يوم الجمعة فضائل وأحكام

فؤاد بن يوسف أبو سعيد

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الجمعة
عناصر الخطبة
1/ اختصاص أمة الإسلام بيوم الجمعة 2/ بعض فضائل يوم الجمعة 3/ بعض أحكام يوم الجمعة وآدابها 4/ العبادات المشروعة يوم الجمعة 5/ خصائص يوم الجمعة وميزاتها
اهداف الخطبة

اقتباس

رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَيِّدُ الأَنَامِ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الأَيَّامِ، فَلِلصَّلاةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، مَعَ حِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ نَالَتْهُ أُمَّتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَإِنَّمَا نَالَتْهُ عَلَى يَدِهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ لأُمَّتِهِ بِهِ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَأَعْظَمُ كَرَامَةٍ تَحْصُلُ لَهُمْ، فَإِنَّمَا...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، نَحْمَدُكَ يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، عَلَى مَا أَكْمَلْتَ لَنَا مِنْ دِينِ الإِسْلامِ، وَنُصَلِّي وَنُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، الْمَبْعُوثِ بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَإِمَامِ الْمُرْشِدِينَ، سَيِّدِنَا ونبيِّنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ أَجْمَعِينَ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة: 9 - 11].

 

وَقَوْلِ اللَّهِ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة: 9].

 

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "يَحْرُمُ البَيْعُ حِينَئِذٍ".

 

وَقَالَ عَطَاءٌ: "تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا".

 

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: "إِذَا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ" [ذكره البخاري].

 

ألا واعلموا أننا نحن المسلمين قد فزنا بيوم الجمعة، منَّة من الله وهبة وعطية، ف "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ اليَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ" [البخاري: 876].

 

و "إِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ؛ وَقَفَتِ المَلاَئِكَةُ عَلَى بَابِ المَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، وَمَثَلُ المُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" [البخاري: 929].

 

و "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ -أي ذهب إلى السجد ليصلي الجمعة- فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً -أي ناقة عظيمة-، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ؛ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ؛ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ؛ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ؛ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" [البخاري: 881، ومسلم: 850].

 

إنه يَوْمُ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، ف "لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى" [البخاري: 883].

 

ويوم الجمعة "نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ أَخَاهُ مِنْ مَقْعَدِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ" قُلْتُ لِنَافِعٍ: الجُمُعَةَ؟ قَالَ: الجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا" [البخاري: 911].

 

وإياك والكلام أثناء الخطبة، ف "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ" [البخاري: 934].

 

إنه يَوْمُ الجُمُعَةِ: "فِيهِ سَاعَةٌ، لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- شَيْئًا، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ" وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا [البخاري: 935].

 

و "كَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمُ هَذَا الْيَوْمِ وَتَشْرِيفُهُ، وَتَخْصِيصُهُ بِعِبَادَاتٍ يَخْتَصُّ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: "هَلْ هُوَ أَفْضَلُ، أَمْ يَوْمُ عَرَفَةَ؟" فعرفة أفضل أيام العام، والجمعة أفضل أيام الأسبوع.

 

ولماذا "كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي فَجْرِهِ بِسُورَتَيِ: "الم تَنْزِيلُ" وَ"هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ" [البخاري: 1068].

 

قال شَيْخَ الإِسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ: "إِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ؛ لأَنَّهُمَا تَضَمَّنَتَا مَا كَانَ وَيَكُونُ فِي يَوْمِهَا، فَإِنَّهُمَا اشْتَمَلَتَا عَلَى خَلْقِ آدَمَ، وَعَلَى ذِكْرِ الْمَعَادِ وَحَشْرِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ يَكُونُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ فِي قِرَاءَتِهِمَا فِي هَذَا الْيَوْمِ تَذْكِيرٌ لِلأُمَّةِ بِمَا كَانَ فِيهِ وَيَكُونُ، وَالسَّجْدَةُ جَاءَتْ تَبَعًا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً حَتَّى يَقْصِدَ الْمُصَلِّي قِرَاءَتَهَا حَيْثُ اتَّفَقَتْ. فَهَذِهِ خَاصَّةٌ مِنْ خَوَاصِّ يَوْمِ الْجُمُعَةِ".

 

وخُصَّ يومُ الجمعة باسْتِحْبَابِ كَثْرَةِ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ وَفِي لَيْلَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ".

 

وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَيِّدُ الأَنَامِ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الأَيَّامِ، فَلِلصَّلاةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، مَعَ حِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ نَالَتْهُ أُمَّتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَإِنَّمَا نَالَتْهُ عَلَى يَدِهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ لأُمَّتِهِ بِهِ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَأَعْظَمُ كَرَامَةٍ تَحْصُلُ لَهُمْ، فَإِنَّمَا تَحْصُلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ فِيهِ بَعْثَهُمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَقُصُورِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْمَزِيدِ لَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَوْمٌ فِيهِ يُسْعِفُهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِطَلَبَاتِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ، وَلا يَرُدُّ سَائِلَهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا عَرَفُوهُ وَحَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِهِ وَعَلَى يَدِهِ، فَمِنْ شُكْرِهِ وَحَمْدِهِ وَأَدَاءِ الْقَلِيلِ مِنْ حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُكْثِرَ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَيْلَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

 

وفيه: صَلاةُ الْجُمُعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ آكَدِ فُرُوضِ الإِسْلامِ وَمِنْ أَعْظَمِ مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَجْمَعٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ وَأَفْرَضُهُ، سِوَى مَجْمَعِ عَرَفَةَ، وَمَنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَقُرْبُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَبْقُهمْ إِلَى الزِّيَارَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ بِحَسْبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتَبْكِيرِهِمْ.

 

وفيه: الأَمْرُ بِالاغْتِسَالِ فِي يَوْمِهَا، وَهُوَ أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ جِدًّا، وَوُجُوبُهُ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِ ..-كثير من الواجبات- والتَّطَيُّبُ فِيهِ، أَفْضَلُ مِنَ التَّطَيُّبِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَيَّامِ الأُسْبُوعِ، والسِّوَاكُ فِيهِ، لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى السِّوَاكِ فِي غَيْرِهِ.

 

وفيه: التَّبْكِيرُ لِلصَّلاةِ، وأَنْ يَشْتَغِلَ بِالصَّلاةِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الإِمَامُ.

 

وفيه: قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي يَوْمِهَا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "من قَرَأَ سُورَة الْكَهْف فِي يَوْم الْجُمُعَة أَضَاء لَهُ النُّور مَا بَيْنَ الْجُمْعَتَيْنِ" [رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِير: 2/ 133، رقم: 526، إرواء الغليل: 3/ 93، رقم: 626].

 

وفيه: أنَّهُ لا يُكْرَهُ فِعْلُ الصَّلاةِ فِيهِ وَقْتَ الزَّوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- وَمَنْ وَافَقَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ .. أبي العباس ابنِ تيمية، .. وَإِنَّمَا كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى يَخْرُجَ الإِمَامُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ -السابق وقال فيه-: "... ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى" [الْبُخَارِيُّ: 88]، فَنَدَبَهُ إِلَى الصَّلاةِ مَا كُتِبَ لَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ عَنْهَا إِلاَّ فِي وَقْتِ خُرُوجِ الإِمَامِ، وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: خُرُوجُ الإِمَامِ يَمْنَعُ الصَّلاةَ وَخُطْبَتُهُ تَمْنَعُ الْكَلامَ، فَجَعَلُوا الْمَانِعَ مِنَ الصَّلاةِ خُرُوجَ الإِمَامِ لا انْتِصَافَ النَّهَارِ...

 

ويوم الجمعة: يَوْمُ عِيدٍ مُتَكَرِّرٍ فِي الأُسْبُوعِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: "ثُمَّ شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَصَلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ العَوَالِي فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ" [البخاري: 5572].

 

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ، جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ" [سنن ابن ماجة: 1098، صحيح الترغيب: 1/ 172، رقم: 707]، ف "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ وَهِيَ مُسِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مِنْ حِينَ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ، إِلاَّ الْجِنَّ وَالإِنْسَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ حَاجَةً؛ إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا" قَالَ كَعْبٌ: "ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ؟" فَقُلْتُ: "بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ"، قَالَ: فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ، فَقَالَ: صَدَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ، فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَع كَعْبٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: "قَدْ عَلِمْتُ أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ؟" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "فَقُلْتُ لَهُ: فَأَخْبِرْنِي بِهَا"، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: "هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ"، فَقُلْتُ: "كَيْفَ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي" وَتِلْكَ السَّاعَةُ لا يُصَلِّي فِيهَا؟!" فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: "أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ فَهُوَ فِي صَلاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ؟!" قَالَ: فَقُلْتُ: "بَلَى!" قَالَ: "هُوَ ذَاكَ" [سنن أبي داود: 1046، والترمذي: 491، والنسائي: 1430، صحيح الجامع: 3334].

 

وفيه: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُلْبَسَ فِيهِ أَحْسَنُ الثِّيَابِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: 38/ 547، رقم: 23571، مِنْ حَدِيثِ أبي أيوب قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ إِنْ بَدَا لَهُ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى".

 

وفيه: أَنَّ لِلْمَاشِي إِلَى الْجُمُعَةِ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرَ سَنَةٍ؛ صِيَامَهَا وَقِيَامَهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ، وَغَدَا وَابْتَكَرَ، وَدَنَا فَاقْتَرَبَ، وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ قِيَامِ سَنَةٍ وَصِيَامِهَا" [مسند أحمد: 11/ 543، رقم: 6954، والترمذي: 496، ابن ماجة: 1087، صحيح الترغيب: 1/ 169، رقم: 693].

 

وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: "غَسَّلَ" بِالتَّشْدِيدِ: جَامَعَ أَهْلَهُ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ وَكِيعٌ...".

 

وفيه: أَنَّ جَهَنَّمَ تُسَجَّرُ كُلَّ يَوْمٍ إِلاَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ ففي حديث طويل يعلم فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ أوقات الصلاة، فقال: "... ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ؛ فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ" [صحيح مسلم: 832].

 

وَسِرُّ ذَلِكَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَقَعُ فِيهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالدَّعَوَاتِ وَالابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مَا يَمْنَعُ مِنْ تَسْجِيرِ جَهَنَّمَ فِيهِ.

 

وَلِذَلِكَ تَكُونُ مَعَاصِي أَهْلِ الإِيمَانِ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ مَعَاصِيهِمْ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْفُجُورِ لَيَمْتَنِعُونَ فِيهِ مِمَّا لا يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَغَيْرِهِ.

 

وَهَذَا الْحَدِيثُ الظَّاهِرُ مِنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ سَجْرُ جَهَنَّمَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا تُوقَدُ كُلَّ يَوْمٍ إِلاَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لا يَفْتُرُ عَذَابُهَا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْ أَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ، وَلِذَلِكَ يَدْعُونَ الْخَزَنَةَ أَنْ يَدْعُوا رَبَّهُمْ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ، فَلا يُجِيبُونَهُمْ إِلَى ذَلِكَ.

 

وفيه: أَنَّ فِيهِ سَاعَةَ الإِجَابَةِ، وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي لا يَسْأَلُ اللَّهَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فِيهَا شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ" وَقَالَ: بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا -وأرجح الأقوال- أَنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ... ف "يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَا عَشَرَ سَاعَةً، فِيهَا سَاعَةٌ لا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ، فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ" [سنن أبي داود: 1048، والنسائي: 1389، ونحوه الترمذي: 489، صحيح الجامع: 3264].

 

وَهَذِهِ السَّاعَةُ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، يُعَظِّمُهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ هِيَ سَاعَةُ الإِجَابَةِ، وَهَذَا مِمَّا لا غَرَضَ لَهُمْ فِي تَبْدِيلِهِ وَتَحْرِيفِهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِهِ مُؤْمِنُهُمْ.

 

وفيه: أَنَّ فِيهِ صَلاةَ الْجُمُعَةِ الَّتِي خُصَّتْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ بِخَصَائِصَ لا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا؛ مِنَ الاجْتِمَاعِ وَالْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ وَاشْتِرَاطِ الإِقَامَةِ، وَالاسْتِيطَانِ، وَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ، وَقَدْ جَاءَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِيهَا مَا لَمْ يَأْتِ نَظِيرُهُ إِلاَّ فِي صَلاةِ الْعَصْرِ؛ فَفِي السُّنَنِ الأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أبي الجعد الضمري -وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ تَرَكَ ثَلاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ" [قَالَ الترمذي: "حَدِيثٌ حَسَنٌ" الترمذي: 500، وأبي داود: 1052، والنسائي: 1369 ,6143، صحيح الجامع].

 

وفيه: أَنَّ فِيهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ وَتَمْجِيدُهُ، وَالشَّهَادَةُ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالرِّسَالَةِ، وَتَذْكِيرُ الْعِبَادِ بِأَيَّامِهِ، وَتَحْذِيرُهِمْ مِنْ بَأْسِهِ وَنِقْمَتِهِ، وَوَصِيَّتُهمْ بِمَا يُقَرُّبُهُمْ إِلَيْهِ وَإِلَى جِنَانِهِ، وَنَهْيِهِمْ عَمَّا يُقَرِّبُهُمْ مِنْ سُخْطِهِ وَنَارِهِ، فَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْخُطْبَةِ وَالاجْتِمَاعِ لَهَا.

 

وفيه: أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ أَنْ يُتَفَرَّغَ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، وَلَهُ عَلَى سَائِرِ الأَيَّامِ مَزِيَّةٌ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَاجِبَةٍ وَمُسْتَحَبَّةٍ، فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ- جَعَلَ لأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ يَوْمًا يَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ وَيَتَخَلَّوْنَ فِيهِ عَنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا، فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِبَادَةٍ، وَهُوَ فِي الأَيَّامِ كَشَهْرِ رَمَضَانَ فِي الشُّهُورِ، وَسَاعَةُ الإِجَابَةِ فِيهِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ.

 

وَلِهَذَا مَنْ صَحَّ لَهُ يَوْمُ جُمُعَتِهِ وَسَلِمَ؛ سَلِمَتْ لَهُ سَائِرُ جُمْعَتِهِ، وَمَنْ صَحَّ لَهُ رَمَضَانُ وَسَلِمَ؛ سَلِمَتْ لَهُ سَائِرُ سَنَتِهِ، وَمَنْ صَحَّتْ لَهُ حَجَّتُهُ وَسَلِمَتْ لَهُ؛ صَحَّ لَهُ سَائِرُ عُمْرِهِ، فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ مِيزَانُ الأُسْبُوعِ، وَرَمَضَانُ مِيزَانُ الْعَامِ، وَالْحَجُّ مِيزَانُ الْعُمْرِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

 

وتوبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين.

 

وبعد:

 

ألا -واعلموا-: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الأُسْبُوعِ كَالْعِيدِ فِي الْعَامِ، وَكَانَ الْعِيدُ مُشْتَمِلا عَلَى صَلاةٍ وَقُرْبَانٍ، وَكَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ صَلاةٍ، جَعَلَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- التَّعْجِيلَ فِيهِ إِلَى الْمَسْجِدِ بَدَلا مِنَ الْقُرْبَانِ، وَقَائِمًا مَقَامَهُ فَيَجْتَمِعُ لِلرَّائِحِ فِيهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الصَّلاةُ، وَالْقُرْبَانُ "مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً" فَإِنَّ السَّاعَةَ السَّادِسَةَ مَتَى خَرَجَتْ وَدَخَلَتِ السَّابِعَةُ خَرَجَ الإِمَامُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ وَلَمْ يُكْتَبْ لأَحَدٍ قُرْبَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ...

 

إِنَّهُ يَوْمُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِكُلِّ أُمَّةٍ فِي الأُسْبُوعِ يَوْمًا يَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِتَذَكُّرِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَيَتَذَكَّرُونَ بِهِ اجْتِمَاعَهُمْ يَوْمَ الْجَمْعِ الأَكْبَرِ قِيَامًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَ أَحَقُّ الأَيَّامِ بِهَذَا الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ الْيَوْمَ الَّذِي يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْخَلائِقَ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَادَّخَرَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا، فَشَرَعَ اجْتِمَاعَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِطَاعَتِهِ، وَقَدَّرَ اجْتِمَاعَهُمْ فِيهِ مَعَ الأُمَمِ لِنَيْلِ كَرَامَتِهِ، فَهُوَ يَوْمُ الاجْتِمَاعِ شَرْعًا فِي الدُّنْيَا، وَقَدَرًا فِي الآخِرَةِ، وَفِي مِقْدَارِ انْتِصَافِهِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلاةِ يَكُونُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي مَنَازِلِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: "لا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَقَرَأَ: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا) [الفرقان: 24] وَقَرَأَ: "ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ"، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَتِهِ.

 

وَلِهَذَا كَوْنُ الأَيَّامِ سَبْعَةً؛ إِنَّمَا تَعْرِفُهُ الأُمَمُ الَّتِي لَهَا كِتَابٌ، فَأَمَّا أُمَّةٌ لا كِتَابَ لَهَا، فَلا تَعْرِفُ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ تَلَقَّاهُ مِنْهُمْ عَنْ أُمَمِ الأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَا عَلامَةٌ حِسِّيَّةٌ يُعْرَفُ بِهَا كَوْنُ الأَيَّامِ سَبْعَةً، بِخِلافِ الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ وَفُصُولِهَا، وَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَتَعَرَّفَ بِذَلِكَ إِلَى عِبَادِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، شَرَعَ لَهُمْ فِي الأُسْبُوعِ يَوْمًا يُذَكِّرُهُمْ فِيهِ بِذَلِكَ، وَحِكْمَةِ الْخَلْقِ وَمَا خُلِقُوا لَهُ، وَبِأَجَلِ الْعَالَمِ وَطَيِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَعَوْدِ الأَمْرِ كَمَا بَدَأَهُ سُبْحَانَهُ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقَّا، وَقَوْلاً صِدْقًا، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سُورَتَيِ: "الم تَنْزِيلُ" وَ "هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ" لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَاتَانِ السُّورَتَانِ؛ مِمَّا كَانَ وَيَكُونُ مِنَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَحَشْرِ الْخَلائِقِ وَبَعْثِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، لا لأَجْلِ السَّجْدَةِ! كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ نَقَصَ عِلْمُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، فَيَأْتِي بِسَجْدَةٍ مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ فَجْرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فُضِّلَ بِسَجْدَةٍ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا.

 

وَهَكَذَا كَانَتْ قِرَاءَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجَامِعِ الْكِبَارِ؛ كَالأَعْيَادِ وَنَحْوِهَا بِالسُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَقَصَصِ الأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهِمْ، وَمَا عَامَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَكَفَرَ بِهِمْ مِنَ الْهَلاكِ وَالشَّقَاءِ، وَمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَصَدَّقَهُمْ مِنَ النَّجَاةِ وَالْعَافِيَةِ...

 

يوم الجمعة: يَوْم يَتَجَلَّى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ لأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَزِيَارَتُهُمْ لَهُ، فَيَكُونُ أَقْرَبُهُمْ مِنْهُمْ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الإِمَامِ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى الزِّيَارَةِ أَسْبَقَهُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 35]؛ قَالَ: "يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ".

 

وعَنْ أَنَسِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ وَفِي يَدِهِ كَالْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِيهَا كَالنُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ، فَقُلْتُ: "مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟!" قَالَ: "هَذِهِ الْجُمُعَةُ يَعْرِضُهَا اللَّهُ عَلَيْكَ؛ لِتَكُونَ لَكَ عِيدًا وَلِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ"، قُلْتُ: "وَمَا لَنَا فِيهَا؟!" قَالَ: "لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، أَنْتَ فِيهَا الأَوَّلُ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِكَ، وَلَكَ فِيهَا سَاعَةٌ لا يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدٌ فِيهَا شَيْئًا هُوَ لَهُ قَسْمٌ إِلاَّ أَعْطَاهُ، أَوْ لَيْسَ لَهُ قَسْمٌ إِلاَّ أَعْطَاهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَأَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ شَرِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ دَفَعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ". قَالَ: قُلْتُ: "وَمَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ؟!" قَالَ: "هِيَ السَّاعَةُ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا سَيِّدُ الأَيَّامِ، وَيَدْعُوهُ أَهْلُ الآخِرَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ". قَالَ: قُلْتُ: "يَا جِبْرِيلُ! وَمَا يَوْمُ الْمَزِيدِ؟!" قَالَ: "ذَلِكَ أَنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ؛ نَزَلَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، ثُمَّ حُفَّ الْكُرْسِيُّ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيَجِيءُ النَّبِيُّونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ حُفَّ الْمَنَابِرُ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَجِيءُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، وَيَجِيءُ أَهْلُ الْغُرَفِ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى الْكُثُبِ"، قَالَ: "ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ"، قَالَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: "أَنَا الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي فَسَلُونِي"، فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَى. قَالَ: "رِضَايَ أَنْزَلَكُمْ دَارِي، وَأَنَالَكُمْ كَرَامَتِي، فَسَلُونِي"، فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَى. قَالَ: فَيَشْهَدُ لَهُمْ بِالرِّضَى، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: "ثُمَّ يَرْتَفِعُ رَبُّ الْعِزَّةِ، وَيَرْتَفِعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ، وَيَجِيءُ أَهْلُ الْغُرَفِ إِلَى غُرَفِهِمْ". قَالَ: "كُلُّ غُرْفَةٍ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ لا وَصْلَ فِيهَا وَلا فَصْمَ، يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَغُرْفَةٌ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، أَبْوَابُهَا وَعَلالِيُّهَا، وَسَقَائِفُهَا وَأَغْلاقُهَا مِنْهَا، أَنْهَارُهَا مُطَّرِدَةٌ، مُتَدَلِّيَةٌ فِيهَا أَثْمَارُهَا، فِيهَا أَزْوَاجُهَا وَخَدَمُهَا". قَالَ: "فَلَيْسُوا إِلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ؛ لِيَزْدَادُوا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، فَذَلِكَ يَوْمُ الْمَزِيدِ" وَلِهَذَا الْحَدِيثِ عِدَّةُ طُرُقٍ، ذَكَرَهَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ: الرُّؤْيَةِ، وحسنه لغيره في صحيح الترغيب: 3/ 272، رقم: 3761، انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/ 363- 425، بتصرف].

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا خَطِيئَاتنا، وَأَصْلِحْ لنا مَعِيشَتنا، وَعَافِنا مِنَ الْمَكَارِهِ، يَا إِلَهنا!

 

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، حيِّهم وميِّتِهم، شاهدِهم وغائبِهم، قريبِهم وبعيدِهم، إنك تعلم متقلبهم ومثواهم.

 

اللَّهُمَّ عَذّبِ الكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، ويُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقاتِلُونَ أوْلِيَاءَكَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ للْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات، والمسلمين والمُسْلِماتِ، وأصْلِح ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِهِم الإِيمَانَ وَالحِكْمَةَ، وَثَبِّتْهُمْ على مِلَّةِ رسولِك صلى الله عليه وسلم، وَأَوْزِعْهُمْ أنْ يُوفُوا بِعَهْدِكَ الَّذي عاهَدْتَهُمْ عَلَيْهِ، وَانْصُرْهُمْ على عَدُّوَكَ وَعَدُوِّهِمْ إِلهَ الحَقّ وَاجْعَلْنا منهم.

 

(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].

 

 

 

المرفقات
يوم الجمعة فضائل وأحكام.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life