أصناف المطلقين (صور الطلاق)

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-01-20 - 1444/06/27 2023-03-01 - 1444/08/09
عناصر الخطبة
1/صور الطلاق الذي يقع من المطلق 2/صور الطلاق الذي لا يقع من المطلق 3/صور الطلاق المختلف في وقوعه وعدم وقوعه.

اقتباس

غَيْرَ أَنَّ الطَّلَاقَ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- أَمْرُهُ عَظِيمٌ، وَآثَارُهُ جَسِيمَةٌ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْمَحَاكِمِ، وَفَصْلُهُ بِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ لِلْقُضَاةِ بَعْدَ التَّحَرِّي وَهَيْبَةِ السُّلْطَانِ مَا لَا يَظْهَرُ لِلْمُفْتِي، أَوِ الْعَارِفِ بِمَسَائِلِ الطَّلَاقِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الطَّلَاقَ شَيْءٌ وَارِدٌ عَلَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ عُنِيَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَبَيَّنَتْ أَحْكَامَهُ، وَضَبَطَتْ أَحْوَالَهُ بِمَا يُوَافِقُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَيَحْكِي عَظَمَةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَحِكَمَهَا السَّدِيدَةَ الْبَدِيعَةَ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُطَلِّقُونَ زَوْجَاتِهِمْ لَيْسُوا صِنْفًا وَاحِدًا، بَلْ أَصْنَافٌ مُتَعَدِّدَةٌ؛ نَظَرًا لِأَحْوَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ، أَوِ الْعَقْلِيَّةِ، أَوِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

 

وَقَدْ فَصَّلَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ -عَلَيْهِمْ رَحْمَةُ اللَّهِ- الْأَحْكَامَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى طَلَاقِ هَؤُلَاءِ الْمُطَلِّقِينَ، فَذَكَرُوا صُوَرًا لِمَنْ يَقَعُ طَلَاقُهُمْ، وَصُوَرًا أُخْرَى لِمَنْ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُمْ، وَأُخْرَى اخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا قَوِيًّا بَيْنَ الْإِيقَاعِ وَعَدَمِهِ؛ نَظَرًا لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

 

فَحَرِيٌّ بِنَا -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- أَنْ نَعْلَمَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ، وَنَفْقَهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي دِينِنَا؛ حَتَّى نَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْأُسَرِيَّةِ الْمُهِمَّةِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: يَصِحُّ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ مِنَ الزَّوْجِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الْقَاصِدِ الْمُخْتَارِ، أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ، الَّذِي يَنُوبُ عَنْهُ؛ إِذِ الزَّوْجُ هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَالْبَالِغُ وَالْعَاقِلُ هُوَ الَّذِي يُدْرِكُ مَا يَقُولُ وَيَعْلَمُ عَوَاقِبَ مَا يَقُولُ، وَالْقَاصِدُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ الطَّلَاقَ وَيَعْنِيهِ مِنْ غَيْرِ خَطَأٍ، وَالْمُخْتَارُ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ هَذَا الْقَرَارَ عَنْ رَغْبَةٍ لَا عَنْ إِكْرَاهٍ مِنْ أَحَدٍ.

 

وَمِمَّنْ يَقَعُ طَلَاقُهُ: السَّفِيهُ، وَهُوَ خَفِيفُ الْعَقْلِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ وَالشَّرْعِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ لِسَفَهِهِ، وَمَعَ هَذَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "لِأَنَّ مَوْضِعَ الْحَجْرِ هُوَ التَّصَرُّفَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالطَّلَاقُ وَأَثَرُهُ لَيْسَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالرُّشْدُ لَيْسَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ".

 

وَمِمَّنْ يَقَعُ طَلَاقُهُ كَذَلِكَ: الْهَازِلُ، وَالْهَازِلُ هُوَ: الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِحَقِيقَتِهِ؛ بَلْ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ وَالْهَزْلِ، فَيَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِوُقُوعِهِ، فَعَدَمُ رِضَاهُ بِوُقُوعِهِ -لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ- لَا أَثَرَ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يُوقَعِ الطَّلَاقُ عَلَى الْهَازِلِ لَادَّعَى مُطَلِّقُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا هَازِلِينَ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَعْطِيلِ هَذَا الْحُكْمِ. قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)[الْبَقَرَةِ: 231].

 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "فَأَمَّا طَلَاقُ الْهَازِلِ فَيَقَعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ".

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ: هُنَاكَ صُوَرٌ لِلطَّلَاقِ لَا تَقَعُ دِيَانَةً وَلَا قَضَاءً؛ لِفَقْدِهَا شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الطَّلَاقِ.

 

وَهَذِهِ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ نَحْمَدُ اللَّهَ -تَعَالَى- عَلَيْهَا؛ إِذْ لَوْ أَوْقَعَ الشَّرْعُ الطَّلَاقَ بِهَذِهِ الصُّوَرِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الْحَجِّ: 78].

 

فَمِنْ صُوَرِ الطَّلَاقِ الَّتِي لَا تَقَعُ: طَلَاقُ الْمُكْرَهِ؛ فَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ مُنْعَدِمُ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ، فَكَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ، وَيَدُلُّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْإِكْرَاهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَمَّا لَوْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ عَلَى الطَّلَاقِ بِحَقٍّ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ، كَالْمُولِي إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ بِدُونِ فَيْءٍ.

 

وَلَكِنْ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- لَيْسَ كُلُّ إِكْرَاهٍ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، بَلْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِلْإِكْرَاهِ الَّذِي لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ شُرُوطًا، مِنْهَا:

أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ مِنْ قَادِرٍ عَلَى تَنْفِيذِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ الْمُكْرَهَ؛ كَأَنْ يَكُونَ سُلْطَانًا أَوْ ظَالِمًا كَلِصٍّ، وَأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْمُكْرَهِ نُزُولُ الْوَعِيدِ بِهِ، إِنْ لَمْ يُجِبِ الْمُكْرِهَ إِلَى مَا طَلَبَهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَا تُوُعِّدَ بِهِ مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ ضَرَرًا كَثِيرًا؛ كَالْقَتْلِ، وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَالْقَيْدِ، وَالْحَبْسِ.

 

وَمِنْ صُوَرِ الطَّلَاقِ الَّتِي لَا تَقَعُ: طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ؛ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالْمَعْتُوهِ، وَالْمَدْهُوشِ الَّذِي أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ نَاقِصُ الْأَهْلِيَّةِ، مَسْلُوبُ الْإِرَادَةِ، فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ ضَرَرٌ مَحْضٌ فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ وَالْمَجْنُونُ.

 

وَدَلِيلُ اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ: حَدِيثُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَمِنْ صُوَرِ الطَّلَاقِ الَّتِي لَا تَقَعُ: طَلَاقُ الْمُخْطِئِ، وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ فَيَزِلَّ لِسَانُهُ وَيَتَكَلَّمَ بِغَيْرِهِ؛ كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَاهِرٌ، فَقَالَ -خَطَأً-: أَنْتِ طَالِقٌ، فَهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ: "إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ...".

 

وَمِنْ صُوَرِ الطَّلَاقِ الَّتِي لَا تَقَعُ: طَلَاقُ الْغَافِلِ وَالسَّاهِي وَالنَّاسِي، فَالْغَافِلُ هُوَ: الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الطَّلَاقُ فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَيْهِ، وَمِثْلُهُ السَّاهِي وَالنَّاسِي، فَهَؤُلَاءِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُمْ؛ لِفَقْدِهِمْ شَرْطَ الْقَصْدِ فِي اللَّفْظِ اخْتِيَارًا. قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)[الْبَقَرَةِ: 286].

 

وَمِنْ صُوَرِ الطَّلَاقِ الَّتِي لَا تَقَعُ: طَلَاقُ الشَّاكِّ؛ فَمَنْ شَكَّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ: هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا؟ لَمْ تُطَلَّقِ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، فَلَا يَزُولُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ بِالشَّكِّ؛ غَيْرَ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ الْأَقَلُّ، فَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً، حُكِمَ بِوُقُوعِهِ طَلْقَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ، وَفِي الزِّيَادَةِ شَكٌّ.

 

فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُصْلِحَ بُيُوتَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاتِّفَاقِ، وَيَحْمِيَهَا مِنْ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ وَالطَّلَاقِ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هُنَاكَ صُورَتَانِ مِنْ صُوَرِ الطَّلَاقِ قَوِيَ خِلَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِمَا؛ نَظَرًا لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الظَّاهِرِ فِيهِمَا؛ وَهُمَا طَلَاقُ الْغَضْبَانِ، وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ.

 

فَالْغَضَبُ: تَغَيُّرٌ يَحْصُلُ عِنْدَ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ، يُؤَدِّي إِلَى الِاضْطِرَابِ الْعَصَبِيِّ، وَعَدَمِ التَّوَازُنِ الْفِكْرِيِّ؛ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ -مَعْشَرَ الْفُضَلَاءِ- أَنَّ الْغَضْبَانَ مُكَلَّفٌ فِي حَالِ غَضَبِهِ، يُحَاسَبُ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ كُفْرٍ، أَوْ قَتْلٍ، أَوِ اعْتِدَاءٍ.

 

غَيْرَ أَنَّهُ حَصَلَ خِلَافٌ لِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ طَلَاقِهِ: هَلْ يُلْحَقُ بِطَلَاقِ الْعَاقِلِ، أَوْ لَا؟

 

وَالرَّاجِحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ الْغَضَبَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَظَلَّ الْمُطَلِّقُ فِي حَالَةِ وَعْيٍ وَإِدْرَاكٍ لِمَا يَقُولُ، بِحَيْثُ لَا يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ وَلَا ذِهْنُهُ، وَيَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيَقْصِدُهُ؛ فَهَذَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي كُلِّ طَلَاقٍ يَصْدُرُ عَنِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ -غَالِبًا- لَا يَقَعُ إِلَّا فِي حَالِ غَضَبٍ.

 

الثَّانِي: أَنْ يَشْتَدَّ الْغَضَبُ بِالْإِنْسَانِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يَدْرِي فِيهَا مَا يَقُولُ وَيَفْعَلُ وَيَقْصِدُ، فَهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَسْلُوبُ الْإِرَادَةِ، خَارِجٌ عَنِ الْعَقْلِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ: "لَا طَلَاقَ، وَلَا عِتَاقَ فِي غِلَاقٍ"، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: "الْغِلَاقُ: أَظُنُّهُ فِي الْغَضَبِ".

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَأَمَّا طَلَاقُ السَّكْرَانِ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: سُكْرٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، كَأَنْ يَسْكَرَ الْإِنْسَانُ مُكْرَهًا، أَوْ تَنَاوَلَ دَوَاءً يُذْهِبُ عَقْلَهُ، أَوْ تَعَاطَى الْبَنْجَ، أَوْ سَكِرَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَصِلَ بِهِ ذَهَابُ الْعَقْلِ إِلَى دَرَجَةِ الْهَذَيَانِ وَخَلْطِ الْكَلَامِ، بِحَيْثُ لَا يَعِي بَعْدَ إِفَاقَتِهِ مَا صَدَرَ مِنْهُ حَالَ سُكْرِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَدْرِي مَا يَقُولُ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ.

 

الْقِسْمُ الثَّانِي: سُكْرٌ بِطَرِيقٍ مُحَرَّمٍ وَهُوَ الْغَالِبُ؛ بِأَنْ شَرِبَ الْإِنْسَانُ مُسْكِرًا كَالْخَمْرِ أَوِ الْمُخَدِّرَاتِ عَالِمًا بِهِ، مُخْتَارًا لِشُرْبِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْخِلَافُ؛ فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى صَاحِبِهِ؛ عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُوقِعْهُ؛ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْوَعْيِ، وَالرَّاجِحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا السُّكْرَ عَلَى نَوْعَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ سُكْرُهُ طَافِحًا بِحَيْثُ يَشْتَدُّ بِهِ فَيُصْبِحُ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَإِذَا صَحَا فَسُئِلَ عَمَّا قَالَ فَيُخْبِرُ أَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِمَا قَالَ، فَهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ.

 

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سُكْرُهُ لَا يُذْهِبُ عَنْهُ كَمَالَ الْإِدْرَاكِ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كُلِّ الْوَعْيِ، بِحَيْثُ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَيَدْرِي بِمَاذَا تَكَلَّمَ، فَهَذَا يَقَعُ طَلَاقُهُ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: فَهَذِهِ صُوَرُ مَنْ يَقَعُ طَلَاقُهُمْ، وَصُوَرُ مَنْ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُمْ.

 

غَيْرَ أَنَّ الطَّلَاقَ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- أَمْرُهُ عَظِيمٌ، وَآثَارُهُ جَسِيمَةٌ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْمَحَاكِمِ، وَفَصْلُهُ بِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ لِلْقُضَاةِ بَعْدَ التَّحَرِّي وَهَيْبَةِ السُّلْطَانِ مَا لَا يَظْهَرُ لِلْمُفْتِي، أَوِ الْعَارِفِ بِمَسَائِلِ الطَّلَاقِ.

 

فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللَّهِ- فِي أَمْرِ الطَّلَاقِ، وَتَحَرَّوُا الْحَقَّ وَالْوَرَعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّسَاهُلَ، وَالْبَحْثَ عَنِ الْأَقْوَالِ الْمُوَافِقَةِ لِلْهَوَى، الْمُخَالِفَةِ لِلصَّوَابِ فِي شَرْعِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا صَلَاحَ الْبُيُوتِ، وَالثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى نَمُوتَ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

 

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى النِّعَمِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

المرفقات

أصناف المطلقين (صور الطلاق).doc

أصناف المطلقين (صور الطلاق).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات