أحداث سوريا

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: الأحداث العامة
عناصر الخطبة
1/ عِظَمُ مسؤولية الحكم 2/ التحذير من غش الرعية 3/ نصوص تبين فضل الشام 4/ معاناة السوريين الظلم عقودا 5/ مآسي السوريين الثائرين هذه الأيام من البطش والتنكيل 6/ كيفية نصرة إخواننا هناك

اقتباس

ولقد عانت بلاد الإسلام خلال عشرات السنين الماضية من حكام ظلَمة، ظلموا الناس في أموالهم وفي حقوقهم، وانتهكوا أعراضهم، وجلدوهم، وسجنوهم، ولم يحكموا بينهم بالعدل؛ وإن مما نرى نحن في هذه الأيام مما يقع على إخواننا في سوريا في درعا، مِمَّن يقتلون هناك، وممن يُشرَّدون، ومن أسرٍ وسَجْنٍ لأطفالٍ صِغَارٍ لا يملكون من أمرهم شيئاً، تُقطع الكهرباء والمياه، ويُضَيَّقُ عليهم في عيشهم ..

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشَّبيهِ والمثيلِ والنظيرِ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربُّهُ رحمةً للعالمين، وحُجَّةً على العباد أجمعين، فهدى الله به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكَثَّر به بعد القلة، وأغنى به بعد العَيلة، ولمَّ به بعد الشتات، وآمَن به بعد الخوف، فصلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتصلت عين بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلَّم تسليما كثيرا .

أما بعد:

أيها الأخوة المؤمنون: إن مما أجوبه الله -تعالى- على أهل العلم، سواء كانوا مفتون في مساجد، أو كانوا خطباء على منابر، أو كانوا متحدثين للناس في وسائل الإعلام؛ إن مما أجوب الله -تعالى- عليهم أن يبينوا العلم للناس ولا يكتمونه، وأن يتكلموا بما أجوب الله -تعالى- عليهم من الحقائق سواء في أحوال المسلمين العامة، أو في أحوال المسلمين الخاصة، ومما قضى الله -تعالى- وقدَّرَه أيضاً أن جعل الله -تعالى- الناس ينقسمون إلى قسمين: منهم والي وموالى عليه، ومنهم قاضي ومقضي عليه، ومنهم حاكم ومحكوم عليه.

ولقد بيَّن النبيُّ -صلوات ربي وسلامه عليه- عظم الإمارة لمن تولاها، وعظم المسؤولية لمن كان حاكما على أحد من الناس، سواء حكم مسلمين أو حكم كفارا، فقال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه البخاري: "سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ... ثم بيَّن أولَهم فقال: إمام عادل".

وبين النبي -صلوات ربي وسلامه عليه- عظم التبعة على من تولى شيئاً من أمور المسلمين ثم ظلمهم بشيء، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم اللهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشقَّ عليهم اللهمَّ فاشقق عليه" رواه مسلم.

وقال -عليه الصلاة والسلام- "ما من وال يوليه الله رعية من المسلمين فيموت وهو غاش (يعني إما أكَلَ حقوقهم، وإما احتجب دون حاجتهم، وإنما دبر الأمور في الدولة لينتفع شخصيا دون أن ينظر في نفع الناس) قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما من والٍ يوليه الله رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة".

وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يشهد لهم ولا ينصح لهم (يعني لا يجتهد في البحث عما ينفعهم، وما يداوي جرحهم، وما يغني فقيرهم، وما يعلم جاهلهم، وما يطعم جائعهم)، إلا لم يدخل معهم إلى الجنة" رواه مسلم.

وقال -عليه الصلاة والسلام-: "كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمَّن يملك قوته (يعني أن يُضيِّق عليهم في معاشهم أو في أموالهم، أو يأخذ عليهم من الضرائب والأموال ما يشق عليهم)" رواه الإمام مسلم.

وحذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من أن يجعل الحاكم بينه وبين الناس حواجب تمنعهم من أن يوصلوا حاجتهم إليه، وتمنعه هو من أن يتعرف إلى فقرهم وخلتهم وحاجتهم؛ فيجوع الجائع، ويتيتم الصغير، وتترمل المرأة، ويحتاج المحتاج، وهو لا يدري عنهم، بل يسكن قصرا أو برجاً، ويركب سيارة فارهة، ويكون على حاله دون أن يلتفت إليهم، حذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فقال -عليه الصلاة والسلام- محذِّراً مَن ولَّاهُ اللهُ -عَز وجلَّ- شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم (والخلة هي شدة الحاجة) وفقرهم، احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة".

أيها المسلمون: ولقد عانت بلاد الإسلام خلال عشرات السنين الماضية من حكام ظلَمة، ظلموا الناس في أموالهم وفي حقوقهم، وانتهكوا أعراضهم، وجلدوهم، وسجنوهم، ولم يحكموا بينهم بالعدل؛ وإن مما نرى نحن في هذه الأيام مما يقع على إخواننا في سوريا في درعا، مِمَّن يقتلون هناك، وممن يُشرَّدون، ومن أسرٍ وسَجْنٍ لأطفالٍ صِغَارٍ لا يملكون من أمرهم شيئاً، تُقطع الكهرباء والمياه، ويُضَيَّقُ عليهم في عيشهم.

إن النبي صلوات -ربي وسلامه عليه- قد حذر من أن يفعل المرء مثل ذلك، كلا! بل حذر مما هو أعظم من ذلك، فلقد أجمع أهل العلم على أنه لم تأت لبلد من البلدان فضائل في الأحاديث النبوية، ولا في كتاب الله -عز وجل-، فضائل أعظم مما ورد في الشام، بعدما وردت في مكة والمدينة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم بارك لنا في شامنا، وبارك لنا في يمننا" رواه الترمذي، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "يا طوبى للشام! يا طوبى للشام! يا طوبى للشام!" قيل: لم يا رسول الله؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "تلك ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام".

وفي الصحيحين، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم مَن خذَلَهُم ولا من خالفهم، أو قصَّرَ في نصرتهم أو الوقوف معهم، حتى تقوم الساعة" قيل: أين هم يا رسول الله؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "هم في الشام". هذه فضائل عظيمة، والشام هي أرض المنشر، وهي أرض المحشر يوم القيامة، فإن النار التي تخرج من قرع عدن تسوق الناس إلى محشرهم -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- "إنما تسوقهم إلى أرض الشام".

وهي الأرض المباركة التي باركها الله -تعالى- في القرآن، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا) [الإسراء:1]، فجعلها الله -تعالى- مباركة في دينها، مباركة في صلاح أهلها، مباركة في خيراتها، ثم يتولى عليها من يتولى من طواغيت -عياذاً بالله- يُذهبون هذه البركة بسوء تعاملهم مع أهليها،، حتى يجعل الله -تعالى- من ذلك فرجا ومخرجا: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج:39]؛ ومهما طال الظلام عليهم، فإن النصر قادم إليهم.

مَنْ لَمْ يَكُنْ بالحادثاتِ بَصِيرَا *** فلسوفَ يَلقى الوَيلَ والتَتْبِيرا
تتَكلمُ الأحداثُ وهْيَ فَصِيحةٌ *** ونَرَى المُكابر يُخْطِئُ التَّقْدِيرَا
كَمْ نَامَ عَن جيشِ الحوادثِ ظَالـمٌ *** فَأَتَى يُعفِّرُ وجهَهُ تَعفيرَا
للظُّلمِ مَهْمَا طالَ عاقبةٌ بِهَا *** يغدُو جليلُ الظَّالمينَ حَـقِيرَا
اِسأَلْ عَنِ الأَحداثِ تُونسَ إِنَّها *** خَلَعتْ رَئِيساً جَاثِماً وَوَزِيرَا
مرَّتْ بهِ السَّنواتُ لَمْ يفهمْ كمَا *** مَرَّت بِسَائِمَةٍ تَلُوكُ شَعِيرَا
حتَّى إِذَا فاتَ الأوانُ وأقبَلَتْ *** ريحُ الحوادثِ جمرةً وسعيرَا
فَهِمَ الحِكايةَ كُلَّهَا لـكـنَّهُ *** فَهمُ الغَريقِ بِمَوجِهَا مغمورا
واسْألْ بِلادَ النِّيلِ مِصْرَ فِإِنَّـهَا *** صَنَعتْ لَنَا حَدَثَاً هُناكَ مُثِيرَا
حَفرَ المُكَابِرُ حفرةً مَـشؤُومَـةً *** فَرمَتْهُ في أعماقِها مَطمُورَا
وانْظُرْ إِلَى الشَّعبِ الجَريح مُجاهداً *** فِي لِيْبِيَا يَلقى البُغاةَ صَبورَا
وَتأمَّلِ الذِّئبَ الَّذِي لمَ يَنْتَبِهْ *** إِلا عَلى مَـأسَـاتِـهِ مَـبْهُورَا
مُتخفياً إلا علـى شَاشاتِه *** يَهذي ويشـتُم تَائها مَذعُـورا
ما بين ( زنقتِه ) و ( زنقةِ ) جندِه *** تجري دماءُ الأبرياءِ بحورا
طوبى لمن قَرأ الحوادثَ واعياً *** وَجَـثَا على بابِ الإله كَسيرا

هذه الشعوب التي يسر الله -تعالى- لها قيادات صالحة تزج عنها هذا الظلم، وتثور في وجه ظالميها، ولقد أوجب الله -تعالى- على المؤمنين أن يتناصروا، "مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفهم مَثَل الجسد الواحد، إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي" .

إن اشتكت سوريا تداعى لها سائر الجسد، وإن اشتكت مصر أو ليبيا أو تونس أو غيرها تداعى لها سائر الجسد بالسهر والحمى، يحرصون على صلاحها وعلى رفع الظلم عن أهلها، "ما من مؤمن يخذل مؤمناً في موطن يجب فيه نصرته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته"، "المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه"، "بحسب امرئ من الشر أن يحقِرَ أخاه المسلم".

أيها المسلمون: إن بلاد الشام هي حاضرة الإسلام، وقدَرُها الوحيد هي أن تحيا بالإسلام، ولم نعلم خلال السنوات الماضية نظاما عربيا أعظم إجراما من النظام الذي حكم في سوريا، ولم تجتمع بلايا في نظام سياسي كما اجتمعت فيه، ولم يخن الإسلامَ والعروبةَ أحدٌ كخيانته، وها هي اليوم خيانات أربعين سنة مضت يحكم فيها الشام ذلك الطاغية مع الطاغية الذي سبقه، هو وأبوه يحكمان شعبا أبيا بالحديد والنار، بنظام الرعب، وظلَمَةِ المخابرات، ويختمونها هذه الأيام بمجزرة، سواء على إخواننا في درعا، أو القارشمي، أو في غيرها من البلاد.

ففي حَلَبٍ قصة، وفي حِمْصَ بكاء، وفي كل مكان تجد أرملة ويتيماً والسجون قد امتلأت من هؤلاء أولئك من طغيان بشَّار، وزُمرَتِه الفجَرة الذين معه.

ويزداد العجَبُ إلى الحَدِّ الذي يدع الحليم حيران، وهو يرى إخواننا في درعا وقد غلقت دونهم المساجد، حتى اضطُرُّوا إلى أن يفتحوا كَنْسِيَّة يجعلونها مستشفى لأجل أن يعالج به الذين يصابون خلال هذه الاشتباكات!.

ولقد اتصل بي بعضهم هذا الصباح، وذكر بأن ذلك الطاغية قد أرسل جنده البارحة وقبضوا على عدد من خطباء الجُمع، ثم أودعهم في السجن؛ ليبقى الناس إما من غير جمعة، وإما يصلونها ظهراً، وإما أن يبقوا بغير خطيب يدلهم على الخير والفلاح.

وقد امتلأت البنايات هناك بقنَّاصة من طائفته جاءوه من بلد مجاور له يقنصون الأطفال والنساء والرجال، ولا يكاد أن يمر أحد إلا وقتلوه، بل وصل الأمر بهم أنَّ مَن لم يرض أن يقتُل مِن جنده من الجنود الذين معه ممن خاف الله وعظَّمه، وأبى أن يقتل الناس الأبرياء، فإنه يُقتل مباشرة، حتى حدثني بعض أهل درعا بأنهم رأوا مئات الجنود قتلى في الطرقات، قتَلَهُم أصحابُهم وزملاؤهم. والله -جل وعلا- يقول: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93].

وقال -عليه الصلاة والسلام- لما جمع الناس في حجة الوداع، وبين يديه مئات الناس، بل عشرات الآلاف ممن اجتمعوا من كل فج عميق، إذا به -عليه الصلاة والسلام- يصرخ خطيباً في هؤلاء جميعاً، مُبَلِّغَاً مُبَيِّنَاً يقول لهم: "ألَا إِنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم، هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغْتُ؟" قالوا: بلى. قال: "اللهمَّ فاشْهَدْ، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد". وقال -عليه الصلاة والسلام-:"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".

وقال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه أبو داوود: "كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركاً، أو مؤمناً قتل مؤمنا متعمداً"، ثم قال: "ومَن قتل فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" رواه أبو داوود. قال -عليه الصلاة والسلام-: "لَزوال الدنيا أهون عند الله -تعالى- من قتل مؤمنٍ بغير حق". وقال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الترمذي: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأَكَبَّهُم الله -تعالى- في النار".

ولا تزال الجراح تنزف دما من المأساة التي قبل ثلاثين سنة فعلها حافظ الأسد لما دخل على الناس بقواته بآلاف الجند في حماه وجعل يذبحهم ذبح النعاج، ويقتلهم قتلا في الطرقات، وفي البيوت، وفي غيرها، وإنك لتقرأ القصص التي يسردها بعضُ من نجَوا ممن كانوا أطفالا قد اختبؤوا في المقابر، أو اختبؤوا بأخبية البيوت ولبثوا أياما فيها حتى كادوا أن يهلكوا.

لما تقرأ اليوم قصصهم لا تستطيع -واللهِ!- تكمل القصة، بل تتذكر ما فعله التتار أيام هولاكو لما دخلوا واستباحوا بغداد وقتَّلوا الناس تقتيلا، وبكى على الإسلام أعداؤه اليهود! كاد المجوس وعُبَّاد الصلبان، وجعلوا يقتلون الناس قتلا، حتى أرسل شيخنا -رحمه الله تعالى- الشيخ بن باز من عام 82 ميلادي أرسل إلى ذلك الطاغية في نصيحة يقول: لماذا تقتل المسلمين؟ لماذا تفعل فيهم مثل ذلك؟ ويحذره وينذره من غضب الله -تعالى- ومما يصيبه به.

وأذكر أني قبل عشرين سنة سمعت شريطا للشيخ أحمد القطان -وفقه الله تعالى وحفظه- قال فيه إنه خطب خطبة عن أحوال سوريا أيام حافظ الأسد، ثم قال في أثنائها: أرسلَت أخواتنا المسلمات القابعات في سجون طاغية الشام رسالة هُرِّبت يقُلن فيها: "يا إخواننا! دَمِّروا السجن علينا، لقد حملنا من الجنود، ونحن في الأشهر الأخيرة!"؛ ثم جعل الشيخ يبكي في خطبته، وكأني -والله!- أسمعه هذه اللحظة يبكي ويقول: "أي سماء تظلنا، وأي ثياب تلفُّنا، وأي أرض تقلنا، وأختنا على مثل هذا الحال، تغتصب في ذلك الموضع والمكان؟!".

هذا الكلام سمعته قبل عشرين سنة ولا يزال إلى اليوم يقع ما يقع في تلك السجون، وما رأيت أحدا خرج من سجن، سواء من مصر أو تونس أو سجون ليبيا أو سجون سوريا، إلا والذي وقع في سجون سوريا من التعذيب والتنكيل والاضطهاد والاستعباد ومحاولة الإهانة أعظم -والله!- مما يفعله أولئك، سواء في مصر أو غيرها .

حتى إنك لتعجب مما يخترعون من أساليب يعذبون الناس بها تعذيبا ، ولولا خشيتي على أسماعكم وقلوبكم لذكرت لكم بعض ما بين يدي من أنواع التعذيب الذي حدثني به إخوة سجُنوا في ذلك المكان، بل أصبح من الطبيعي أن يغيب الرجل عن أسرته عشرين سنة، وثلاثين سنة، وأربعين سنة، لا يدرون أحي هو أو ميت؟!.

ولقد رأيت شخصاً قبل يومين أو ثلاثة في المطار، أخاً من سوريا يعمل في السعودية، وسألته عن أحواله وعن أبيه وأمه، فقال: يا شيخ! أما أبي فأنا منذ ولدت منذ ثمانٍ وثلاثين سنة وهو في السجن لا ندري هل هو حي أو ميت!.

أي طغيان هذا؟! أي ظلم يفعله ذلك الظالم، ذلك الطاغية وزمرته؟ أي استعباد للعباد مما لم يفعله غيره؟ أتحدى أن تجد في تلك السجون رجلا من اليهود قد عذبه أو قد قبض عليه ممن يعبثون اليوم بالجولان التي سلمها لهم أبوه ثم تنازل هو عنها قبل إحدى عشرة سنة مضت! إذا تأملت في حاله وجدت أنه يظلم كل هذا الظلم ولا يكاد أن يصيب ظلمه إلا إخواننا من العُباد والصالحين .

طاغٍ تمرَّسَ في إهانةِ شعبهِ *** وأراد فيهم كلَّ فعْلٍ مُنْكرِ
كمْ عالمٍ ألقاه في زنزانةٍ *** مشؤومةٍ كمْ عابدٍ ومفكّرِ
ولكم أراق دماءَ قوْم، مالهم *** ذنبٌ سوى التّقوى وحُسْنِ المَخْبرِ
سنواتُ حُكمٍ عاشها متخوّضاً *** يبتاعُ في سوق الضَّلال ويشتري
يا سوريا يا شَعْبها الحرِّ الذّي *** مُنذُ انطلاق الظّلم لم يتحرَّرِ
يا سوريا، يا ساحةَ المُختارِ يا *** وطناً محا أسطورة المُسْتَعمِر
يا أيَّها الشّعْبُ المجاهدُ إننا *** لنرى مَلامحَ وَجْهِ نَصْرٍ مُسْفرِ
خُذّ من أحبّتك العَزاءَ، فإنّهم *** حضروا، وإنْ أجسادُهم لم تحْضرِ
حضروا بأفئدة المحبِّين التي *** تحيا على أملِ الخلاصِ المُزْهِرِ
يا ربِّ أنْقِذْ سوريا من ظالمٍ *** مازال يمشي مِشْيَةَ المُتبخْترِ
وامنُنْ على المستضعفين بساعةٍ *** يَلْقون فيها النّصر دون تأخُّرِ

نعم! (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:4]، فرعون، الظالم الأول، لا يزال إلى اليوم له أشباهٌ ممَّن يقارنونه وينافسونه في ظلمه، وفي استعباد الناس.

هذا الخبيث لا يزال يكذب على العرب ويتغنى بالعروبة، ونحن لم نسمع يوما طلقة أطلقها على جيرانه من اليهود مهما فعلوا بغزة، مهما انتهكوا، مهما سرقوا، مهما يتَّمُوا؛ لم نسمع يوما بطلقة أطلقت من عنده على أولئك اليهود، بل سلمهم ما سلمهم من أراضي المسلمين دون أن يلتفت إلا إلى مصلحته وجبنه وخيفته.

ولقد حاول أن يجعل أهل سوريا شيعا، حاول أن يفرق الصف هناك، فالكل هناك ثائر في سورية، سواء أهل السنة أو الشيعة أو النصارى أو النصيرية أو العلويين وغيرهم، الكل ثائر ضد هذا الظالم الطاغية، فيحاول هذا الخبيث اليوم أن يزرع بينهم اليوم الفتن؛ لأجل أن يشتغل بعضهم ببعض، كما قال الله -تعالى- عن فرعون: (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ).

أيها المسلمون: إن أحوال إخواننا هناك لتوجب علينا جميعا نصرتهم بقدر المستطاع، توجب على حكام المسلمين الذين يتولون أمور المسلمين في جميع البلدان -والذين طالما اجتمعوا مع ذلك الطاغية في مؤتمرات ومجالس- توجب عليهم مناصحته وبذل النصيحة له، وتحذيره مما يفعل، ورفع الأمر إلى الجهات الدولية التي تحقن دماء إخواننا هناك؛ توجب علينا نحن مناصرة إخواننا بالدعاء والوقوف معهم، والمشاركة بما نستطيع من وسائل الأعلام والخطب وغيرها، لعل الله -تعالى- إذا لقيناه ألا نكون قصرنا في شيء من نصرة إخواننا.

أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينصر إخواننا في سوريا، أسأل الله -تعالى- أن يحقن دماءهم، أسأل الله أن يتقبل شهداءهم، أسأل الله أن يرينا في الطاغية هناك عجائب قدرته، وأن يرينا ذلك في زمرته الذين يتعاونون معه على الباطل.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صَلَّى الله وسَلَّم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلَّانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستنَّ بسُنَّتِه.

أما بعد:

أيها المسلمون : لقد ذكر أكثر أهل العلم في زماننا اليوم الكلام عن نصرة إخواننا في سوريا، حتى قال شيخنا صالح بن اللحيدان -وفقه الله تعالى- وهو يؤيد إخواننا في سوريا على ما هم عليه من رفع الظلم والطغيان من ذلك المتحيز القذر، وكان الشيخ -وفقه الله- يقول لهم في فتوى نشرت في عدة وسائل كان يؤيدهم على أن يواصلوا جهادهم ضد ظُلمه، حتى لو مات الثلث لأجل أن يبقى الثلثان على خير وصلاح؛ وكذلك فعل اتحاد علماء المسلمين، وعدد من المشايخ والعلماء، أصدروا في ذلك بيانات، فإخواننا هناك على حق، ونسأل الله -تعالى- أن يتقبل شهداءهم.

أسأل الله أن يتقبل شهداءهم، وأن يداوي جراحهم وأن يجمع كلمتهم، وأن يجعل العاقبة لهم، كما قال -عز وجل-: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص:5-6].

اللهم يا حيُّ يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا مَن عَزَّ وارتفع، وذَلَّ كُلُّ شَيءٍ له وَخَضَع، اللهمَّ إنا نسألك أن تنصر إخواننا في الشام، اللهم أنْزِلْ عليهم نصرك يا قويُّ يا عزيز.
 

 

 

 

المرفقات

سوريا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات