أصحاب الأخدود دروس وعبر

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ أوضاع المسلمين المؤلمة في العالم 2/ قصة أصحاب الأخدود 3/ انتصار العقيدة 4/ التاريخ يتكرر 5/ إبهام المصير الدنيوي لطغاة الأخدود 6/ مجال الجزاء ليس في الدنيا فقط 7/ الارتباط بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة 8/ انتصار الحق بقتل أهله

اقتباس

ونحن نعيش في هذه الأيام العصيبة، أيام يقتل فيها المسلمون على الهوية، أيام قتل وهدم وحرق لبلاد المسلمين، بمن فيها من الناس والدواب والدور والمصانع والمزارع، وكل مقدرات الأمة في حرب ضروس أهلك أهل الباطل فيها الحرث والنسل، في أيام هي من أحلك أيام تاريخ الأمة؛ جميل أن نعود فننظر إلى معين الأمة الذي لا ينضب فنستلهم منه العبرة.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أيها الإخوة: ونحن نعيش في هذه الأيام العصيبة، أيام يقتل فيها المسلمون على الهوية، أيام قتل وهدم وحرق لبلاد المسلمين، بمن فيها من الناس والدواب والدور والمصانع والمزارع، وكل مقدرات الأمة في حرب ضروس أهلك أهل الباطل فيها الحرث والنسل، في أيام هي من أحلك أيام تاريخ الأمة؛ جميل أن نعود فننظر إلى معين الأمة الذي لا ينضب فنستلهم منه العبرة.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج:1-9].

 

وتفاصيل قصتهم ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه؛ ففي صحيح مسلم عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟! فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ.

 

فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ: أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟! قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟! قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟! قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟! قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟! قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي.

 

فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟! قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ".

 

أيها الإخوة: أجل، "يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ".

 

نعم، إنها قصة فئة آمنت بربها وأعلنت حقيقة إيمانها، ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين مستهترين بحق الإنسان في حرية الاعتقاد والإيمان بالله العزيز الحميد.

 

لقد انتصرت في هذه القصة العقيدة على الحياة؛ فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة، ولم تفتن في دينها وهي تحرق بالنار حتى تموت. لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة، فلم يستذلها حب البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة، وانطلقت من قيود الأرض جواذبها جميعاً وارتفعت إلى أعلى ذراها.

 

أيها الإخوة: ها هو التاريخ يعيد نفسه وتكرر الأحداث ولكن بصورة أخرى، لكن الحقيقة واحدة وإن اختلف الشكل.

 

إن حقد الكافرين لم يتغير على مر العصور، ها هم يهود قد ارتكبوا أبشع الجرائم في فلسطين المسلمة، وها هي الباطنية الملحدة تمارس أقسى أنواع الوحشية وأشد صور الإجرام في بلاد الشام، وها هي البوذية الوثنية تمارس أعتى أنواع البطش وأقسى أنواع القتل ضد المسلمين في بورما، إن كل هؤلاء ظلمة مجرمون وإن اختلف شكل الأخدود، فقصة أصحاب الأخدود تتكرر عبر الزمان في أكثر من مكان، والجامع بينها: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج:8]، فجريمتهم أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد.

 

أيها الإخوة: ولنرجع إلى قصة أصحاب الأخدود؛ لقد ذكرت تلك الفتنة العظيمة، وذكرت تلك النهاية المروعة الأليمة لتلك الفئة المؤمنة التي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفر التي أضرمت فيها النار، بينما لم يرد خبر في الآيات عن نهاية الظالمين الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، لم تذكر الآياتُ عقوبة دنيوية حلت بهم، لم تذكر أن الأرض خسفت بهم، ولا أن قارعة من السماء نزلت عليهم. انتهت القصة بذكر مصير المؤمنين وهم يلقون في الأخدود، وأعرض السياق القرآني عن نهاية الظالمين الذين قارفوا تلك الجريمة، فلم تذكر عقوبتهم الدنيوية ولا الانتقام الأرضي منهم. فلماذا أغفل مصير الظالمين؟! أهكذا ينتهي الأمر؟! أهكذا تذهب الفئة المؤمنة مع آلامها واحتراقها بنسائها وأطفالها في حريق الأخدود، بينما تذهب الفئة الباغية الطاغية التي قارفت تلك الجريمة تذهب ناجية؟!

 

هنا هنا تبرز الحقيقة العظمى، وهي أن ما يجري في هذا الكون لا يجري في غفلة من الله -جل وعلا-، وإنما يجري في ملكه؛ ولذا جاء التعقيب بالغ الشفافية: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [البروج:8، 9]، فهذا الذي جرى جرى في ملكِه وليس بعيداً عن سطوته، إنما في ملكه (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج: 9]، فهذا الذي تم الله عليه شهيد، شهيد مطلع عليه، إذًا فأين جزاء هؤلاء الظالمين؟! يأتي الجواب منه سبحانه: كلا لم يفلتوا.

 

إن مجال الجزاء ليست الأرض وحدَها، وليست الحياة الدنيا وحدها! إن الجزاء الحقيقي هناك، هناك في الدار الآخرة: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البروج:10]، هؤلاء الذين أَحْرَقُوا المؤمنين في الأخدود سيحرقون، ولكن أين؟! سيحرقون في نار جهنم في الآخرة، وما أعظم الفرق بين حريق وحريق!! في شدته ومدته، أين حريق الدنيا بنار يوقدها الخلق من حريق الآخرة بنار يوقدُها الخالقُ؟! أين حريق الدنيا الذي ينتهي في لحظات من حريق الآخرة بنارٍ يوقدُها الخالق؟! أين حريقُ الدنيا الذي ينتهي بلحظات من حريق الآخرة الذي يمتدُ إلى آباد لا يعلمها إلا الله؟! أين حريق الدنيا الذي عاقبته رضوان الله تعالى من حريق الآخرة ومعه غضبُ الله؟! أين حريق الدنيا -وإن استخدمت فيه الصواريخ الملتهبة والقنابل الذكية والنابالم- من حريق نار جهنم التي قَالَ عَنْها رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، قَالَ: "فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَاه". البخاري.

 

هذا المعنى الضخم الذي ينبغي أن تشخصَ الأبصار إليه وهو الارتباط بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة، أما الدنيا فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وصورها رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبلغ تصوير حين مَرَّ بِالسُّوقِ، دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كنفته -جانبه- فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ -صغير الأذنين- فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟!"، فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟! قَالَ: "أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟!"، قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، كَانَ عَيْبًا فِيهِ، لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟! فَقَالَ: "فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ". رواه مسلم.

 

إن الدنيا هينة على الله، ومن هوانها أنها أهونُ على الله من هذه الجيفة التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهم، وإذا كانت الدنيا هينة على الله هذا الهوان فإن الله -جل جلاله- لم يرضها جزاءً لأوليائه، ولم يجعل العذاب فيها والعقوبة فيها هي الجزاء الوحيد لأعدائه.

 

بارك الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة: إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف أسباب موتهم، ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق على هذه الآفاق، إنه اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في المجد في الملأ الأعلى.

 

لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم مقابلَ الهزيمة الإيمانية، ولكن كم كانوا سيخسرون؟! وكم كانت البشرية كلها ستخسر؟! كم كانوا سيخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير -معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد-؟!

 

إنه معنى كريم وكبير هذا الذي ربحوه وهم بعدُ في هذه الأرض، ربحوه وهم يجدون مس النار التي تحرق أجسادهم الفانية، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار.

 

أيها الأحبة: إن القلوب حين يباشرها الإيمان ويستقر في سويدائها يهوّن عليها كل عسير، فتصبح الآلام راحة، والعذاب نعيماً، والبكاء فرحاً.

 

وإلا كيف لغلام صغير يبتلى ويؤذى ويعرض للقتل مراراً، بل يذهب به إلى القتل فيمشي وكأنه يُزف ليوم زفافه! غلام داعية إلى الله يحمل في نفسه هم إصلاح الناس وهدايتهم إلى الدين وإلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ ثم يجود بحياته رجاء هداية الناس، فكان له ما أراد، فرضي الله عنه وأرضاه.

 

أيها الإخوة: هكذا سجل هذا الغلام تضحية من أعظم التضحيات التي عرفها التاريخ، فقدم نفسه لإعلاء كلمة الله، وحتى يعبد وحده لا شريك له، فيموت كما يموت الشهداء، فلا يجد من ألم الطعنة إلا كما يجد أحدنا من القرصة، ويأتي يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك.

 

 

 

 

المرفقات

الأخدود دروس وعبر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات