عناصر الخطبة
1/جولة في الجنة ونعميها 2/المنعمون في الجنة

اقتباس

وأَعْظَمُ نَعِيْمٍ يَتَنَعَّمُ بِهِ أَهلُ الجَنَّةِ، نَعِيْمٌ لا يُجارِيِهِ نَعِيْم، نَعِيْمٌ فَاقَ كُلَّ نَعِيْم، نَعِيْمٌ يَمْلأُ قُلُوبَهُمْ وأَرْكانَهُم، فَلا يَرَونَ نَعِيْماً في الجَنَّةِ أَكْرَمَ مِنْه، إِنَّهُ النَّظَرُ إِلى وَجْهِ اللهِ الكَرِيْم، يَرَونَ رَبَهُم الذي خَلَقَهُم، يَرَونَ رَبَهُم الذي أَوجَدَهُم، يَرَونَ رَبَهُم الذي أَكْرَمَهُم، يَرَونَ رَبَهُم الذي رَبَّاهُم وهداهُم وأَرْشَدَهُم...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا

 

أيها المسلمون: في الحَيَاةِ سُرُوْرٌ وَحَزَن، وَصِحَّةٌ ومَرَض، وقوةٌ وضَعْفٌ، وَرَاحَةٌ ونَصَب، في الحياةِ سَراءُ وضَرَّاءُ، وشدةٌ ورَخاء، وشبابٌ ومَشِيْبُ، ونَشاطٌ وهَرَم، في الحَيَاةِ أَحوالٌ تَتَقَلَّبْ، فما يَصْفو فيها لذيذُ عَيْشٌ إلا تَكدَّر، ولا يَعْلُو فيها لذيذُ مُقامٍ إلا تَحدَّرْ، والموتُ يَهدِمُ فَائِقَ اللذاتِ، وكُلُّ نَعِيْمٍ مَرَدُّهُ إلى زوالٍ، فما ذاك لعمري بِنَعِيْم.

 

ومَنْ يَرْكَن إلى إِيثارِ دُنيا *** سَيَشْقَى حين ينكشِفُ الغِطاءُ

 

وصَفَ اللهُ الدُنياَ أَصْدَقَ وَصْفٍ، ولا يَعي الوَصْفَ حَقاً إِلا مَنْ عَقَل؛ (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا)، دُنْيا الغُرُور، بَرِيْقُ رَاقَ فأَرَّقْ، وطَمَعٌ لاحَ فأَحرَقْ.

 

تُقْبِلُ في خِمائِلِ الإِغراءِ تَزْهُو *** وتُدْبِرُ في ثِيَابٍ بَالِيَاتِ

 

أَلا إِنما النَّعِيمُ الحَقُّ في دارِ الكَرَامَةِ، أَلا إِنما النَّعِيْمُ الحقُّ في دارِ الخُلود، أَلا إِنما النَّعِيْمُ الحقُّ في دارِ المُقامَة، أَلا إِنما النَّعِيْمُ الحقُّ في دَارِ السَّلام؛ (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

 

تِلكَ الدارُ دارُ القَرَار، دارُ العَيْشِ الرَّضِيِّ، والخُلُودِ الأَبَدِيِّ، والمُقامِ السَّرْمَدِيّ، دَارُ الحَياةِ الباقِيَةِ، التِيْ لا مَوتَ فِيْها ولا فَناءَ، ولا نَصَبَ فيها ولا عَناءَ، لا يَغْشَى سَاكِنِيْها حَزَنٌ ولا هَمٌّ، ولا كَرْبٌ ولا غَمّ، لا تَنْزِلُ بِهِم شِدُّةٌ ولا يَحِلُّ بِهِم كَدَرْ، ولا تَنْزِلُ بِهِمْ ضَائِقَةٌ ولا يَحِلُّ بِهِم ضَجَرْ، في رَوْضاتِ الجَنَّاتِ مُنَعَّمَون؛ (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ)، جَنَّةٌ، عَرْضُها السَّماواتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ للمُتَّقِيْن (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

 

دَارُ النَّعِيْمِ دارُ الكَرامَة، دَارُ الخُلْدِ دارُ السَّلام، واسِعَةٌ أَرْجاؤُها، عاليَةٌ مَنازِلُها، ظَلِيْلَةٌ أَشْجارُها، دانِيَةٌ ثٍمارُها، سَارِحَةٌ أَنْهارُها؛ (فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ).

 

(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا).

 

أَكْمَلَ اللهُ لأَهلِ الجَنَةِ نَعِيْمَهُم؛ فالنَّعِيْمُ أَحاطَ بِظَوَاهِرِهِم وبَواطِنِهِم، أَطْيَبُ مُقامٍ في أَهنأ عَيْشٍ، في أَكْرَمِ صُحْبَةٍ في أَتَمِ صَفاء؛ (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)، (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

 

مُلُوكٌ عَلى أَسِرَّتِهِم، مُلُوكٌ في مَنازِلِهِم، مُلُوكٌ في رَوْضاتِ الجَنَّاتِ، مُلُوكٌ في النَّعِيْمِ المُقِيْم؛ (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا)، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ: وإِذا رأَيتَ هُناكَ في الجَنَّةِ، رأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا، رأَيتْ سُرُوراً وحُبُوراً، رأَيْتَ أَنْهاراً وطُيُوراً، رأَيْتَ غُرَفاً عالِيَةً، وخِياماً مُجَوَّفَةً، ورأَيْتَ أَهلاً، ورأَيْتَ حُوراً؛ (حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)، حُورٌ عِيْنٌ، جَمالُهُنَّ قَدْ فَاقْ؛ (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ)، (وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ).

 

(مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ)، بِطانَةُ الفُرُشِ مِنْ اسْتَبْرَق؛ فَما الظَّنُ بِظواهِرِهِا، إِنَّهُ النَّعِيْمُ المُقِيْمُ، في خُلُودٍ لا يَزُول، وحَياةٍ لا تَنْقَضِيْ، وسُرُورٍ لا يَتَبَدَّل، نَعِيْمٌ في المأَكَلِ ونَعِيْمٌ في المَشْرَبِ، ونَعِيْمٌ في المَنْكَحِ ونَعِيْمٌ في المُقَام؛ (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

 

خَدَمٌ، عَزَّ على السَّامِعِ إِدْرَاكُ وَصْفِ جَمالِهِم؛ فَما الظَّنُ بِجَمالِ المَخْدُوم؛ (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا)؛ إِنَّهُ النَّعِيْمُ المُقِيْم، في الحَدِيْثِ القُدْسِيِّ؛ قالَ رَبُنا -تَعالَى-: (أَعْدَدْتُ لعِبَادي الصَّالحينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- واقْرَؤُوا إن شِئْتُمْ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(متفق عليه).

 

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا).

 

دَارُ النَّعِيْمِ دارُ الكَرامَة، دَارُ الخُلْدِ دارُ السَّلامِ، أَعَدَّها اللهُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وأَطاعَه، واستَقامَ على شَرِيْعَتِهِ واسْتَجاب، أَعَدَها اللهُ لِمَن نَهى نَفْسَهُ عَنْ هَواها، وأَدَبَها وَهَذَّبَها وزَكَّاها؛ (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ).

 

أَعَدَّها اللهُ لِمَنْ صَبَرَ على طَاعَةِ اللهِ، وصَبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وصَبَرَ على أَقْدَارِ اللهِ المُؤْلِمَة، على عَتباتِ الجَّنَّةِ طُرِحَتْ كُلُّ الهُمومُ، ونُزِعَتْ كُلُّ الضَّغائن، وأُلْقِيتَ كُلُّ الأَحْزَان، على أَبوابِ الجنةِ، خُلِّفَتْ كُلُّ الشدائدِ؛ فما في قَابِلِ الأَيامِ -أَبدَ الآبِدِينَ- شِدَّة، ولا في مُسْتَقْبَلِها قَسْوَة، ولا في آتِيْها عَنَاءَ (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)، صَبَرُوا في هذه الدُّنيا قَلِيْلاً، اسْتَمْسَكُوا بأَمْرِ اللهِ واسْتَقامُوا على دِيْنِه، فَأَدْرَكُوا أَكْرَمَ عاقِبَةٍ، ونالُوا أَكَرَمَ جَزاءَ؛ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)، (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ)، لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ؛ (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)، وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، فَما نافَسَ مُنافِسٌ في أَمْرٍ، أَكْرَمُ مِنْ منافَسَتِهِ في أَمْرٍ تَعْلُو بِهِ عندَ رَبِهِ الدَّرَجات؛ (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

 

بارك الله لي ولكم،

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً؛ أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.

 

أيها المسلمون: دَعا اللهُ عِبادَهُ لذَاكَ النَّعِيْمِ، فَشَوَّقَهُمْ إِليهِ إِذ وَصَفَهُ لَهُم، وأَغراهُمْ بالسَّعْيِ إليهِ إِذ بَيَّنَهُ لَهُم، ورَحِمَهُم، إِذ هَيَّأَ لَهُم أَسْبابَ الفَوزِ بِهِ ويَسَّرَ ما شَرَعَهُ لَهُم؛ (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

 

ولَنْ يَهْنأَ بالبُشْرَى إِلا مَنْ آمَنِ وعَمِلَ صالحاً؛ (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا).

 

وأَعْظَمُ نَعِيْمٍ يَتَنَعَّمُ بِهِ أَهلُ الجَنَّةِ، نَعِيْمٌ لا يُجارِيِهِ نَعِيْم، نَعِيْمٌ فَاقَ كُلَّ نَعِيْم، نَعِيْمٌ يَمْلأُ قُلُوبَهُمْ وأَرْكانَهُم، فَلا يَرَونَ نَعِيْماً في الجَنَّةِ أَكْرَمَ مِنْه، إِنَّهُ النَّظَرُ إِلى وَجْهِ اللهِ الكَرِيْم، يَرَونَ رَبَهُم الذي خَلَقَهُم، يَرَونَ رَبَهُم الذي أَوجَدَهُم، يَرَونَ رَبَهُم الذي أَكْرَمَهُم، يَرَونَ رَبَهُم الذي رَبَّاهُم وهداهُم وأَرْشَدَهُم.

 

يَرَونَ إِلههم الذي عَبَدُوه، واسْتَجابُوا لَهُ وأَطاعُوه، يَرَونَ مَنْ كانُوا في الدُنيا يَتْلُونَ كَلامَه، يَرَوْنَ مَنْ كانُوا إِليه يَتَوَسَّلُونَ، ولَهُ يَرْكَعُونَ، ولَهُ يَسْجدون، يَرَونَ إِلههم الذي كانُوا يَخْشَونَهُ بالغَيْبِ، وهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون؛ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ)، حَسَنَةُ مُضِيِئَةٌ، لَها مِنْ أَثَرِ النَّعِيْم نَضْرَةٌ، ولَها مِنْ أَثَرِ النَّعِيْمِ بَهاءَ؛ (إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، تَنْظُرُ إِلى رَبِها مُغْتَبِطَةً، تَنْظُرُ إِلى رَبِها، فَتَراهُ عِياناً مِنْ غَيْرِ عَناءٍ؛ فَيا لَها مِنْ نَظْرَةٍ ما أَجَلَّها! ويا لَها مِنْ نَظْرَةٍ ما أَكْرَمَها؛ قَالَ جَرِيْرُ بنُ عبدِالله -رضي الله عنه-: كُنَّا عِنْدَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فَنَظَرَ إلى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرَ؛ فَقَالَ: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ"(رواه البخاري)، (لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ): لا تَتَزاحَمَونَ ولا يَنْظَمُّ بَعْضُكُم إِلى بَعْضٍ لأَجْلِ الرُّؤْيَةِ؛ بَلْ رُؤْيَةٌ، سَهْلَةٌ يَسِيْرَةٌ، ظاهِرَةٌ جَلِيةٌ بَيِّنَة، كَما تَرَونَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لا يَلْحَقُكُمْ في رُؤْيَتِهِ عَناءَ، وذاكَ أَكْرَمُ نَعِيْمٍ يَتَلَذَّذُ بِهِ أَهْلُ الجَنَّة، وفي حَدِيْثِ صُهَيْبٍ، قالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فَما أُعْطُوا شيئًا أحَبَّ إليهِم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ تَلا هذِه الآيَةَ: (لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى وزِيادَةٌ)(رواه مسلم)، الحُسْنَى هِي الجَنَّةُ، والزِّيادَةُ هِي النَظَرُ إِلى وجهِ اللهِ الكَرِيْم، فَطُوْبَى لِمَنْ فازَ بِها ــ ورَبِّ الكَعْبَة ــ؛ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ).

 

عِبادَ الله: ومَنْ طَمِعَ في أَمْرٍ جَدَّ في طَلَبِه، وعلى قَدْرِ عِظَمِ المطَالِبِ يَعْظُمُ البَذْل لَها، ولا فَوقَ دارِ الكَرامَةِ مَطْلَبْ، ودارُ النَعِيْمِ قَدْ حُجِبَتْ بالمَكَارِه، مِنْ أَوامِرَ ونَواهٍ، وشَرائِعَ وأَحكامٍ، وتكالِيفَ وعِبادات، فَمَنْ اقْتَحَمَ ذاكَ الحِجابَ، فَعَمِلَ بأَمْرِ اللهِ وانْكَفَّ عَن نَهْيِهِ اقْتَحَمَ الحجابَ إِلى الجَنَّة، ومَنْ حامَ حَولِ الشَّهَواتِ هَلَك، عَنْ أبي هُريرةَ -رضي اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال: «حُجِبتِ النَّارُ بالشَّهواتِ، وحُجِبَتِ الجنَّةُ بالمكَارِهِ»(متفق عليه).

 

اللَّهمَّ إِنَّا نَسْألُكَ الجنَّةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ، ونَعَوذُ بِكَ منَ النَّارِ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ.

 

اللَّهمَّ إِنَّا نَسْألُكَ، لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life