أطفالك واللغة العربية

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-01-14 - 1443/06/11 2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ أهمية اللغة العربية في تشكيل هوية الأطفال. 2/ وسائل تحبيب الطفل في لغته وتعويده عليها. 3/آثار تعلم اللغة العربية على الطفل. 4/آثار ضعف الأطفال بلغة القرآن. 5/خطر اعتزاز الطفل بغير لغته.

اقتباس

وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-: فَإِنَّ الطِّفْلَ الضَّعِيفَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بَعِيدٌ عَنِ الْقُرْآنِ وَعَنْ تَذَوُّقِهِ وَعَنْ فَهْمِهِ، تَجِدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ قَطِيعَةً وَانْفِصَالًا، فَيَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّأَثُّرِ بِكُلِّ نَاعِقٍ يَنْعَقُ، وَلِلِانْخِدَاعِ بِكُلِّ رَايَةٍ تُرْفَعُ، وَتَجِدُهُ كَذَلِكَ يَتَتَعْتَعُ فِي نُطْقِهَا، وَيُخْطِئُ فِي بَدِيهِيَّاتِهَا...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]. أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: كَمَا أَنَّ صِحَّةَ أَوْلَادِنَا وَسَلَامَةَ قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا، فَكَذَلِكَ سَلَامَةُ أَلْسِنَتِهِمْ هِيَ الْأُخْرَى أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا، فَمِنْ حُقُوقِهِمْ عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ بِمَ يَنْطِقُونَ وَبِمَاذَا يَتَفَوَّهُونَ وَبِأَيِّ لُغَةٍ يَتَكَلَّمُونَ وَيَعْتَزُّونَ، وَهَلْ يَحْرِصُونَ عَلَى الْتِزَامِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى فِي كَلَامِهِمْ؟ أَمْ مِنْهَا يَتَفَلَّتُونَ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّنَا حِينَ نُشَدِّدُ عَلَى تَكَلُّمِ أَوْلَادِنَا بِالْفُصْحَى فَإِنَّنَا لَا نَقْصِدُ مُجَرَّدَ لُغَةٍ يَتَفَاهَمُونَ وَيَتَوَاصَلُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ هُوِيَّةٌ وَانْتِمَاءٌ، وَقَضِيَّةُ عَقِيدَةٍ وَتَدَيُّنٍ وَوَلَاءٍ وَبَرَاءٍ، وَمَسْأَلَةُ تَمَيُّزٍ وَتَفَرُّدٍ وَاسْتِقْلَالِيَّةٍ لَهُمْ عَمَّنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ.

 

إِنَّ ارْتِبَاطَ أَوْلَادِنَا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ -فِي الْحَقِيقَةِ- رَبْطٌ لَهُمْ بِقُرْآنِهِمْ وَبِدِينِهِمْ وَبِتُرَاثِ أُمَّتِهِمْ، وَصِيَانَةً لِهُوِيَّتِهِمُ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ مِنَ التَّفَسُّخِ وَالذَّوَبَانِ وَالتَّأَثُّرِ بِالْحَضَارَاتِ الْغَرْبِيَّةِ وَالشَّرْقِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ.

 

وَإِنَّ حُبَّ أَوْلَادِنَا لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ الطَّرِيقُ لِحُبِّهِمْ لِأُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ وَلِنَبِيِّهِمُ الْعَرَبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِرَبِّهِمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، يَقُولُ الثَّعَالِبِيُّ: "مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَحَبَّ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَنْ أَحَبَّ الرَّسُولَ الْعَرَبِيَّ أَحَبَّ الْعَرَبَ، وَمَنْ أَحَبَّ الْعَرَبَ أَحَبَّ الْعَرَبِيَّةَ، الَّتِي بِهَا نَزَلَ أَفْضَلُ الْكُتُبِ عَلَى أَفْضَلِ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ".

 

كَذَلِكَ فَإِنَّ الِاعْتِزَازَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ اعْتِزَازٌ بِالْإِسْلَامِ دِينًا وَعَقِيدَةً وَشَرِيعَةً، يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "إِنَّ نَفْسَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ الدِّينِ، وَمَعْرِفَتُهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ"، وَيُؤَكِّدُ السُّيُوطِيُّ قَائِلًا: "وَلَا شَكَّ أَنَّ عِلْمَ اللُّغَةِ مِنْ الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَبِهِ تُعْرَفُ مَعَانِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ"، وَلَعَلَّهُمَا اسْتَقَيَا كَلَامَهُمَا مِنْ الْفَارُوقِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ قَالَ: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا مِنْ دِينِكُمْ".

 

ثُمَّ إِنَّ تَعَلُّمَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ طَرِيقٌ لِتَعَلُّمِ سَائِرِ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي نُطَالِبُ أَوْلَادَنَا بِتَعَلُّمِهَا، وَالَّتِي تُشَكِّلُ جُزْءًا مُهِمًّا مِنْ شَخْصِيَّتِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ، وَذَلِكَ كَعِلْمِ الْحَدِيثِ -مَثَلًا-، وَاَلَّذِي قَالَ فِيهِ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: "مَنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَعْلَمِ النَّحْوَ -أَوْ قَالَ: الْعَرَبِيَّةَ-، فَهُوَ كَمِثْلِ الْحِمَارِ تُعَلَّقُ عَلَيْهِ مِخْلَاةٌ لَيْسَ فِيهَا شَعِيرٌ"، وَقَدْ أَيَّدَ شُعْبَةُ كَلَامَهُ قَائِلًا: "مَثَلُ صَاحِبِ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، مَثَلُ الْحِمَارِ عَلَيْهِ مِخْلَاةٌ لَا عَلَفَ فِيهَا".

 

وَهِيَ أَصْلٌ كَذَلِكَ لِأَحَدِ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ"(رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ)، فَالْعَرَبِيَّةُ هِيَ الْأَدَاةُ النَّاجِحَةُ لِجِهَادِ اللِّسَانِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ هُنَاكَ طُرُقًا عَدِيدَةً لِتَحْبِيبِ أَوْلَادِنَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِتَعْوِيدِهِمُ النُّطْقَ بِهَا، وَأَوَّلُ تِلْكَ الطُّرُقِ: إِعَانَتُهُمْ عَلَى تَذَوُّقِ جَمَالِهَا؛ وَذَلِكَ بِقِرَاءَةِ بَعْضِ الْآيَاتِ مَعَهُمْ وَبَيَانِ شَيْءٍ مِنْ إِبْدَاعِهَا بِمَا يُنَاسِبُ عُقُولَهُمْ، كَسُورَةِ الزَّلْزَلَةِ بِوَقْعِهَا الْهَائِلِ عَلَى النَّفْسِ: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا)[الزَّلْزَلَةِ: 1-3].

 

وَبِبَيَانِ رَوْعَتِهَا وَدِقَّتِهَا وَاخْتِزَالِهَا الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ فِي أَلْفَاظٍ بَلِيغَةٍ قَلِيلَةٍ، وَأَنَّهُ مِنْ جَمَالِهَا قَدْ شَهِدَ لَهَا الْعَدُوُّ قَبْلَ الصَّدِيقِ؛ فَهَذَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يَقُولُ حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ: "وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ).

 

وَمِنْهَا: رَبْطُ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْقِصَصِ الْمُحَبَّبَةِ إِلَى قُلُوبِ الْأَطْفَالِ: فَنَقْرَأُ مَعَهُمْ بَعْضًا مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ كَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَفِتْيَةِ الْغَارِ، وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَكَذَا قِصَّةُ مَنْ قَالَ: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)[الْبَقَرَةِ: 259]، وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ مَعِينٌ لَا يَنْضَبُ مِنَ الْقِصَصِ الْمُحَبَّبَةِ إِلَى الْأَطْفَالِ بِشَرْطِ اسْتِخْدَامِ الْأُسْلُوبِ الْمُنَاسِبِ لِعُمْرِهِمْ عِنْدَ سَرْدِهَا عَلَيْهِمْ.

 

وَمِنْهَا: أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ دِينِنَا: وَأَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ لُغَةً يَعْتَزُّونَ بِهَا وَيَرْفُضُونَ الِانْتِمَاءَ لِغَيْرِهَا، وَأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ هِيَ سِمَتُنَا وَتَمَيَّزُنَا وَشَارَةُ تَفَرُّدِنَا، وَأَنَّهَا خَيْرُ اللُّغَاتِ وَأَوْسَعُهَا، عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: "وَلِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، وَلَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إِنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ".

 

وَمِنْهَا: الْحِرْصُ عَلَى التَّكَلُّمِ مَعَهُمْ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: بِدَايَةً مِنْ دَاخِلِ الْبَيْتِ حَتَّى تَصِيرَ لَهُمْ سَجِيَّةً وَعَادَةً، مُخْتَارِينَ فِي ذَلِكَ أَيْسَرَ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسْهَلَ أَلْفَاظِهَا، ثُمَّ تَشْجِيعُهُمْ عَلَى التَّحَدُّثِ بِهَا مَعَ زُمَلَائِهِمْ، فَمُجْتَمَعِهِمْ كُلِّهِ، وَإِعْلَامُهُمْ بِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَعَلَّمَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ قَبِيلَةِ "جُرْهُمٍ"، وَهُوَ لَا يَزَالُ طِفْلًا صَغِيرًا، يَقُولُ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَمِنْهَا: مُسَاعَدَتُهُمْ عَلَى إِتْقَانِ قَوَاعِدِهَا وَأُصُولِهَا: فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ مَا يُحْسِنُ، وَيُعَادِي مَا يَجْهَلُ، وَقَدْ قِيلَ: "النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا"، وَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ "كَانَ يَضْرِبُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَى اللَّحْنِ"، وَمِثْلُهُ ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ: "يَضْرِبُ أَوْلَادَهُ عَلَى اللَّحْنِ، وَلَا يَضْرِبُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ"، وَحَبَّذَا لَوْ كُنَّا نَحْنُ قُدْوَةً لِأَوْلَادِنَا فِي ذَلِكَ فَأَتْقَنَّا قَوَاعِدَهَا وَاحْتَرَزْنَا مِنَ اللَّحْنِ فِيهَا، يَقُولُ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ الشَّهِيرُ: "كَانَ النَّاسُ قَدِيمًا يَجْتَنِبُونَ اللَّحْنَ فِيمَا يَكْتُبُونَهُ أَوْ يَقْرَؤُونَهُ اجْتِنَابَهُمْ بَعْضَ الذُّنُوبِ".

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِتَعَلُّمِ الطِّفْلِ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ ثَمَرَاتٍ جَلِيلَاتٍ، تَظْهَرُ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ وَتَمْتَدُّ مَعَهُ إِلَى كِبَرِهِ، فَمِنْهَا: اسْتِقَامَةُ لِسَانِهِ، وَفَصَاحَةُ بَيَانِهِ: وَخُلُوُّ مَنْطِقِهِ مِنَ اللَّحْنِ، وَيُسْرُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى لِسَانِهِ، كَمَا يُسَاعِدُهُ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ وَالتَّفَوُّقِ فِي الْمَنَاهِجِ الدِّرَاسِيَّةِ.

 

وَمِنْهَا: اعْتِزَازُهُ بِدِينِهِ وَبِقُرْآنِهِ: فَتَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ يُؤَدِّي -لَا مَحَالَةَ- إِلَى تَذَوُّقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَجَمَالِيَّاتِهِ، وَمَعْرِفَةِ عَظَمَةِ قَائِلِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَإِذَا حَدَثَ ذَلِكَ أَدْرَكَ الطِّفْلُ -شَيْئًا فَشَيْئًا- رَوْعَةَ الدِّينِ الَّذِي هَذِهِ لُغَتُهُ، فَاعْتَزَّ بِهِ، وَعَاشَ عُمْرَهُ كُلَّهُ رَافِعًا رَايَتَهُ، دَاعِيًا الْخَلْقَ كُلَّهُمْ إِلَيْهِ، وَصَدَقَ اللَّهُ: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)[الْأَنْبِيَاءِ: 10]؛ فِيهِ عِزُّكُمْ وَمَجْدُكُمْ وَرِفْعَتُكُمْ.

 

وَمِنْهَا: انْتِمَاؤُهُ لِأُمَّتِهِ: فَهِيَ النَّاطِقَةُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهِيَ الْحَامِلَةُ لِلْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ، الْمُنَزَّلِ عَلَى الرَّسُولِ الْعَرَبِيِّ الْأَمِينِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِنَّهَا الْأُمَّةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- الْقُرْآنَ بِلِسَانِهَا: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)[إِبْرَاهِيمَ: 4].

 

وَمِنْهَا: صِيَانَةُ عَقْلِهِ مِنَ الِانْحِرَافِ: يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ"، كَذَلِكَ فَإِنَّ إِتْقَانَهُ لِلْعَرَبِيَّةِ يُقَرِّبُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَيُعِينُهُ عَلَى فَهْمِ مَقَاصِدِهِ وَمَعَانِيهِ، وَهَذَا كَفِيلٌ -وَحْدَهُ- أَنْ يَمْضِيَ بِالطِّفْلِ قُدُمًا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

 

وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-: فَإِنَّ الطِّفْلَ الضَّعِيفَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بَعِيدٌ عَنِ الْقُرْآنِ وَعَنْ تَذَوُّقِهِ وَعَنْ فَهْمِهِ، تَجِدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ قَطِيعَةً وَانْفِصَالًا، فَيَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّأَثُّرِ بِكُلِّ نَاعِقٍ يَنْعَقُ، وَلِلِانْخِدَاعِ بِكُلِّ رَايَةٍ تُرْفَعُ، وَتَجِدُهُ كَذَلِكَ يَتَتَعْتَعُ فِي نُطْقِهَا، وَيُخْطِئُ فِي بَدِيهِيَّاتِهَا:

يُلْقِي عَلَى الْمَرْفُوعِ صَخْرَةَ جَهْلِهِ *** فَيَصِيرُ تَحْتَ لِسَانِهِ مَجْرُورَا

وَيَنَالُ مِنْ لُغَةِ الْكِتَابِ تَذَمُّرًا *** مِنْهَا وَيَكْتُبُ فِي الْفَرَاغِ سُطُورَا

 

وَتَجِدُهُ كَذَلِكَ كَلَيْلَ النَّظَرِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، مُتَخَلِّفًا حَتَّى فِي مَوَادِّهِ الدِّرَاسِيَّةِ الَّتِي تُدْرَسُ بِالْعَرَبِيَّةِ، عُرْضَةً لِتَحْرِيفِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ عَنْ مَوَاضِعِهَا، يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الصَّحَابَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَخَاطَبُونَ بِهَا وَيُخَاطِبُهُمْ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَادَتَهُمْ فِي الْكَلَامِ، حَرَّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ".

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنْ وَجَدْتُمْ أَوْلَادَكُمْ يَعْتَزُّونَ بِغَيْرِ لُغَتِهِمْ، وَيُجِيدُونَ التَّكَلُّمَ بِالْإِنْجِلِيزِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا فِي حِينِ يُتَعْتِعُونَ فِي النُّطْقِ بِالْفُصْحَى فَاحْذَرُوا؛ فَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ فِي خَطَرٍ مُحْدِقٍ عَظِيمٍ، فَقَدْ وَقَعُوا فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ حَرِيٌّ أَنْ تَقُودَ إِلَى مُحَرَّمَاتٍ، يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "اعْتِيَادُ الْخِطَابِ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ".

 

وَيَقُولُ الْفَارُوقُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُحَذِّرُ قَائِلًا: "إِيَّاكُمْ وَرَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ"، وَالرَّطَانَةُ: التَّحَدُّثُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَمَّا رَأَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ فِي الطَّوَافِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، عَلَاهُمَا بِالدُّرَّةِ، وَقَالَ: "لَا أُمَّ لَكُمَا، ابْتَغِيَا إِلَى الْعَرَبِيَّةِ سَبِيلًا".

 

وَهَذَا مُصْطَفَى صَادِقٍ الرَّافِعِيُّ يُحَذِّرُ بِدَوْرِهِ قَائِلًا: "وَمَا ذَلَّتْ لُغَةُ شَعْبٍ إِلَّا ذَلَّ، وَلَا انْحَطَّتْ إِلَّا كَانَ أَمْرُهُ فِي ذَهَابٍ وَإِدْبَارٍ؛ وَمِنْ هَذَا يَفْرِضُ الْأَجْنَبِيُّ الْمُسْتَعْمِرُ لُغَتَهُ فَرْضًا عَلَى الْأُمَّةِ الْمُسْتَعْمَرَةِ، وَيَرْكَبُهُمْ بِهَا، وَيُشْعِرُهُمْ عَظَمَتَهُ فِيهَا".

 

وَصَدَقَ؛ فَإِنَّ فِي اعْتِزَازِ أَوْلَادِنَا بِغَيْرِ لُغَةِ الْقُرْآنِ ضَيَاعًا لِهُوِيَّتِهِمْ، وَارْتِمَاءً فِي أَحْضَانِ الْأَجْنَبِيِّ الشَّانِئِ، وَنَتِيجَةُ ذَلِكَ -لَا مَحَالَةَ- هِيَ الْوُقُوعُ فَرِيسَةَ الْهَزِيمَةِ النَّفْسِيَّةِ، وَتَقْلِيدُ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، وَ"لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

 

وَلِلَّهِ دَرُّ حَافِظِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ لَخَّصَ ذَلِكَ فِي كَلِمَاتٍ قَلِيلَاتٍ، مُتَحَدِّثًا عَلَى لِسَانِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَائِلًا:

أَيَهْجُرُنِي قَوْمِي عَفَا اللَّهُ عَنْهُمُ *** إِلَى لُغَةٍ لَمْ تَتَّصِلْ بِرُوَاةِ؟!

سَرَتْ لَوْثَةُ الْإِفْرِنْجِ فِيهَا كَمَا سَرَى *** لُعَابُ الْأَفَاعِي فِي مَسِيلِ فُرَاتِ

فَجَاءَتْ كَثَوْبٍ ضَمَّ سَبْعِينَ رُقْعَةً *** مُشَكَّلَةَ الْأَلْوَانِ مُخْتَلِفَاتِ

 

فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَوِّمَ أَلْسِنَتَنَا وَأَلْسِنَةَ أَوْلَادِنَا، وَأَنْ تَهَبَنَا الِاعْتِزَازَ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

أطفالك واللغة العربية.doc

أطفالك واللغة العربية.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات