أسباب الهداية

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/ الهداية هدفٌ ينشده كل مسلم 2/ من أسباب الهداية 3/ الهداية تَجُرُّ إلى مزيد من الهداية

اقتباس

إن الهداية إلى الصراط المستقيم هدفٌ ينشده كل مسلم، لكنهم يتفاوتون في جدية الطلب له، وصدق العزيمة في بلوغه، ومن ثمَّ يتفاوتون في بلوغ درجاته، ولعل معرفة المسلم التامة بأسباب الهداية تقوده بعد توفيق الله تعالى إلى الأخذ بها، وها نحن نلهج في كل ركعة من ركعات صلواتنا بطلب الهداية فنقول: اهدنا الصراط المستقيم...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة: استقيموا على أمر الله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].

 

أحبتي: إن الهداية إلى الصراط المستقيم هدفٌ ينشده كل مسلم، لكنهم يتفاوتون في جدية الطلب له، وصدق العزيمة في بلوغه، ومن ثمَّ يتفاوتون في بلوغ درجاته، ولعل معرفة المسلم التامة بأسباب الهداية تقوده بعد توفيق الله تعالى إلى الأخذ بها، وها نحن نلهج في كل ركعة من ركعات صلواتنا بطلب الهداية فنقول: اهدنا الصراط المستقيم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَالْعَبْدُ مُضْطَرٌّ دَائِمًا إلَى أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى مَقْصُودِ هَذَا الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا نَجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ وَلَا وُصُولَ إلَى السَّعَادَةِ إلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ؛ فَمَنْ فَاتَهُ فَهُوَ إمَّا مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَإِمَّا مِنْ الضَّالِّينَ، وَهَذَا الْهُدَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهُدَى اللَّهِ".

 

ومن أسباب الهداية -جعلنا الله ومن نحب من المهتدين-: سعةُ الصدر وانشراحه للإسلام وتعاليمِه؛ قال الله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام:125]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يوسع قلبه للتوحيد والإيمان".

 

نعم -أيها الإخوة- إن مفتاح شرح الصدر للإسلام هو التوحيدُ الخالصُ الذي لا يخالطه أدنى شك أو شرك، واستشعارُ ذلك عند ذكر الله، فحققوا التوحيد وعمقوا الإيمان تنشرحْ صدوركم لمزيدٍ من الهداية والاستقامة.

 

أيها الإخوة: وإذا كان التوحيدُ مفتاح الهداية، فإن عمل الصالحات والتقربَ إلى الله بسائر الطاعات هي أسنانٌ لهذا المفتاح، فاحرصوا -وفقني الله وإياكم- على أن يكون لكم حظ من كل طاعة، ونصيب من كل قربة، لتصلوا إلى انشراح الصدر والسعادة في الدنيا قبل الآخرة، واحذروا الانغماس في الشهوات وإغراق القلب بالمحرمات؛ فإنها سببٌ لضيق الصدر وانقباض القلب، فكأنه من ضيقه وشدته يُكَلَّفُ بالصعودِ إلى السماء الذي لا حيلة فيه.

 

وإياكم والغفلة وإغراء اللذة العاجلة التي تُنسي أمر الله، وتدعو لفعل ما نهى الله عنه.

 

وتذكروا -وفقكم الله- وأنتم في الدنيا دار العمل هذه المحاورة التي وقعت بين المؤمنين والمجرمين؛ قال الله تعالى حاكياً ذلك، قال المؤمنون للمجرمين: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [المدثر:42-51]، لقد كانت حالهم سيئة؛ فلا إخلاص للمعبود ولا إحسانَ، ولا نفع للخلق المحتاجين، وكانوا يخوضون بالباطل ويجادلون به الحق، ومن آثار ذلك: التكذيب بالحق، نعوذ بالله من حالهم.

 

أيها الإخوة: ومن أسباب الهداية والتوفيق للصراط المستقيم: استدامةُ ذكر الله تعالى، فذكر الله على كل حال سببٌ جالبٌ لارتباط القلب بالله، وعاملٌ مهمٌ لطمأنينة القلب وانشراح الصدر، يقول خالق هذا القلب والعالم بمكنونه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]. قال الشيخ السعدي -رحمه الله- عند هذه الآية: أي: يزولُ قلقُها واضطرابُها، وتحضرُها أفراحُها ولذاتُها، (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي: حقيق بها وحريٌّ أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها، والأنسِ به ومعرفتِه، وعلى قدر معرفتِها بالله ومحبتها له يكون ذكرها له، هذا على القول بأن ذكرَ اللهِ ذكر العبد لربه من تسبيح وتهليل وتكبير وغير ذلك.

 

ثم هل تعلم -أيها الأخ المبارك- أنك على قدر ذكرك لله -سبحانه وتعالى- يذكرك سبحانه فقد قال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152]، فأمر تعالى بذكره، ووعد عليه أفضل جزاء، وهو ذكره سبحانه لمن ذكره، كما قال تعالى على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ". متفق عليه.

 

الذكر -أيها الإخوة- كما قال ابن القيم -رحمه الله-: وهو منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون، وفيها يتجرون، وإليها دائمًا يترددون، وهو قوتُ قلوبِ القومِ الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلمهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقبلون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلاء، وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق".

 

أيها الإخوة: ومن أسباب الهداية: تلاوة كتاب الله تعالى بتدبر وتمعن وخشوع، وهو من ذكر الله، لكن لأهميته ومزيد العناية به جعلته سبباً مستقلاً؛ ذلك أن أثر القرآن وتأثيره على النفوس واضح مشهود مهما بلغت القلوب من القسوة والإعراض، ومهما كانت حالُ المرء من الشقاوة والضلال، فهل بعد الكفر ذنب؟! روى البخاري عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ) [الطور:35-37] قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ. وذلك أول ما وقرَ الإيمانُ في قلبه -رضي الله عنه-.

 

انظر كيف تأثير القرآن على قلبه وهو كافر حين أقبل عليه وتدبر معناه، فما لنا عن تدبر القرآن غافلين!! (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24].

 

جعلنا الله من أهل القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والإيمان. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة: ومن أعظم أسباب الهداية: التفكرُ في مخلوقات الله تعالى، والنظرُ في ملكوت السموات والأرض، وكذلك التأمل في النفس وعجيب خلقها.

 

ولا شك أن المتأمل في هذا الكون وما أودع الله فيه من مخلوقات، وعجيب تنظيمها وكيفية تسييرها، سيعود بعد هذا التأمل مؤمناً بالله خاشعاً له مهتدياً بهداه؛ قال الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190،191]، ويقول سبحانه: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية:17-20]، ويدعو سبحانه الإنسان إلى التأمل بنفسه وعجيب خلقه فيقول: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].

 

ومن أسباب الهداية كذلك: رفقة الصالحين، فكم من ضالٍّ هداه الله على أيديهم!! فعلى المرء أن يختار رفقة صالحة تذكره إذا نسي، وتعينه إذا ضعف، قال الله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67].

 

والهدايةُ أحبتي سببٌ في زيادةِ الهداية: ذلك أَنَّ الهدايةَ تجرُ الهداية، والضلالَ يجرُ الضلال، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فأعمال البر تثمر الهدى، وكلما ازداد منها ازداد هدى، وأعمال الفجور بالضد، وذلك أن الله سبحانه يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح، ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء، وأيضًا فإنه الْبَرُّ ويُحِبُ أهلَ البِر، فيُقَرّبُ قُلُوبَهم منه بِحَسَبِ ما قاموا به من البِرِّ".

 

وقال -رحمه الله-: "إن العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملاً، وقبل أوامره، وصدّق بأخباره؛ كان ذلك سبباً لهداية أخرى تحصل له على التفصيل؛ فإن الهداية لا نهاية لها، ولو بلغَ العبدُ فيها ما بلغ، ففوق هدايته هداية أخرى، وفوق تلك الهداية هداية أخرى إلى غير غاية؛ فكلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى؛ فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى، وكلما فوّت حظاً من التقوى فاته حظ من الهداية بحسبه، فكلما اتقى زاد هداه، وكلما اهتدى زادت تقواه؛ قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15، 16]، وقال تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى:13]، وقال: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) [الأعلى:10]، وقال: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) [غافر:13]، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) [يونس:9]، فهداهم أولاً للإيمانِ، فلما آمنوا هداهم للإيمان هداية بعد هداية، ونظير هذا قوله: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [مريم:76].

 

ومن أعظم أسباب الهداية وأهمها: الدعاء؛ نعم الدعاء، فهو سلاح المؤمن في الشدائد، ولا غنى للمسلم عنه مهما بذل من الأسباب؛ فهو بدايتها ونهايتها ومرافقها، لنتضرع إخوتي إلى الله ونبتهل إليه بأسمائه وصفاته بأن يوفقنا إلى الصراط المستقيم، ولا نمل، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا كَانَ عِنْدَيِ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ". رواه الترمذي وصححه الألباني. قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60].

 

أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، ويرزقنا الثبات عليه إلى الممات، إنه جواد كريم.

 

 

 

المرفقات

الهداية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات