وينزل الغيث (6) أحكام وتوجيهات

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ المطر رحمة من رحمات الله تعالى 2/ الهدي النبوي عند هبوب الرياح 3/ حكم التعرض للمطر وإمراره مائه على بدن المسلم 4/ حكم الصلاة في الرحال والجمع بين الصلوات عند هطول المطر 5/ تحذيرات من تهور البعض عند المطر والسيول 6/ مفاسد تضييع الأمانة في العمل العام.
اهداف الخطبة

اقتباس

حِينَ يَجُودُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ بِالْغَيْثِ المُبَارَكِ يَخْرُجُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ -وَلَا سِيَّمَا الشَّبَابُ- لِرُؤْيَةِ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ وَهِيَ تَجْرِي بِالمَاءِ، فَيَقْلِبُ بَعْضُهُمْ سَاعَاتِ الْفَرَحِ إِلَى فَجَائِعَ وَمَصَائِبَ وَأَحْزَانٍ دَائِمَةٍ، بِتَهَوُّرٍ مَجْنُونٍ، وَمُغَامَرَاتٍ لَا تُحْسَبُ عَوَاقِبُهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُغَامِرُ بِقَطْعِ الْأَوْدِيَةِ سِبَاحَةً وَالمَاءُ يَجْرِي فِيهَا؛ لِيَنَالَ إِعْجَابَ مَنْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَيَعْلَقُ وَيَغْرَقُ وَيَهْلِكُ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يُخَاطِرَ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُخَاطِرَ بِغَيْرِهِ، فَيَأْخُذُ أَصْحَابَهُ أَوْ أَهْلَهُ فِي سَيَّارَتِهِ لِيَقْطَعَ بِهِمْ وَادِيًا يَجْرِي، فَيَجْرِفُهُمُ السَّيْلُ وَطَمْيُهُ حَتَّى يُغْرِقَهُمْ، وَفِي سَنَةٍ مَضَتْ خَاطَرَ شَابٌّ بِأُمِّهِ وَأَخَوَاتِهِ فَجَرَفَ السَّيْلُ سَيَّارَتَهُ، وَمَاتُوا أَمَامَهُ، وَبَقِيَ حَيًّا لِيَعِيشَ الْحَسْرَةَ عَلَيْهِمْ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ وَقَدْ تَسَبَّبَ فِي قَتْلِهِمْ...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّـهِ مَالِكِ الْخَزَائِنِ وَالْخَيْرَاتِ، رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، مُسْدِي النِّعَمِ وَالْبَرَكَاتِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، فَالْخَيْرُ بِيَدَيْهِ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، «يَمِينُهُ مَلْأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ».

 

 وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ يَفْرَحُ بِرَحْمَةِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَيَسْتَبْشِرُ بِغَيْثِهِ، وَإِذَا مَطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ، وَيَخَافُ الْعَذَابَ بِالرِّيحِ وَالْغَيْمِ، فَهُوَ دَائِمُ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، حَتَّى لَقِيَ اللهَ تَعَالَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

 أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ وَلَا تَكْفُرُوهُ؛ فَإِنَّ شُكْرَ النِّعَمِ يَزِيدُهَا، وَإِنَّ كُفْرَهَا يُزِيلُهَا، وَإِذَا سُلِبَتِ النِّعَمُ فَمَنْ يُعِيدُهَا؟! (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11].

 

 أَيُّهَا النَّاسُ: نِعَمُ اللَّـهِ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ لَا يَحُدُّهَا حَدٌّ، وَلَا يُحْصِيهَا عَدٌّ، وَلَهُ فِي كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِهِمْ نِعَمٌ، وَلَهُ نِعَمٌ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِهِمْ، فَنِعَمٌ فِي سُكُونِهِمْ، وَنِعَمٌ فِي حَرَكَتِهِمْ، وَنِعَمٌ فِي نَوْمِهِمْ، وَنِعَمٌ فِي يَقَظَتِهِمْ، وَحَيَاتُهُمْ كُلُّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَكُلُّ مَا يَجْرِي فِيهَا مِنْ خَيْرٍ مَا هِيَ إِلَّا مِنْ نِعَمِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

 

وَالْغَيْثُ المُبَارَكُ نِعْمَةٌ مِنَ نِعَمِهِ؛ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ مِنْ رَحَمَاتِهِ، يُحْيِي بِهَا الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، مَعَ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ أُنْسٍ وَاسْتِبْشَارٍ وَفَرَحٍ بِرَحْمَةِ خَالِقِهِمْ وَرَازِقِهِمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

 

وَكَوْنُ المَطَرِ رَحْمَةً مِنْ رَحَمَاتِ اللَّـهِ -تَعَالَى- جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان:48]، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الروم: 46]، (فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّـهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) [الرُّوم:50].

 

 وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَحَطَ المَطَرُ، وَقَنَطَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مُطِرْتُمْ، ثُمَّ قَرَأَ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الحَمِيدُ) [الشورى: 28].

 

وَلِلْغَيْثِ وَمُقَدِّمَاتِهِ أَدْعِيَةٌ وَأَحْكَامٌ وَآدَابٌ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ مَعْرِفَتُهَا؛ لِيَعْمَلُوا بِهَا فَيُوَافِقُوا السُّنَّةَ، وَيَنَالُوا الْأَجْرَ مَعَ اسْتِمْتَاعِهِمْ بِرَحْمَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- وَفَضْلِهِ. 

 

فَإِذَا هَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَتَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَخَافُوا الْعَذَابَ؛ لِعِلْمِهِمْ بِتَفْرِيطِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ؛ وَلِعِلْمِهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ؛ وَلِعِلْمِهِمْ بِشِدَّةِ بَطْشِهِ وَانْتِقَامِهِ، وَلَا يَطْغَى الْفَرَحُ عَلَيْهِمُ اسْتِبْشَارًا بِمُقَدِّمَاتِ المَطَرِ كَمَا كَانَ حَالُ عَادٍ حِينَ فَرِحُوا وَقَالُوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف:24].

 

 فَالهَدْيُ النَّبَوِيُّ هُوَ الخَوْفُ مِنَ الْعَذَابِ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ رَحْمَةٌ بِنُزُولِ المَطَرِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ، عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ، وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَالسُّنَّةُ أَنْ يَدْعُوَ فِي الرِّيحِ قَائِلًا: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ» (رواه مسلم).

 

فَإِذَا مَطَرَتِ السَّمَاءُ فَرِحَ بِرَحْمَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى-. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْعَلَ المَطَرَ يُصِيبُ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ؛ فَهُوَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّـهِ –تَعَالَى-، وَالمُؤْمِنُ يَطْلُبُ رَحْمَتَهُ وَيَتَعَرَّضُ لَهَا، رَوَى أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ المَطَرِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّـهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

 وَوَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَطَّرُونَ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ خُطْبَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْتَ المَطَرِ حَتَّى تَحَادَرَ المَطَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ قَائِلًا: بَابُ مَنْ تَمَطَّرَ فِي المَطَرِ حَتَّى يَتَحَادَرَ عَلَى لِحْيَتِهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُنَا عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّمَطُّرِ فِي أَوَّلِ مَطْرَةٍ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فِي السَّنَةِ".

 

وَمَعَ نُزُولِ الرَّحْمَةِ يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ، فَاسْتُحِبَّ الدُّعَاءُ تَحْتَ المَطَرِ، جَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ عِدَّةٌ؛ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى-: "وَقَدْ حَفِظْتُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ طَلَبَ الْإِجَابَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ".

 

 وَمِنَ الْأَدْعِيَةِ المَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ذَلِكَ: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا»، «اللهُمَّ اجْعَلْهُ صَيِّبًا هَنِيئًا»، وَالصَّيِّبُ هُوَ المُنْهَمِرُ المُتَدَفِّقُ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ سِيْبًا نَافِعًا» وَالسِّيبُ هُوَ الْعَطَاءُ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ يَعُمُّ المَطَرَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ.

 

وَطَلَبُ النَّفْعِ فِي الْغَيْثِ سَبَبُهُ أَنَّهُ قَدْ تَمْتَلِئُ الْأَرْضُ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَنْفَعُهَا فَلَا يُنْبِتُ؛ وَلِذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

فَإِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ سَبَّحَ اللهَ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الرَّعْدَ يُسَبِّحُهُ سُبْحَانَهُ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [الرعد:13]، وَللِسَّلَفِ مَأْثُورَاتٌ فِي التَّسْبِيحِ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ الرَّعْدِ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّـهِ بْنُ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يقول: «سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ»، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّـهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّـهِ الْعَظِيمِ». وَكَانَ طَاوُوسٌ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ يقول: «سُبْحَانَ مَنْ سَبَّحْتَ لَهُ».

 

فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَالمَطَرُ يَنْهَمِرُ؛ شُرِعَتِ الصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ، فَإِذَا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ قَالَ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، أَوْ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، سَوَاءً قَالَهَا بَعْدَ أَنْ يُنْهِيَ الْأَذَانَ، أَوْ قَالَهَا فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ بَدَلَ الحَيْعَلَتَيْنِ، فَتَكُونُ رُخْصَةً لَهُمْ بِأَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: «إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّـهِ، فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ»، قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ، فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟ قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي...» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

 

وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ –جبل قريب من مكة-، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ: «أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ، أَوِ المَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ. (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

 

وَيُشْرَعُ الجَمْعُ بِعُذْرِ المَطَرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَفَعَ عَنْ أُمَّتِهِ الحَرَجَ بِالْجَمْعِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ كَانَ «إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي المَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ».

 

 وَقَدْ جَاءَ عَنْ جَمْعٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي اللَّيْلَةِ المَطِيرَةِ، وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ آثَارٍ فِي ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لِلْمَطَرِ مِنَ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ المَعْمُولِ بِهِ فِي المَدِينَةِ زَمَنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

 

وَالمَطَرُ المُبِيحُ لِلْجَمْعِ هُوَ مَا يَبُلُّ الثِّيَابَ، وَتَلْحَقُ المَشَقَّةُ بِالْخُرُوجِ فِيهِ. وَأَمَّا الطَّلُّ وَالمَطَرُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يَبُلُّ الثِّيَابَ، فَلَا يُبِيحُ، وَالثَّلْجُ كَالمَطَرِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ الْبَرَدُ.

 

وَالشُّكْرُ عَلَى نِعْمَةِ الْغَيْثِ المُبَارَكِ وَاجِبٌ عَلَى الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُمْ وَرَفَاهِيَةَ عَيْشِهِمْ لَا تَكُونُ بِلَا مَاءٍ، وَمِنْ شُكْرِ اللَّـهِ -تَعَالَى- الِاعْتِرَافُ بِفَضْلِهِ فَيَقُولُ الْعَبْدُ: «مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّـهِ وَرَحْمَتِهِ» فَلَا يَنْسِبُ المَطَرَ لِغَيْرِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَيُسَخِّرُ هَذِهِ النِّعْمَةَ فِي طَاعَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَعْصِي اللهَ -تَعَالَى- وَهُوَ يَسْتَمْتِعُ بِرِزْقِهِ وَفَضْلِهِ.

 

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَ مَا رَزَقَنَا مِنَ الْغَيْثِ نَافِعًا مُبَارَكًا، وَأَنْ يُحْيِيَ بِهِ الْبِلَادَ، وَيَنْفَعَ الْعِبَادَ، وَأَنْ يُفَقِّهَنَا فِي دِينِنَا، وَيُعَلِّمَنَا مِنْهُ مَا جَهِلْنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمْنَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) [غافر:13].

 

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حِينَ يَجُودُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ بِالْغَيْثِ المُبَارَكِ يَخْرُجُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ -وَلَا سِيَّمَا الشَّبَابُ- لِرُؤْيَةِ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ وَهِيَ تَجْرِي بِالمَاءِ، فَيَقْلِبُ بَعْضُهُمْ سَاعَاتِ الْفَرَحِ إِلَى فَجَائِعَ وَمَصَائِبَ وَأَحْزَانٍ دَائِمَةٍ، بِتَهَوُّرٍ مَجْنُونٍ، وَمُغَامَرَاتٍ لَا تُحْسَبُ عَوَاقِبُهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُغَامِرُ بِقَطْعِ الْأَوْدِيَةِ سِبَاحَةً وَالمَاءُ يَجْرِي فِيهَا؛ لِيَنَالَ إِعْجَابَ مَنْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَيَعْلَقُ وَيَغْرَقُ وَيَهْلِكُ.

 

وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يُخَاطِرَ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُخَاطِرَ بِغَيْرِهِ، فَيَأْخُذُ أَصْحَابَهُ أَوْ أَهْلَهُ فِي سَيَّارَتِهِ لِيَقْطَعَ بِهِمْ وَادِيًا يَجْرِي، فَيَجْرِفُهُمُ السَّيْلُ وَطَمْيُهُ حَتَّى يُغْرِقَهُمْ، وَفِي سَنَةٍ مَضَتْ خَاطَرَ شَابٌّ بِأُمِّهِ وَأَخَوَاتِهِ فَجَرَفَ السَّيْلُ سَيَّارَتَهُ، وَمَاتُوا أَمَامَهُ، وَبَقِيَ حَيًّا لِيَعِيشَ الْحَسْرَةَ عَلَيْهِمْ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ وَقَدْ تَسَبَّبَ فِي قَتْلِهِمْ.

 

وَفِي كُلِّ عَامٍ يَسِيلُ النَّاسُ تَنْقَلِبُ أَفْرَاحُ بُيُوتٍ إِلَى أَحْزَانٍ بِسَبَبِ عَبَثِ بَعْضِ أَفْرَادِهَا، وَمُخَاطَرَتِهِمْ بِحَيَاتِهِمْ وَحَيَاةِ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا مِنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ ذَلِكَ.

 

وَمِنْ بَرَكَةِ الْأَمْطَارِ أَنَّهَا تَكْشِفُ الْفَسَادَ فِي إِنْشَاءِ المَشْرُوعَاتِ، وَتَعْبِيدِ الطُّرُقِ، وَتَصْرِيفِ السُّيُولِ. وَتُثْبِتُ أَنَّ الْأَمْوَالَ الطَّائِلَةَ الَّتِي أُنْفِقَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ المَشْرُوعَاتِ ذَهَبَتْ لِحسَابَاتِ أَشْخَاصٍ خَانُوا الْأَمَانَةَ، وَلَمْ تُسَخَّرْ فِيمَا يَخْدِمُ النَّاسَ، وَيُحَقِّقُ مَصَالِحَهُمْ، وَيَرْفَعُ مَعَانَاتِهِمْ؛ وَذَلِكَ مِصْدَاقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قَيلَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

فَوَيْلٌ لِمَنْ تَوَلَّى وِلَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إِمَارَةٍ أَوْ وِزَارَةٍ أَوْ إِدَارَةٍ ثُمَّ لَمْ يُؤَدِّ الْأَمَانَةَ فِيهَا حَتَّى تَهْلِكَ أَنْفُسٌ بِسَبَبِ خِيَانَتِهِ، وَتُهْدَرَ أَمْوَالٌ طَائِلَةٌ لِعَدَمِ أَمَانَتِهِ، وَيْلٌ لَهُ ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

 

أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

 

المرفقات
وينزل الغيث (6) أحكام وتوجيهات.doc
وينزل الغيث (6) أحكام وتوجيهات - مشكولة.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life