أرجو لقاء الله

ناصر بن محمد الأحمد

2014-10-23 - 1435/12/29
عناصر الخطبة
1/ عجيب أمرك يا ابن آدم 2/ من كان يرجو لقاء الله 3/ شوق الصالحين لرؤية وجه ربهم الكريم 4/ الفرق بين الرجاء والتمني 5/ شوق النبي -صلى الله عليه وسلم- للقاء ربه 6/ كيف يرجو العبد لقاء ربه؟ 7/ أماني الصالحين وشوقهم لرؤية رب العالمين 8/ من علامات توفيق الله لعبده

اقتباس

من العجيب حقّاً أن الإنسان قد يموت أبواه أو أحدهما، أو يرحل عنه ابن أو بنت، أو قد يفارق أخاً له بسفر أو عمل أو موت، أو يفارق امرأته بموت أو طلاق بعد عِشرة سنين، وعندما يتذكر هؤلاء يشتاقُ إليهم، ويتمنى أن لو عاد به الزمن إلى الوراء فينظر في وجوههم، ويُصغي إلى حديثهم، ويلبِّي مطالبهم، ويستبد به الشوق إلى رؤيتهم، وقد يأخذه البكاء والحنين إليهم! والأعجب من ذلك أنه لا يأتي في باله يوماً أن يرجو لقاء ربه، أو أن يشتاق إلى النظر إلى وجهه الكريم! فلا تحدِّثه نفسه بذلك..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: عجيب أمر هذا الإنسان، يبحث عما يضره، ويترك ما ينفعه، ويرجو من لا يملك، وينأى عمَّن بيده كلُّ شيء، ويتطلع إلى كلِّ عاجز فقير مثله، ويأمل من الضعيف الذي لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وتتقطع نفسه حسرات على دنيا يرجوها، وأمنيات زائلة، وأحلام بائسة، يطرق كلَّ الأبواب إلاَّ باب ربه، ويخاف من كل أحد إلا منه، ويطمع في كل عطاء إلا عطاءه. فما أجهل ابن آدم بربه! وما أظلمه!

 

ومن العجيب حقّاً أن الإنسان قد يموت أبواه أو أحدهما، أو يرحل عنه ابن أو بنت، أو قد يفارق أخاً له بسفر أو عمل أو موت، أو يفارق امرأته بموت أو طلاق بعد عِشرة سنين، وعندما يتذكر هؤلاء يشتاقُ إليهم، ويتمنى أن لو عاد به الزمن إلى الوراء فينظر في وجوههم، ويُصغي إلى حديثهم، ويلبِّي مطالبهم، ويستبد به الشوق إلى رؤيتهم، وقد يأخذه البكاء والحنين إليهم! والأعجب من ذلك أنه لا يأتي في باله يوماً أن يرجو لقاء ربه، أو أن يشتاق إلى النظر إلى وجهه الكريم! فلا تحدِّثه نفسه بذلك، بل إذا ذُكِّر بالموت أو وُعظ به ربما ساءه ذلك، ولم يتطلع يوماً أو يشتاق إلى النظر إلى وجه ربه، فضلاً عن تمني لقائه. ولا يرجو لقاء الله ويشتاق للنظر إلى وجهه الكريم إلا العبد المحسن الموفَّق.

 

قال الله تعالى: (مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيم) [العنكبوت: 5]، في الآية تطمين للذين يرجون لقاء الله، ووصل قلوبهم به في ثقة وفي يقين، فلتقرَّ القلوب الراجية في لقاء الله ولتطمئن، ولتنتظر ما وعدها الله إياه انتظار الواثق المستيقن، ولتتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ولكن في يقين.

 

وفي مقابل شوق القلوب الصالحة والأنفس المطمئنة ورجاؤها للقاء ربها، هناك فريق لا يرجو ولا يطمع في لقاء الله: (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرا) [الفرقان: 21]، فهؤلاء لا يرجون لقاء الله ولا ينتظرونه، ولا يحسبون حسابه، ولا يقيمون حياتهم وتصرفاتهم على أساسه، ومن ثَمَّ لا تستشعر قلوبهم وقار الله وهيبته وجلاله. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أحوال الخلق في قضية لقاء الله بألفاظ واضحة، فبيَّن أن رجاء لقاء الله وتمني لقائه يختلف باختلاف أحوال الناس الإيمانية والعبادية، وأن العبد كلما كان أكملُ توحيداً وأخلصُ عملاً وأفضلُ حالاً وأتبعُ للسنة، فسيتمنى لقاء الله ويحبه إذا بُشِّر به بخلاف غيره. فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ". فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ. فَقَالَ: "لَيْسَ كَذَلِكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ"(متفق عليه).

 

والفرق بين الرجاء والتمني: أن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد. أما الرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل.

فالأول: كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها.

والثاني: كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع. ولهذا فالرجاء لا يصح إلا مع العمل.

 

أيها المسلمون: كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- أبعد الناس عن الدنيا، دائم التطلع للقاء ربه، يشتاق لرؤية الله -تبارك وتعالى- ويدعو ربه أن يرزقه حقيقة الشوق وأعلاه، فعن عمّار بن ياسر -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الصلاة: "اللَّهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي! اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرَّة عين لا تنقطع، اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضرّاء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين" (أخرجه الحاكم وابن حبان).

 

ولهذا لما خُيِّر -صلى الله عليه وسلم- بين الدنيا ولقاءِ الله، اختار لقاءَ الله، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: "إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ"، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى"، فَقُلْتُ: إِذاً لَا يَخْتَارُنَا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ آخِر كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى"(متفق عليه).

 

وعَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ! لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللَّهُ مِنْهُ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا، الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنْ الْأُولَى، قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ! إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةِ. قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدْ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- وَالْجَنَّةَ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ" (رواه الإمام أحمد).

 

أيها المسلمون: كيف يرجو العبد لقاء ربه؟

إن شرع الله محكم لا يحابي أحداً، ولا يفضِّل أحداً على أحد لمجرد لونه أو جنسه أو حَسَبِه ونسبه، بل جعل الإسلام الناس متساويين في أصل التكليف، وشرع لهم سبل القرب من ربهم، وفتح لهم آفاق معرفته ومحبته وطاعته والاقتداء بسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ونبَّه ربنا جل وعلا عباده إلى أن طريق الرجاء الحقيقي طريق بذل وعمل، وجد واجتهاد وتضحيات، وليس مجرد أمنيات فارغة. قال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء: 123 - 124].

 

فالرجاء في الله والشوق إلى لقائه ليس عبر أماني الحالمين، بل لا بد لهذا الشوق والرجاء من عقيدة صافية، وأعمال صالحة، ونيات صادقة. قال الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110]، فالرجاء في الله والشوق إلى لقائه لا بد فيه من تعب وكدٍّ، وإنفاق وواجبات، وبعد البذل والإحسان تأتي منـزلة تمني ما عند الله والرجاء فيه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم) [البقرة: 218]، فبعد الإيمان والهجرة والجهاد والإنفاق في سبيل الله، بعد هذا كله تأتي درجة رجاء رحمة الله.

 

ووضَّح لنا ربنا جل وعلا أن من صفات الراجين لفضل الله ورحمته، المتطلعين للقائه، المشتاقين لربهم أنهم يقتدون برسل الله وخيرته من خلقه، ويقتفون آثرهم في الإيمان والعمل الصالح: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 23]. وقال جل وعلا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد) [الممتحنة: 6].

 

فلا يكون المسلمُ راجياً لله حقّاً حتى يكون عمله صالحاً، فالرجاء لله لا يكون إلا بعد الأعمال الصالحة، فيرجو من الله قبول ذلك العمل والإثابة عليه، أما مجرد رجاء مع تهاونٍ وتعطيلٍ للأوامر وارتكاب للنواهي، فتلك الأماني والغرور. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم) [البقرة: 218]، فبأعمالهم الصالحة التي عملوها إخلاصاً لله، وقياماً بالواجب، صاروا ممن يرجون رحمة الله. فالرجاء بلا عمل أمانٍ كاذبةٍ.

 

قال تعالى مبيِّناً فساد الرجاء مع ترك العمل الصالح: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون) [الجاثية: 21] فما داموا في الحياة متفاوتين فهم كذلك بعد الموت متفاوتون: (أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون) [القلم: 35- 36].

 

وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد فضَّل الرفيق الأعلى، واختار لقاء الله، فعلى دربه سار أصحابه الذين كانوا يرجون لقاء الله، ويرحبون بالموت، ولكن الأهم من ذلك أنهم كانوا يحسنون استقباله.

 

فهذا بلال بن رباح -رضي الله عنه- مؤذن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتيه الموت، فتبكي زوجته وتولول وتقول: "واكرباه واحزناه عليك يا بلالاه"! فقال بلال: "لا تقولي واكرباه، بل قولي: واطرباه. غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه".

 

وهذه أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- تقول: إنَّا لَعِنْد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بعد ما ضربه ابن ملجم، إذ شهق ثم أغمى عليه ثم أفاق، فقال: مرحباً مرحباً، الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة. فقيل له: ما ترى؟ قال هذا رسول الله، وأخي جعفر، وعمي حمزة، وأبواب السماء مفتحة، والملائكة ينزلون يسلمون عليَّ ويبشرون، وهذه فاطمة قد طاف بها وصائفها من الحور، وهذه منازلي في الجنة: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُون) [الصافات: 61].

 

وعن كثير بن زيد قال: كبر حكيم بن حزام -رضي الله عنه- حتى ذهب بصره، ثم اشتكى فاشتد وجعه، فقلت لأحضرنّه ولأنظرنّ ما يتكلم به، فإذا هو يهمهم ويقول: "لا إله إلا الله، أحبك وأخشاك" حتى مات.

 

ولما مرض معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مَرَض وفاته قال في الليلة التي تُوفي فيها: "أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحباً بالموت حبيباً جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر".

 

وقيل للحافظ عبد الغني النابلسي -رحمه الله- عندما أتته الوفاة ما تشتهي؟ قال: "أشتهي النظر إلى وجه الله الكريم".

 

وقيل لبعضهم: أين نطلبك في الآخرة؟ قال: في زمرة الناظرين إلى الله، قيل له: كيف علمت ذلك؟ قال: بغَضِّ طرفي له عن كل مُحرّم، واجتنابي فيه كل منكر ومأثم، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه.

 

وبعدُ أخي الكريم! فهذه هي أماني الصالحين، ولكن قبل الأماني تلك أعمالهم، تُرى ما الفارق بيننا وبينهم؟ كانوا يرجون لقاء الله ويشتاقون إليه لفضلهم وأعمالهم، ونحن لا نرجو لقاء الله ولا نشتاق إليه، وصرنا نكره قدوم الموت ونخاف زيارته ويرتعد القلب وجلاً من ذكره، فتدارك أخي نفسك طالما في العمر أنفاس.

 

اللهم أسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضرّاء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

بارك الله ..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: المؤمن يعيش في هذه الدنيا وهو يخاف من فتنها ومن تقلباتها، ويخشى على نفسه الفتنة والزيغ بعد الهدى، فاللهم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وخاصةً -يا عباد الله- بعد أن فُتح على المسلمين من وسائل اللهو والعبث والاتصال ما فُتح. ولهذا كان حرياً على المسلم في خضم هذه الفتن والمشغلات أن يتلمس مرضاة الله وتوفيقه ويتعرف على علامات توفيق الله لعبده، فإن كانت فيه فليحمد الله ولْيَثْبُت ويزداد منها، وإن لم تكن فيه تدارك نفسه وأكثر منها. وهذه بعضها:

 

أولاً: إن أعظم ما يمكن أن يكون من علامات التوفيق لمن كان يرجو لقاء الله، هو التوفيق للعمل الصالح عموماً على اختلاف أنواعه بدنياً أو مالياً أو قولياً، والله -عز وجل- بيّن أن الطاعة والتوفيق لها هو الفوز العظيم فقال سبحانه: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].

 

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قالوا يا رسول الله: وكيف يستعمله. قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته". إسناده صحيح على شرط الشيخين.

 

ثانياً: أن يُوفَق العبد لطلب العلم الشرعي والتفقه في دين الله، فمن سلك طريق العلم فإنه على خير كثير. فعن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" (رواه البخاري).

 

ثالثاً: التوفيق لنشر الخير والدعوة إلى الله وإصلاح الناس: فإن هذه مهمة الأنبياء والرسل وقد قال الله عز وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].

 

 وإن من توفيق الله للداعية والذي ينشر الخير أن يدعوهم للأصل العظيم والأمر الأول الذي لأجله خُلقت السموات والأرض، وهو الدعوة إلى توحيد الله، والتي كانت أساس دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام.

 

رابعاً: أن يوفَّق العبد للتوبة من الوقوع في المعاصي حتى لو تكررت منه، أو يحال بينه وبين المعاصي فلا يستطيع أن يصل إليها: فإن هذا من علامة التوفيق والسداد وإرادة الله به خيراً كما قال جل وعلا: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء: 27].

 

خامساً: أن يوفّق العبد للقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كما قال جل وعلا: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، فعلّق -سبحانه وتعالى- الفلاح والتوفيق على من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.

 

اللهم استعملنا في طاعتك ولا تستعملنا في معصيتك ..

 

 

 

المرفقات

لقاء الله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات