالت: اللهم ارفع قدره في السماء والأرض، ليكبر هذا الصغير، ويكون علمًا من أعلام هذا العصر، وهو: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-.
رابعًا: الصدقة عنهما: في حياتهما وبعد موتهما، بالتبرع لهما استقلالاً، أو إشراكهما في أجر الصدقات، وبناء المساجد، وحفر الآبار، وطباعة المصاحف، والأوقاف الخيرية العامة ولو بالقليل.
قال أحد الأفاضل: تبرعت لمشروع كبير يحوي مسجد جمعة، ومدرسة لتعليم القرآن، ومغسلة للأموات، وأشركت والديّ معي في الأجر، فكنت أفرح كثيرًا إذا صليت في ذلك الجامع أو مررت بجواره، لعلمي أني ووالديّ قد اشتركنا في بنائه.
وقد يناسب أن تخبرهما بأنك قد تصدقت عنهما إذا علمت أن هذا يدخل السرور عليهما، ويكون سببًا لدعائهما لك.
وهنا وصية لمن مات والداه، أو كانا بعيدين عنه بسبب الغربة، ونفسه تتوق للبر بهما: كن مستقيمًا صالحًا ليستمر أجر والديك بدعائك: "أو ولد صالح يدعو له". احفظ القرآن ليلبس الله والديك التاج ويرفع درجاتهما، كن خلوقًا لترفع ذكر والديك وتكسب دعاء الناس لهما، أحسن إلى أصدقاء وأحباب والديك بعد موتهما، فهذا من تمام البر.
خامسًا: الإنفاق عليهما وخدمتهما وقضاء حوائجهما: لا تستصغر خدمة والديك، كن لماحًا وحاول أن تعرف ما يحتاجان، أو اسألهما عنه، فإذا طلبوا شيئًا، قل: آمر، أبشر، الآن. تفقد أحوالهما بعد نومهما؛ خصوصًا إن كانا من المرضى أو كبار السن.
يريد أن يجلس والدك فبادر إلى الكرسي أو المتكأ فقربه له، ترى والدتك تفكر اسألها: آمري، تدللي، ماذا تريدين؟! أنا أخدمك بعيوني.
في المناسبات العامة: كن قريبًا من والدك، صدّره في المجلس، قدم له القهوة والشاي، عرفه على زملائك مفتخرًا به، ولا تقدم في المجلس أحدًا عليه مهما كان قدره ومقامه؛ فلا مقام يوازي مقام الوالد.
وهنا قاعدة جميلة في التعامل مع الوالدين، وتصلح أيضًا مع الزوجة أو الأصدقاء، القاعدة تقول: "افعل شيئًا يحبه الوالدان، دون طلب منهما"، فإذا كان والدك يحب نوعًا من الطعام أو الشراب، أو أمك تحب لونًا من الملابس، وربما يرى البعض أن هذه أشياء تافهة، لكنها في الواقع لها أثر بالغ وعجيب.
يقول أحد الفضلاء: أنا أعلم أن الوالدة تصوم الاثنين والخميس، فإذا جاء آخر النهار ذهبت إلى محل الحلويات واشتريت منه نوعًا من الحلوى تحبه، وأدخل به عليها وهي تنتظر الفطر، فأكسب دعاءها لي في تلك اللحظات المباركة.
سادسًا: الترويح عنهما وإدخال السرور عليهما: يمكنك أخذهما في رحلة برية، إلى مكان جميل، إلى جولة داخل المدينة، زيارةِ بعض الأقارب، زيارةِ بعض الأحياء القديمة أو المناطق الأثرية، زيارةِ منزلكم القديم، جيرانِكم السابقين.
ومن ذلك أيضًا ضيافتهما في استراحة أو دعوتهما إلى غداء أو عشاء في إحدى المطاعم العائلية المحافظة، المهم أن تدخل عليهما السرور، وتشعرهما بحبك لهما، ولا تستكثر على والديك هذه الساعة، وأنت لا تمل من الركوب والجلوس يوميًا مع أصدقائك.
سابعًا: مدحهما والثناء عليهما: امدح والديك في حضورهما، افتخر بهما، تشرف بالانتساب إليهما، إن نجحت في دراستك فقل: هذا النجاح بفضل الله ثم تربية الوالد والوالدة، إن وُفقت في عمل أو زواج، أو ترقيت في وظيفة أو رزقت بمال فقل: هذا بتوفيق الله ثم دعاء الوالد والوالدة، إذا رأيتهما فقل: الحمد لله أن رزقني والدين مثلكما، ولا تستحيي ولا تتحرج من إدخال السرور عليهما بمثل هذه الكلمات اللطيفة.
ثامنًا: مشاورتهما وتقديم رأيهما: شاورهما وخذ برأيهما، واعلم أن فيه الخير والبركة، شاورهما في اختيار تخصصك الجامعي، واختيار الزوجة، والسكن، وأسماء الأولاد، ونوع السيارة، واختيار الوظيفة، وسترى التوفيق -بإذن الله-.
يقول أحد كبار تجار النقليات والوقود: تخرجت في الجامعة، فتقدمت مع بعض زملائي إلى إحدى الجهات الحكومية ذات الرواتب العالية، ولما أخبرت بالقبول عدتُ إلى والدي مستبشرًا فقلت له: أبشرك بأني قُبلت، فقال لي: لا أسمح لك بأن تتوظف في هذه الوظيفة، وأن تغادر قريتنا بعيدًا عنا، ابحث عن وظيفة قريبة حولنا، فقلت: أبشر، وما لك إلا الذي يرضيك، يقول: ومنذ أن أخذت برأي والدي وأنا في خير، دخلت في بعض الأعمال، وافتتحت محطة الوقود الأولى، ثم الثانية، حتى أصبح عندي عشر محطات وأسطول من النقليات والحمد لله، بينما زملائي الآن مفرقين في المدن، ورواتبهم كلها لا تساوي دخلي الشهري، وأسأل الله أن يجزي والديّ خير الجزاء، وأن يعينني على برهما.
اللهم اجعلنا من أهل البر والإحسان، واغفر لنا ولوالدينا وإخواننا في الإيمان، يا رحيم يا رحمن، يا كريم يا منان، والحمد لله ذي الفضل والإحسان.
الخطبة الثانية:
عباد الله: كما أن للبر صفحاتٍ بيضاء، فإن للعقوق صفحاتٍ سوداء، إنه العقوق، أكبر الكبائر.
كم هو مؤسف حال بعض الشباب والفتيات مع آبائهم وأمهاتهم، شكاوى مقلقة، وأخبار مزعجة، تتفطر لها القلوب، وترتج لها النفوس، وربما تصل القضية إلى القتل كما نسمع مرارًا في بيانات تنفيذ بعض الأحكام.
شاب يقتل والديه، هل هذا إنسان؟! هل هناك حيوان يفعل هذا؟!
وفي المحاكم قضايا طعنت فيها الأبوة والأمومة بسبب الجشع وحطام الدنيا، وشاب يعق والديه لإرضاء صديقه، أو يبكيهما من أجل سفره وقضاء متعته، وفتاة تسب أمها لأنها منعتها من الخروج.
ألم يسمع هؤلاء العاقون كلمات ذلك الشاب المشلول الذي أبكى الشباب وهو يقول لهم: لو أن بطن أحدكم -أكرمكم الله- لم يخرج منه الأذى عشرة أيام؟! قالوا له: تأخذ ملين، تذهب إلى المستشفى. قال: هذا يحصل لي كل عشرة أيام، وأمي هي التي تخرج الأذى من بطني وبيدها. ونحن كذلك، من يفعل لنا هذا يوم كنا صغارًا غير أمهاتنا؟!
يقول لي هذا الشاب: أمي بالنسبة لي كل شيء في الحياة بعد الله، لا يؤكلني ويشربني إلا أمي، تستيقظ معي في الليل سبع أو عشر مرات، لتحك وجهي أو تزيح عني الفراش، تمر المناسبات والأعياد، والحسرة في قلبي وقلب أمي؛ لأني لا أستطيع أن أضمها وأحضنها بسبب الشلل.
هل نسينا قلب الأم وحنان الأم؟!
نقل أحد مشايخنا الكبار قصة قديمة لشاب مسرف، ذهب بأمه إلى الوادي عند الذئاب يريد الانتقام منها، فلما تركها ندم وهو في الطريق، فرجع إليها وقد تغيرت هيئته وصوته فلم تعرفه، فلما اقترب منها قالت له: يا رجل: أرجوك، إن ولدي ذهب من هذا الطريق، فالحق به لا تأكله الذئاب، فيا سبحان الله، يريد موتها وهي تريد حياته، وصدق الشاعر:
أغرى امرؤ يومًا غلامًا جاهلاً *** بنقوده كي ما يَحيق بـه الضرر
قال ائتني بفـؤاد أمك يا فتى *** ولك الجواهر والدراهم والدرر
فأتى فأغرز خنجرًا في قلبهـا *** والقلبَ أخرجـه وعاد على الأثر
لكنه من فـرط سرعته هوى *** فتدحرج القـلبُ المعفـرُ بالأثـر
ناداه قلب الأم وهـو معفـر *** ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
حملتك أمك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسعُ حجج، وكابدت على الوضع ما يذيب المهج، وأرضعتك من ثديها لبنًا، وأطارت لأجلك نومًا ووسنًا.
كم عاملتها بسوء الخلق مرارًا فدعت لك بالتوفيق سرًّا وجهارًا؟! قدّمتَ عليها أصدقاءك وزملاءك بالإحسان، وقابلت أياديَها بالنسيان، صعب عليك أمرها وهو يسير، وطال عليك عمرها وهو قصير، وهجرتها وما لها سواك بعد الله من نصير، هذا ومولاك -سبحانه- قد نهاك عن التأفيف، وعاتبك في حقها بعتاب لطيف: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) [الإسراء:23].
فهل عرفت قدر الأم؟! أما آن لك أن تبر بأمك، وتكفكف دمعها، وتواسي حزنها، وتلزمها فإن الجنة عند رجلها؟!
لسان حال الوالدين في الكبر: يا بني: عندما ترتعش يدي، أو يسقط طعامي على صدري، أو لا أقوى على لبس ثيابي، فلا تضجر مني، فقد كنت في سنوات طفولتك أعلمك ما لا أستطيع فعله اليوم.
يا بني: لا تمل من ضعف ذاكرتي وبطء كلماتي، إذ كررت عليك الكلمات، أو أعدت الذكريات، فكم كررتُ من أجلك الكلمات والحكايات؛ لأنها كانت تفرحك.
يا بني: إن لم أعد أنيقًا جميل الرائحة فلا تلمني، وقد كنتُ في صغرك أحرم نفسي لأجعلك أنيقًا جميل الرائحة.
يا بني: كنتُ معك حين وُلدتَ، فكن معي حين أموت، ارحم ضعفي وخذ بيدي، فغدا تبحث عمن يأخذ بيدك.
ألست عما قريب ستتزوج، وربما الآن متزوج؟! ألا تخاف أن تعاقب في دنياك بعقوق البنين، وفي أخراك بالبعد والسخط من رب العالمين؟! وقد روى الطبراني والبزار وصححه الألباني عن ابن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين".
ذكر أحد الآباء أنه حج مع والده قبل خمسين عامًا، وعندما تجاوزت القافلة منطقة عفيف، رغب الأب -أكرمكم الله- أن يقضي حاجته، فأنزله الابن من البعير ومضى الأب إلى حاجته، ثم التفت الابن، ووجد أن القافلة ابتعدت عن الوالد، فعاد جاريًا على قدميه ليحمل والده على كتفه، ثم انطلق يجري به، وبينما هو كذلك، يقول: أحسست برطوبة تنزل على وجهي، فتبين لي أنها دموع والدي، فقلت له: والله إنك أخف على كتفي من الريشة! قال الأب: ليس لهذا بكيت، ولكني أبكي؛ لأني في هذا الطريق حملت والدي قبل سنين.
بروا آباءكم تَبَركم أبناؤكم، وكونوا من أهل البر والإحسان، فإن الدنيا أسلاف، وكما تدين تدان.
وختامًا، أدعوكم ونفسي أن لا نخرج اليوم إلا وقد عاهدنا الله أنه من كان بينه وبين والديه هجر أو خلاف فليصلح ما انكسر، ومن كان مقصرًا في بر والديه فليتب ويستغفر، ومن كان بارًّا بوالديه فليثبت ويستكثر.
اللهم صل على محمد..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم