عناصر الخطبة
1/ رفع أعمال العباد في شهر شعبان 2/ قصة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم العقبة مع أهل الطائف وبعض فوائدها 3/ أفضل الناس سليم القلب 4/ الحرص على سلامة القلب 5/ قصة رجل سليم القلب بشره النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنةاقتباس
إن سلامة القلوب سبب من أسباب الحياة الطيبة في دار الفناء, وسبب من أسباب دخول الجنة في دار البقاء, وهل يمكن أن يكون العبد في جنة عرضها السماوات والأرض وقلبه مليء بالحقد والغل والضغينة؟ لنستمع إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: ها نحن ودعنا شهر رجب المحرم، واستقبلنا شهر شعبان المعظم الذي يغفل عنه كثير من المسلمين؛ عن سيدنا أُسَامَةَ بن زيد -رضي الله عنه- قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ, فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ" [رواه النسائي].
ودَّعنا شهر رجب المحرم الذي كان فيه حدث الإسراء والمعراج, بعد يوم الطائف الذي كان من أشدِّ الأيام على سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كما تروي السيدة عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ, وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ, إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ, فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ, فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي, فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ" [رواه البخاري].
أيها الإخوة الكرام: أريد أن أقف معكم مع يوم الطائف, لنأخذ فائدة مهمة في حياتنا الدنيا, وخاصة ونحن نستقبل شهر شعبان المبارك الذي فيه ليلة النصف, التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه أَبو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يَطْلُعُ عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ, فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ, وَيُمْلِي الْكَافِرِينَ, وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدْعُوهُ" [رواه الطبراني].
أريد أن أقف معكم مع يوم الطائف لننظر من خلاله إلى قلب سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- السليم الذي ما حمل في طياته إلا السلامة على خلق الله جميعاً بما فيهم من آذاه أشدَّ الإيذاء, فما كان فيه حقد ولا غل ولا ضغينة, ثم لننظر إلى قلوبنا ونقارن بعد ذلك ونحن نتذكر قول الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم من أنقى القلوب وأتقاها وأطهرها, وشدة الإيذاء والابتلاء والتعدي والظلم ما عرفت طريقاً إلى قلب سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لتجعل فيه الحقد والغل والضغينة.
أيها الإخوة: صاحب القلب السليم لا ينطفئ الأمل من قلبه في صلاح من أساء إليه, حتى إذا يئس منه فإنه لا ييئس أن يخرج الله من صلبه الصالح، اسمعوا إلى قوله صلى الله عليه وسلم, وهو يحدثنا عن يوم الطائف, وأن الأمل ما انطفئ من قلبه الشريف وذلك لسلامته: "فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي, فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ, فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ, وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.
قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ, ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ, وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ, وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ, فَمَا شِئْتَ, إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" [رواه البخاري].
إن يئس منهم فإنه ما ييئس أن يخرج الله من أصلابهم أهلَ التوحيد؛ لأن الله -تعالى- على كل شيء قدير, قال تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) [الروم: 19].
وبحقٍّ أخرج الله من أصلاب هؤلاء المشركين أهلَ التوحيد والإيمان؛ كسيدنا عكرمة -رضي الله عنه- أخرجه الله -تعالى- من صلب أبيه الذي هو فرعون هذه الأمة.
أيها الإخوة: عندما اطمأنَّ قلبُ النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ ما حلَّ به ليس بسبب سخط من الله -تعالى- عليه؛ لأن الله -تعالى- أرسل إليه جبريل وملك الجبال -عليهما السلام-, وكانا بإمرته ماذا يأمر, عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الابتلاء لحكمة, لذلك اعتذر إلى سيدنا جبريل -عليه السلام- وملك الجبال بقوله: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".
وكان بعد ذلك يعتذر إلى ربنا -عز وجل- عن قومه بقوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ" [رواه البخاري].
كل هذا يعلمنا كيف تكون سلامة القلوب التي هي سر سعادتنا في الدنيا والآخرة, وذلك من خلال قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم) [الشعراء: 88 - 89].
وبسلامة القلب يكون الإنسان من أفضل الناس, ولذلك من الأسباب التي جعلت سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- أفضل الخلق على الإطلاق, وأفضل الأنبياء والمرسلين, بل جعلته سيد أولي العزم من الرسل: سلامة قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم على خلق الله جميعاً مؤمنهم وكافرهم؛ لذلك عندما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الناس, أجاب صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في سنن ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ" قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ, فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لا إِثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ".
أيها الإخوة: تعالوا لننظر إلى قلوبنا تجاه بعضنا البعض, هل هي سليمة من الحقد والغل أم أنها مليئة بالحقد والغل؟
ما الفائدة التي خرجنا بها من ذكرى يوم الإسراء والمعراج بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف؟ وما الفائدة التي نرجوها من ليلة النصف من شعبان إن صادفناها؟ ما الفائدة التي حصلناها والتي نرجوها إذا كانت قلوبنا قلوب الحاقدين الحاسدين؟ إذا اختلفت معك في مسألة من مسائل الفروع هل نتدابر ونتباغض ونتحاسد؟ إذا اختلفت معك في مسألة من مسائل التجارة والتعامل المادي هل نتدابر ونتباغض ونتحاسد؟ وقس على ذلك سائر الاختلافات فيما بين بعضنا البعض, أين نحن من قول الله -عز وجل-: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]؟ هذا إذا أساء أحدنا لصاحبه, فكيف إذا لم تكن هناك إساءة بل اختلاف في الرأي؟ فمن باب أولى وأولى أن تكون القلوب سليمة.
أيها الإخوة الكرام: إن سلامة القلوب سبب من أسباب الحياة الطيبة في دار الفناء, وسبب من أسباب دخول الجنة في دار البقاء, وهل يمكن أن يكون العبد في جنة عرضها السماوات والأرض وقلبه مليء بالحقد والغل والضغينة؟
لنستمع إلى هذا الحديث الشريف؛ روى الإمام أحمد عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ, قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ, فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ ذَلِكَ, فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الأُولَى, فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا, فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى, فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاثًا, فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ, قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا, غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلاةِ الْفَجْرِ, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلا خَيْرًا, فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ, قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلا هَجْرٌ ثَمَّ, وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لَكَ ثَلاثَ مِرَارٍ: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاثَ مِرَارٍ, فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ, فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ, فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ, قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: "مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ, غَيْرَ أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا, وَلا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لا نُطِيقُ".
أيها الإخوة: يا من ودَّعتهم شهر رجب المحرم, الذي ذكرتم فيه يوم الطائف, وعرفتم سلامة قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-, ها أنتم تستقبلون شهر شعبان الذي فيه ليلة النصف, حيث يغفر الله -عز وجل- فيها لجميع خلقه إلا للمتحاقدين المتدابرين المتخاصمين, فهلا أسرعنا لامتثال أمر سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صِلْ مَنْ قَطَعَكَ, وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ, وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ" [رواه أحمد].
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ, وَتُعْطِيَ مَنْ مَنَعَكَ, وَتَصْفَحَ عَمَّنْ شَتَمَكَ".
اللهم نسألك سلامة القلوب من كل وصف يباعدنا عن مشاهدتك ومحبتك, ويباعدنا عن دخول جنتك يا أرحم الراحمين.
أقول هذا القول، وكل منا يستغفر الله.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم