عناصر الخطبة
1/ تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 2/ قصة ثلاثة نفر عرفوا الله في الرخاء 3/ أعظم شدة هي شدة الموت 4/ سبب عدم إجابة الدعوة في الشدةاقتباس
الذي قوى صلته بربه، وقام بحق الله وتعرف للحي القيوم في حال الرخاء، فإن الله -تبارك وتعالى- يعرفه في حال الشدة، في حال الضيق، فيلطف به ويعينه على الشدائد وييسر أموره، قال -جل وعلا-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)، وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)، هكذا وعد الله -سبحانه وتعالى- للمتقين، والله لا يخلف المعياد. وإليكم هذه القصة التي تبيّن عاقبة الأعمال الصالحة، وأن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -عز وجل-.
عباد الله: تعرّفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، تعرفوا إلى الله -عزّ وجل- بالقيام بطاعته، رغبة في ثوابه، وابتعاداً عن عقابه، خوفاً من النار، فإن أليم النار شديد.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون بالله حقاً: اعلموا أن رخاء العيش، وطيب الحال من النعم التي تستوجب الشكر على العباد، والقيام بطاعة المنعم الجواد -جل وعلا-.
أيها المؤمنون بالله: اعلموا أن الإنسان في حال الرخاء يستطيع أن يعمل ما لا يمكنه القيام به في حال الشدة، ويستطيع أن يعمل في سن الشباب ما لا يمكنه القيام به في حال الكبر والهرم، ويستطيع أن يعمل في زمن الأمن والطمأنينة ما لا يمكنه القيام به في حال الخوف، ويستطيع أن يعمل وهو صحيح، ما لا يمكنه القيام به وهو مريض، وإذا امتحن الإنسان هذه الحياة، وفكر فيها جيداً، عرف حقاً أن العافية في البدن والأمن والترف لا يدوم، فقد يعقبها شدة ومرضاً.
نعم -يا أهل الأخوة في الله-، نعم -يا أهل العقول يا أولي الألباب- إذا امتحن الإنسان هذه الحياة الدنيا وفكّر فيها جيداً، عرف حقاًً أن العافية في البدن والأمن والترف لكنها لا تدوم، فقد يعقبها شدة ومرضاً، وخوفاً وجوعاً، لكن المؤمن بالله حقاً، الذي قوى صلته بربه -جل وعلا-، وقام بحق الله -تبارك وتعالى- وتعرف للحي القيوم في حال الرخاء، فإن الله -تبارك وتعالى- يعرفه في حال الشدة، في حال الضيق، فيلطف به ويعينه على الشدائد وييسر أموره، قال -جل وعلا-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق:4] هكذا وعد الله -سبحانه وتعالى- للمتقين، والله لا يخلف المعياد، فاتقوا الله -عباد الله-.
وإليكم هذه القصة التي تبيّن عاقبة الأعمال الصالحة، وأن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة، يقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. قال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً؛ فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر -الله أكبر- والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة؛ فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ -وفي رواية:- كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها فامتنعت مني، حتى ألمّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها؛ ففعلت حتى إذا قدرت عليها -وفي رواية:- فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها -الله أكبر- اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم إنه كان لي أجراء -اسمعوا يا أهل المؤسسات! اسمعوا يا من تظلمون الناس حقوقهم! اسمعوا يا من تواعدون وتخلفون- وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله: أد إليّ أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله: لا تستهزئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون".
لا إله إلا الله، ما أجمل التقوى وأهدى سبيلها!
أمة الإسلام: تلكم القصة التي أخبر بها أصدق الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، فالأول من أولئك الثلاثة ضرب مثلاً عظيماً في بر والديه، وبقي طول الليل والإناء على يده، لم تطب نفسه أن يشرب منه، ولا أن يسقي أولاده وأهله، ولا أن ينغص على والديه نومهما، لم يقل: يا شيبة، يا عجوز: قم، لا، تركهما حتى قاما واستيقظا حتى طلع الفجر والقدح على يديه، فلما قاما أسقاهما ذلك الغبوق، الله أكبر.
وأما الثاني: فضرب مثلاً بالغاً في العفة الكاملة حيث تمكن من حصول مراده، من هذه المرأة التي هي أحب الناس إليه، ولكن لما ذكرته بالله لما قالت له: اتق الله تركها وقام، ولم يعمل الفاحشة، ولم يأخذ شيئاً مما أعطاها، ناهيك من الذين يتكبدون المشاق يضربون المشاوير الطويلة ليحصلوا على الزنا واللواط، فكم سمعوا في الخطب، كم سمعوا في المواعظ: اتقوا الله.. اتقوا الله.. ولكن: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14].
وأما الثالث: فقد ضرب مثلاً في غاية الأمانة والنصح حيث نمّى للأجير أجره، لم يماطل به، لم يشتكيه على الحقوق المدنية، لم يواعده ويضره، لم يضرب دونه الباب، لم يمنعه أجره بالثمانية أشهر ولا بالعشرة الأشهر، يواعده في بلاده، يعطيه من المواعيد ومن الأماني، فإذا أتى به ثمله وسرحه، فبعضهم يموت جوعاً الآن بسبب أولئك الذين فقدوا الأمانة، فيا ويلهم إذا وقفوا بين يدي الله.
هذا الثالث ضرب مثلاً في غاية الأمانة والنصح، حيث نمّى للأجير أجره، فبلغ ما بلغ وسلّمه إلى صاحبه، ولم يأخذ على عمله شيئاً، فكان من جزاء هذه الأعمال الصالحة التي تعرّفوا بها إلى الله، في حال الرخاء أن الله عرفهم في حال الشدة، فأنقذهم من الهلاك، وإلا -يا إخوتي في الله- من يعلم أنهم في وسط هذا الجبل وسد عليهم هذا الحجر العظيم إلا لطف الله -عز وجل-، لما تعرفوا على الله في الرخاء عرفهم الله في الشدة، فأنقذهم من الهلاك، وهذه سنة الله في خلقه إلى يوم القيامة، أن من تعرّف إلى الله في حال الرخاء عرفه في حال الشدة، كما أوصى بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: "تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الزمر:61-63].
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: قد سمعتم ما في القصة السابقة الذكر من الأمر العجيب لمن أطاع الله واتقاه.
أيها المسلمون: إن الشدائد أنواع متنوعة، وإن أعظم شدة يقع فيها الإنسان ما يكون من شدة الموت، عند فراق المألوف، واستقبال المخوف، فإذا كان العبد ممن تعرف إلى الله في حال صحته وحياته ونشاطه وأمنه واستقراره عرفه الله سبحانه في حال شدته وعند حضور ملك الموت، إذا نزع الروح من القصب والعصب واللحم؛ فإن الله يهون عليه الأمر ويحسن له الخاتمة، وينتقل من هذه الدنيا على أحسن حال، وأما إذا كان معرضاً عن الله لم يزده الرخاء إلا بطراً وبعداً عن الله تعالى، فحريٌ بأن يكله الله إلى نفسه، ويتخلى عنه حال شدائده فتحيط به السيئات والأوزار ويموت على أسوأ حال، نسأل الله العافية.
قال الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]، وهذا الناصح الأمين محمد بن عبد الله، رسول الهدى يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا ذكر هادم اللذات"، قال بعض العلماء: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء:
1- تعجيل التوبة.
2- قناعة القلب.
3- النشاط في العبادة.
ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء:
1- تسويف التوبة.
2- عدم الرضا بالكفاف.
والناصح يقول:
خـذ القناعة من دنياك وارض بها *** لـو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا ليجمعها *** هل راح منها بغير الحنط والكفن
3- التكاسل في العبادة.
عباد الله: الاستعداد للموت هو ألا يفرغ القلب من ذكره، ويتذكر دائماً من أخذه الموت على غرة وبدون إنذار.
عباد الله: مرّ إبراهيم بن أدهم على أناس فسألوه عن قول الله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]، قالوا: يا إبراهيم: فإنا ندعوه فلا يستجاب لنا! فقال -رحمة الله تعالى عليه-: "لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: أولاً: أنكم عرفتم الله ولم تؤدوا حقه. ثانياً: قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به. ثالثاً: ادعيتم عداوة الشيطان وواليتموه. رابعاً: ادعيتم حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتركتم أثره وسنته. خامساً: ادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها. سادساً: ادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب. سابعاً: ادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له. ثامناً: اشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم. تاسعاً: تأكلون رزق الله ولا تشكرونه. عاشراً: تدفنون أمواتكم ولا تعتبرون.
فجدير لمن كان الموت مصرعه والتراب مضجعه، والدود أنيسه، ومنكر ونكير سائله، وعمله جليسه، والقبر مقره، والبرزخ مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، ألا يغفل عن الموت وما بعده، وألا يستعد إلا له، وألا يهتم إلا به، وألا يحوم إلا حوله، وليعد نفسه في الموتى، ويراها في أصحاب القبور، وليذكر اليوم أنه في الدور والقصور، وغداً في الحفر والقبور.
فالموت هو المصيبة العظمى والرزية الكبرى، وأعظم من ذلك الغفلة عنه والإعراض عن ذكره، وعدم التفكير فيه، وترك العمل له، فإن فيه عبرة لمن اعتبر". انتهى كلام ابن ادهم -رحمه الله تعالى-.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56] ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "من صلّى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً".
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم