عناصر الخطبة
1/النفقة على الزوجةِ 2/النفقة على الأقاربِ 3/النفقة على البهائمِ 4/حضانةُ الطفلِ إذا افترقَ الزوجانِ.اقتباس
إِذَا افْتَرَقَ الزَّوْجَانِ وَبَيْنَهُمَا طِفْلٌ، أَوْ مَجْنُونٌ وَجَبَتْ حَضَانَتُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ تُرِكَ ضَاعَ، وَهَلَكَ؛ فَإِنْ كَانَ الوَلَدُ بَالِغًا رَشِيدًا فَلَا حَضَانَةَ عَلَيْهِ، وَالخِيَرَةُ إِلَيْهِ فِي الإِقَامَةِ عِنْدَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ الانْفِرَادَ وَهُوَ رَجُلٌ فَلَهُ ذَلِكَ...
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله -عز وجل-، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ، أما بعدُ:
فحَدِيثُنَا معَ حضراتِكم في هذه الدقائقِ المعدوداتِ عنْ موضوع بعنوان: «أحكام النفقات، والحضانة»، وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم حول أربعة محاور:
المحور الأول: النفقة على الزوجةِ.
المحور الثاني: النفقة على الأقاربِ.
المحور الثالث: النفقة على البهائمِ.
المحور الرابع: حضانةُ الطفلِ إذا افترقَ الزوجانِ.
واللهَ أسألُ أن يجعلنا مِمَّنْ يستمعونَ القولَ، فَيتبعونَ أَحسنَهُ، أُولئك الذينَ هداهمُ اللهُ، وأولئك هم أُولو الألبابِ.
المحور الأول: النفقة على الزوجة:
اعلموا -أيها الإخوة المؤمنونَ- أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنفِقَ عَلَى زَوجَتِهِ، ويَكسُوهَا، ويُسكِنَهَا بِقَدْرِ سَعَتِهِ إِذَا سَلَّمَتِ إِليهِ نَفْسَهَا، وَمَكَّنَتْهُ مِنَ الاسْتِمْتَاعِ بِهَا؛ قالَ -تَعَالى-: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرً)[الطلاق: 7].
ورَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنْ مُعَاوِيَةَ القُشَيْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟.
قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي البَيْتِ»[1].
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما- أن رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: «اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ، فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ، وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ»[2].
وَرَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ؛ فَقَالَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ، وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ»[3].
فَإِنِ امْتَنَعَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا.
وللمَرأَةِ المُطَلَّقَةِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى إِذَا كَانتْ في عِدَّةِ الطَّلقَةِ الأُولَى أو الثَّانِيةِ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ رَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رضي الله عنها- قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: أَنَا بِنْتُ آلِ خَالِدٍ، وَإِنَّ زَوْجِي فُلَانًا أَرْسَلَ إِلَيَّ بِطَلَاقِي، وَإِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَهُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى، فَأَبَوْا عَلَيَّ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهَا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ»[4].
وَلَا نَفَقَةَ لمُطَلَّقَةٍ بعد انتهاءِ عدَّتِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا؛ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رضي الله عنها- أَنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ لَهَا أَهْلُهُ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَتْ لَهَا نَفَقَةٌ، وَعَلَيْهَا العِدَّةُ».
وَفِي لَفْظٍ: «لَا نَفَقَةَ لَكِ، وَلَا سُكْنَى»[5].
ولَا نَفَقَةَ للمَرْأَةِ النَّاشِزِ الَّتِي تَعْصِي زَوْجَهَا فِيمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، كَأَنْ يَدْعُوهَا، فَلَا تُجِيبُهُ، أَوْ تُجِيبُهُ مُتَكَرِّهَةً، ومَتَى ظَهَرَ مِنِ المَرْأَةِ أَمَارَاتُ النُّشُوزِ، وَعَظَهَا وَخَوَّفَهَا اللهَ -تَعَالَى-، وَمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الإِثْمِ وَالضَّرَرِ بِنُشُوزِهَا مِنْ سُقُوطِ نَفَقَتِهَا وَإِبَاحَةِ ضَرْبِهَا وَأَذَاهَا، فَإِنْ أَظْهَرَتِ النُّشُوزَ، فَلَهُ هَجْرُهَا فِي المَضْجَعِ؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)[النساء: 34].
ولَا نَفَقَةَ، وَلَا سُكْنَى للزَّوجَةِ المُعْتَدَّةِ مِنَ وَفَاةِ زَوجِهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا؛ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ المُغِيرَةِ، أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، وَأَمَرَ لَهَا الحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بِنَفَقَةٍ، فَقَالَا لَهَا: وَاللهِ مَا لَكِ نَفَقَةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَتْ لَهُ قَوْلَهُمَا، فَقَالَ: «لَا نَفَقَةَ لَكِ»[6].
وَفِي لَفْظٍ: «لَا نَفَقَةَ لَكِ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا»[7].
المحور الثاني: النفقة على الأقارب:
اعلموا -أيُّهَا الإخوةُ المؤمنونَ- أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَقَارِبِهِ لِمَأْكَلِهِمْ، وَمَشْرَبِهِمْ، وَمَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ مَلْبَسٍ لِسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَمَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ مَسْكَنٍ يَأْوُونَ إِلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ، وذَلِكَ إِذَا تَحَقَّقَتْ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ:
الأول: أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ. الثاني: أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَالٌ، لَيْسَ لَدَيْهِمْ صِنَاعَةٌ يَتَكَسَّبُونَ بِهَا. الثالث: أَنْ يَكُونَ المُنفِقُ غَنِيًّا بِمَالِهِ، أَوْ كَسْبِهِ؛ رَوَى مُسْلِمٌ عنْ جَابِرٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ[8]، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟»، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟»، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ العَدَوِيُّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ، فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا، وَهَكَذَا»[9].
الرابع: أَنْ يَكُونُوا أُصُولًا، وَهُمْ وَالِدَاهُ، وَإِنْ عَلَوْا، أَوْ فُرُوعًا، وَهُمْ أَبْنَاؤُهُ، وَبَنَاتُهُ وَإِنْ سَفَلُوا، أَوْ وَارِثِينَ كَالإِخْوَةِ، وَأَبْنَائِهِمْ -ما عَدَا أَبْنَاءِ الإِخْوَةِ لِأُمٍّ- وَالأَخَوَاتِ، وَالأَعْمَامِ، وَأَبْنَائِهِمْ؛ قَالَ تَعَالَى في الوَالِدَينِ: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الإسراء: 23]، وَمِنَ الإِحْسَانِ الإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا.
وقالَ تَعَالَى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمان: 15]، وَمِنَ المَعْرُوفِ القِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[10].
وقَالَ تَعَالَى في الأَولادِ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[البقرة: 233]؛ فأَوجَبَ على الوارثِ أُجرَةِ رَضَاعِ الصَّبيِّ، فَيَجِبُ أَنْ تَلزَمُهُ نَفَقَتُهُ.
وقدْ أَجمَعَ أَهلُ العِلمِ على أَنَّ على المرءِ نفَقَةَ أولادِهِ الأَطفَالِ الذينَ لا مال لهم[11]، أمَّا الوَارِثونَ، فَلأنَّ لَهُم قَرابةٌ تَقتضي التوريثَ، فتوجِبُ الإنفاقَ، كقرابةِ الولدِ، فَأَمَّا الأَرْحَامُ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ كالخَالةِ، والخَالِ، والعَمَّةِ، والعمِّ، فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمْ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ دلِيلٍ عَلى وجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيهِمْ[12].
المحور الثالث: النفقة على البهائم:
اعلموا -أَيها الإخوة المؤمنونَ- أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ مَلَكَ بَهِيمَةً أَنْ يَعْلِفَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَجَبَ عَلَيهِ بَيْعُهَا، أَوْ إِجَارَتُهَا، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ ذَبْحُهَا إِنْ كَانَتْ تُؤْكَلُ.
رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ[13]»[14].
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مَا لَا تَطِيقُ؛ لِأَنَّهُ إِضْرَارٌ بِهَا فَمُنِعَ مِنْهُ كَتَرْكِ الإِنْفَاقِ، وَلَا يَحْلِبُ مِنْهَا إِلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهَا غِذَاءٌ لِلْوَلَدِ، فَلَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْهُ[15].
أقولُ قولي هذا، وأَستغفرُ اللهَ لي، ولكُم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وكفى، وصلاةً وَسَلامًا على عبدِه الذي اصطفى، وآلهِ المستكملين الشُّرفا، أما بعد:
المحور الرابع: حضانة الطفل إذا افترق الزوجان:
إِذَا افْتَرَقَ الزَّوْجَانِ وَبَيْنَهُمَا طِفْلٌ، أَوْ مَجْنُونٌ وَجَبَتْ حَضَانَتُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ تُرِكَ ضَاعَ، وَهَلَكَ؛ فَإِنْ كَانَ الوَلَدُ بَالِغًا رَشِيدًا فَلَا حَضَانَةَ عَلَيْهِ، وَالخِيَرَةُ إِلَيْهِ فِي الإِقَامَةِ عِنْدَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ الانْفِرَادَ وَهُوَ رَجُلٌ فَلَهُ ذَلِكَ، وِإِنْ كَانَتْ بِنتًا فَلِأَبِيهَا مَنْعُهَا مِنَ الانْفِرَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا دُخُولُ المُفْسِدِينَ[16].
وَالأَوْلَى بِحَضَانَةِ الطِّفْلِ الأُمُّ، ثُمَّ الأَبُ؛ رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- أَنَّ امْرَأَةً، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي»[17].
فَإِنْ مَاتَتِ الأُمُّ، أَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الحَضَانَةِ كَأَنْ تَتَزَوَّجَ سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا بإِجمَاعِ أَهلِ العِلمِ[18].
وإِذَا بَلَغَ الغُلَامُ سَبْعَ سِنينَ وَهُوَ غَيْرُ مَعْتُوهٍ، خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَيكُونُ مَعَ مَنِ اخْتَارَ مِنْهُمَا؛ رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَقَالَ: «يَا غُلَامُ هَذِهِ أُمُّكَ، وَهَذَا أَبُوكَ»[19].
وَرَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبي مَيْمُونَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَارِسِيَّةٌ، مَعَهَا ابْنٌ لَهَا، فَادَّعَيَاهُ، وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: اسْتَهِمَا[20] عَلَيْهِ، فَجَاءَ زَوْجُهَا، فَقَالَ: مَنْ يُحَاقُّنِي[21] فِي وَلَدِي، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-: اللهُمَّ إِنِّي لَا أَقُولُ هَذَا إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَقَدْ نَفَعَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَهِمَا عَلَيْهِ»، فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «هَذَا أَبُوكَ، وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ»، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ[22].
وَإِنِ اخْتَارَ أُمَّهُ كَانَ عِنْدَهَا لَيْلًا، وَيَأْخُذُهُ الأَبُ نَهَارًا؛ لِيُسَلِّمَهُ فِي مَكْتَبِ تحَفيظِ قُرآنٍ، أَوْ صِنَاعَةٍ.
وَإِنِ اخْتَارَ أَبَاهُ كَانَ عِنْدَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ زِيَارَةِ أُمِّهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِغْرَاءِ بِالعُقُوقِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ.
وإِذَا بَلَغَتِ البِنتُ سَبْعًا، تُرِكَتْ عِنْدَ الأَبِ بِلَا تَخْيِيرٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَلَّى تَزْوِيجَهَا[23].
الدعـاء...
•اللهم ثبِّت قلوبَنا على الإيمان.
•ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
•ربنا أفرغ علينا صبرا وثبِّت أقدامنا وانصُرنا على القوم الكافرين.
•ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
•ربنا إننا آمنَّا فاغفر لنا ذنوبنا، وقنا عذاب النار.
•ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.
أقول قولي هذا، وأقم الصلاة.
--------
[1] صحيح: رواه أبو داود (2144)، وأحمد (4/ 446)، وصححه الألباني.
[2] صحيح: رواه مسلم (1218).
[3] متفق عليه: رواه البخاري (5364)، ومسلم (1714).
[4] صحيح: رواه النسائي (3403)، وأحمد (6/ 373)، وصححه الألباني.
[5] صحيح: رواه مسلم (1480).
[6] صحيح: رواه مسلم (1480).
[7] صحيح: رواه أبو داود (2292)، وأحمد (6/ 414)، وصححه الألباني.
[8]عن دبر: أي دبَّرَه، فقال له: أنت حر بعد موتي، وسمي هذا تدبيرا؛ لأنه يحصل العتق فيه دبر الحياة.
[9] صحيح: رواه مسلم (997).
[10] صحيح: رواه الترمذي (1358)، وقال: «حسن صحيح»، وابن ماجه (2290)، وصححه الألباني.
[11] انظر: «الإجماع» رقم «435».
[12] انظر: «الكافي» (5/ 100-101).
[13] خشاش الأرض: أي حشرات، وهوام الأرض.
[14] متفق عليه: رواه البخاري (3482)، ومسلم (2243).
[15] انظر: «الكافي» (5/ 122-123).
[16] انظر: «الكافي» (5/ 109، 116).
[17] حسن: رواه أبو داود (2278)، وأحمد (2/ 182)، وحسنه الألباني.
[18] انظر: «الإجماع»، رقم (438).
[19] صحيح: رواه الترمذي (1357)، وابن ماجه (2351)، وصححه الألباني.
[20] استهما: أي اقترعا.
[21] يحاقني: أي ينازعني
[22] صحيح: رواه أبو داود (2279)، والنسائي (3496)، وصححه الألباني.
[23] انظر: «الكافي» (5/ 114-116).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم