عناصر الخطبة
1/فوائد القصص القرآنية 2/تأملات في قصة نبي الله يوسف عليه السلام 3/أهم الدروس والعبر المستفادة من سورة يوسف.اقتباس
قَصصُ القرآن عبرٌ وعظاتٌ يَتجلّى فيها عِظمُ البلاءِ، وحسنُ العاقبة، ويتبين من خلالِها سُنةُ الله في الصراعِ بينَ الحَقِّ والبَاطِل، والتنازع بين الخيرِ والشرِّ.. وهي تدعو للإيمان بالله وحده، وبيانٌ لمصير صراعات الدنيا، وعواقب الأُخرى.
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ عالم السر والنجوى، وكاشف الغم والبلوى؛ أحمده، وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله..
قَصصُ القرآن عبرٌ وعظاتٌ يَتجلّى فيها عِظمُ البلاءِ، وحسنُ العاقبة، ويتبين من خلالِها سُنةُ الله في الصراعِ بينَ الحَقِّ والبَاطِل، والتنازع بين الخيرِ والشرِّ.. وهي تدعو للإيمان بالله وحده، وبيانٌ لمصير صراعات الدنيا، وعواقب الأُخرى.
وفي ثناياها يُستَبانُ طريقُ أهل الجنَّةِ، وطريقُ أصحابِ السعير، حاول النضرُ بنُ الحارث منافستها فلم يستطع، وكان إذا جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلساً يذكِّرُ فيه الله يقصُّ عليهم ما أصابَ الأمم قلبهم، خلفه في مجلسه، فقصَّ أساطيرَ الأولين من رومٍ وفارس وافترى على الله كذباً، ويقول: أنا والله أحسنُ حديثاً من محمد؛ حتى نزلت فيه آياتٌ منها(سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ)[الأنعام: 93]، (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)[الأنفال: 31].
أحبتي: امتلأ القرآنُ بالقَصَصِ (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود: 120]، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ)[يوسف: 3].
واليوم قصّتُنا حَوتْ توحيداً وأحكاماً وسِيراً وسياسةً، وأخلاقاً وقيماً وتدبيرَ المعاش، وعلاقاتِ الناس، وتنقلت من حالٍ إلى حال، ومن محنة لمنحة، ومن فُرقة وشتات لاجتماعٍ وائتلاف، ضمَّتْ دروساً وعبراً بها للدينِ والدنيا!! تسليةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث نزلت عليه بمكةَ عامَ حزنٍ توفي فيه عمه أبو طالب وزوجته خديجة وتكالبت عليه المحن..
فيها آيات للسائلين لقدرة الله وأقداره، وحكمتِه وأحكامِه، ولطفِه وتدبيره، وحسن توفيقه لمن اصطفى من عباده، فلا دافع لقضاء الله، ولا مانع من قدره، إذا قضى سعادةً ومكرمةً ثم اجتمع العالَمُ ليمنعوا قدره، فلن يجدوا لذلكَ سبيلاً.
ومن دروسها مغبةُ الحسدِ خُذلانٌ وجزاءُ الصبرِ فرج، ومن يحسد ويكيد ويضعُ العراقيلَ فعملُه وبَالٌ عليه وضلالٌ.
إنها أحسن القصص.. فيها عبرة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111].
شابٌ صغير جميل رأى بمنامه أحدَ عشرَ كوكباً، والشمسَ والقمرَ سجدوا له خاضعين، فقصَّ على أبيه رؤياه الذي أدرك علوَّ شأن ابنه عند الله والناس، لكنه خَشيَ حسدَ إخوته، فأوصاه أن لا يُخبرَ أحداً (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[يوسف: 4- 5].
رؤيا عظيمة ترتب عليها أحداث (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ)[يوسف: 7]؛ أما أبناءُ يعقوب فاغتاظوا من إيثارِ ومحبة أبيهم ليوسف وبنيامين، فحقدُوا وأَضْمَرُوا الشرَّ له، وتآمروا للخلاص منه، ظانِّينَ أنهم سيحظونَ حينذاك بحُبِّ والدِهم، ثم يتوبون بعده (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)[يوسف: 8- 9].
أيها الأب!! لا تفضِّل بالمعاملة ولداً على ولد فهذا لا يجوز، بل يوقعُ العداوةَ والبغضاءَ بينهم، يحقد بعضهم على بعض، لعدمِ عدلك وإنصافك بينهم العاطفة شيء والعدل مطلب حتى في قُبلةِ الصغار!!
ذهب به إخوته رغم تخوَّفِ يعقوب (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ)[يوسف: 12- 14]؛ فألقوه بعيدًا عن العيون، في أغوار بئر، لعلّ قافلة تلتقطه، وتحمله فيتحقّقُ به غرضهم بإقصائه عن أبيه، وينجون من إثم القتل وهاهنا غرابة!! يُحِّبونَه لكن غيظَهم يريد الخلاصَ منه..
ثم ذهبوا مساءً لأبيهم يحتالون ورجعوا بقميصٍ غيرِ مُمزَّق ملوّثٍ يبكون (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[يوسف: 17- 18].
وهنا لطفُ اللهِ الخفيِّ يأتي (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 19- 22].
أكرمه الله فكانَ ببيتِ العزيز ثم آتاه الحكمة والعلم.. لكن جمالَه صار فتنةً في بيتٍ مُختلَطٍ بين الرجالِ والنساءِ وخلوة بالأجنبي!! فهو نبيٌّ ومع ذلك لم يسلم من الفتنة (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)[يوسف: 23- 28].
وهنا إخوتي ندرك خطورةَ دخول الرجالِ على النساء والعكس بغير انضباط وباختلاط فهذا نبيٌّ وتلك سيدةُ القصر ومع ذلك وقعت الفتنة وهمَّت به وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه ليصرف عنه السوء والفحشاء.
ثم تسامعَ نساءُ المجتمعِ المخملي بالقصة (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)[يوسف: 30 -32].
إن تسويقَ الرذيلةِ دعوةٌ لها وفتنةٌ للمعتصمين منها ولذلك اختار يوسف عليه السلام الأسلم لدينه وخلقه (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[يوسف: 33- 34].
دخلَ السجنَ وهو نبيٌ مُوقنٌ بمنهجه ودعوتِه رغمَ ظلمٍ تعرض له فدعا مَن في السجن استغلالاً لتفسير رؤيا طلبوها (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)[يوسف: 40]؛ ينشر الخير ويُبلِّغُ دينَ الله -عز وجل- ويُعلِّمَ الناسَ الخير هكَذا هُمُ المبارَكون، فرُّبما كلمةُ حقٍّ تخرجُ من لسانك تهدي بها ضالاً ولو أثرت بعد سنوات فلا تحقرنَّ من المعروفِ شيئاً!! ولا تعادِ الصالحين!!
عباد الله: سنينُ قضاها في السجن، فشاءَ الله، أن يَخرُجَ من سجنه؛ لأن مَلِكَ مصر رأى رؤيا- وهنا يأتي الفرج عباد الله عاقبة للصبر (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)؛ رأى المَلِكُ في منامِه رؤيا أثارتْ اضطرابَه، وأوجسَ منها خِيْفَةً؛ (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ)[يوسف: 43- 44].
فأُخبروهُ بفتىً بالسجن يفسر الرؤيا ففسرها.. وكانت تحملُ في طيِّاتِها كوارثَ ومنحَ وحُلول: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)[يوسف: 47- 49].
(فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ) هذه تتفق مع ما وَصَلَ إليه العلمُ الآن، أن تركَ الحَبِّ في سنابله عند تخزينه، وقايةٌ له من تلف بالعوامل جوية وآفاتٍ، ويحافظ على محتوياته الغذائية كاملة.. فسبحان الله علّمَ الإنسانَ ما لم يعلم..
(قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ)[يوسف: 54- 57].
الله أكبر عباد الله.. الله أكبر.. ابُتليَ بالفتنةِ من أقرب الناس له ثم دُعيَ للفاحشة فتعفَّفَ ثم سُجن ثم دعاَ وأوّلَ الرؤيا فرفع اللهُ مكانتَه وتحقّقَ تأويلُه لرؤيا الملك، بمجيء سبع سنوات خصبة، رعاها بتدبيره، وخزّن فائضَ الغلات.
وجاءت سنونٌ سبعُ مُجديةٌ، وجوعٌ ومجدبة خاصةً البلادُ المجاورة، فجاءَ إخوةُ يوسف لمصر، لجلب الرزق لجوعٍ أصابَ بلادَهم، فلما دخلوا عليه عَرفَهم، بينما هُم لم يَعرفوه، وأَخفى صاع َالملك في رَحْل أخيه، وفي النهاية عرفوه، فرجعوا لوالدهم وبشروه بالخبر(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)[يوسف: 93].
وجاءت أسرةُ يعقوبُ -عليه السلام- لمصر، فرأَوْا يوسف وفرحوا به واجتمعوا بعد فراق وأجلسَ أبويْهِ على العْرشِ تكريماً (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف: 99- 100].
ولم ينسَ يوسفُ النبيَّ فضلَ الله عليه (رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[يوسف: 101].
وليس ذلك بغريبٍ على نبيٍ أعطانا دروساً في التسامح والعفو عند القدرة فعندما قال له إخوتُه (تَاللَّهِ لَقَدْ اثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) أجابهم (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ)[يوسف: 91- 92].
إنَّها حياةٌ قصيرةٌ إخوتي لا تساوي خصومات نراها فأين معنى التسامح والمغفرة، والعفو عمن أساء إلينا. بعض الناس هداهم الله، حتى زوجته لم تسلم منه، لو زلت أو أخطأت، كالَ لها الصاعَ صاعين، وبعضُهم لا يتنازل عن حقه مع إخوته وجيرانه والناس!!ماذا بكم؟ اعفوا واصفحوا فالله أكرمُ بكم..
يا ربّ اعف عن تقصيرنا وارزقنا العدل بين أولادنا والمحبة بيننا وامنن علينا يا ألله بالعفة والصبر واكفنا شرَّ الأشرار يا أرحم الراحمين..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعدُ
قصةُ يوسف -عليه السلام- آياتٌ للسائلين وعبرٌ للمتأملين.. آياتٌ لا تنتهي وعبرٌ لا تنقطع.. كان من عبادِ الله المُخْلَصين وكان أنموذجَ الدعاةِ المُحتذى ودليلَ الصدقِ لأهلِ البلاء.. كانَ مرتبطاً بربِّه في محنته وفتنته (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يوسف: 23].
وحين اشتدت مكيدة النساء، وعظُمَ البلاء كانَ مَفْزِعَهُ لربِّ الأرض والسماء (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ)[يوسف: 33]، وصلَ قمةَ المجد دَفَّةَ الحُكم فكان أشدَّ التصاقاً بربِّه يحمده ويشكره على نعمته وتعليمه ويدعوه بحسن الخاتمة واللحاق بالصالحين (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[يوسف: 101].
ودوام اللجوء وصدقُ التوجه لا يُنافي الأخذَ بالأسباب، فيوسف يقول لمن ظنَّ أنه ناج منهما (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ)[يوسف: 42]، فخرجَ -عليه السلام- من هذه البلايا سرائها وضرائها أصلبَ عوداً وأقوى عزيمة وأكثرَ تجربةً وأعظمَ احتمالاً وأعرفَ بالناس وبالحياة ومن أجل هذا قيل لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في خواتيم هذه القصة كمنهج حياة (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108].
وصلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم