عناصر الخطبة
قصة الأحزاباقتباس
وأَخَذَ المسلمونَ يَحفرونَ ومعهم رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-، يَحْمِلُ التُّرابَ على ظهرِه الشّريف، وقد رَبَطَ الحَجَرَ على بطنِه مِن شِدّةِ الجوع، وفي تلك الأثناءِ تِجِلّتْ آيةٌ باهرةٌ...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
الحمدُ للهِ صَدَقَ وَعْدَه، ونَصَرَ عبدَه، وهَزَمَ الأحزابَ وحدَه، سبحانَه وبحمدِه، لا يُهزَمُ جندُه، ولا يُخلفُ وعدُه، ولا إلهَ غيرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه وسلمَ تسليمًا كثيرًا. أمّا بعدُ:
عبادَ الله: في غزوةِ الأحزابِ تَحَزَّبَ الأعداءُ مِن قريشٍ واليهودِ وبعضِ قبائلِ العرب، لِغَزْوِ المؤمنينَ في المدينةِ والقضاءِ عليهم، فعَلِمَ بذلك رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-، فشاورَ أصحابَه في أمرِهم، فأشارَ عليه سلمانُ الفارسيُّ -رضيَ اللهُ عنه- بِحَفْرِ خَنْدَقٍ حولَ المدينة، فأَمَرَ به رسولُ الله، وأَخَذَ المسلمونَ يَحفرونَ ومعهم رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-، يَحْمِلُ التُّرابَ على ظهرِه الشّريف، وقد رَبَطَ الحَجَرَ على بطنِه مِن شِدّةِ الجوع، وفي تلك الأثناءِ تِجِلّتْ آيةٌ باهرةٌ ومُعجزةٌ ظاهرة، لاحَتْ فيها شَجاعتُه -عليه الصّلاةُ والسّلام- وثِقَتُه بنصرِ اللهْ، فقد ظَهَرَتْ للصّحابةِ صخرةٌ كبيرةٌ كَسَّرَتْ معاولَهم وشَقّتْ عليهم، فذَهَبَ سلمانُ إلى رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فأَخْبَرَه عنها، فجاءَ -عليه الصّلاةُ والسّلام-، فأَخَذَ المِعْولَ وضَرَبَ الصّخرةَ ضَرْبَةً فقَطَعَ ثُلُثًا، وبَرَقتْ بَرْقَةٌ أَضَاءَتْ ما بينَ لابَتَيْها ـ يعني المدينة ـ حتّى كأنّها مِصْباحٌ في جوفِ ليلٍ مُظلم، فكَبَّرَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- تَكْبيرَ فَتْحٍ وكَبَّرَ المسلمونَ، وقال: "أُعطيتُ مفاتيحَ اليمن، إنّي لأُبْصِرُ أبوابَ صَنعاءَ مِن مَكاني السّاعة، وَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا".
ثمّ ضَرَبَ الثّانيةَ فقَطَعَ ثُلُثًا آخر، فخَرَجَ نُورٌ مِن قِبَلِ الرّوم، فكَبَّرَ رسولُ اللهِ وكبَّرَ المسلمون، وقال: أُعطيتُ مفاتيحَ الشّام، واللهِ إنّي لأُبصرُ قصورَها الحُمْرَ وأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا.
ثمّ ضَرَبَ الثّالثةَ فقَطَعَ بَقِيَّةَ الحَجَر، وبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فكَبَّرَ وكَبَّرَ المسلمون، وقال: "أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارس، واللهِ إنّي لأُبصرُ قصورَ الحِيرَةِ ومدائنَ كسرى في مكاني هذا، وإنّي لأُبصرُ قصرَ المدائنِ الأبيضَ الآن، وَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا"، وجَعَلَ رسولُ اللهِ يَصِفُ لسلمانَ أَماكنَ فارس، ويَقولُ سلمان: صَدَقْتَ يا رسولَ الله، هذه صفتُها، أَشهدُ أنّك رسولُ الله، أَشهدُ أنّك رسولُ الله.
فلمّا اقتربَ الأحزابُ عَظُمَ الخَطْبُ واشْتَدَّ الكَرْب، وتَكالبَ الأعداءُ مِن كلِّ حَدَبٍ وصَوْب، وكانَ المؤمنونَ على الحالِ التي وَصَفَ اللهُ -عزّ وجلّ- (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا).
وبدأَ المنافقونَ يَتسلّلونَ ويُرجفونَ ويُثبّطونَ ويَسخرونَ ويَقولون: نَحنُ نُخَنْدقُ على أَنفسِنا وهو يَعِدُنا قصورَ فارسَ والرّوم، فنَزَلَ فيهم (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) وأمّا المؤمنونَ فقد ثَبَّتَهم اللهُ فقالوا (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا).
فاتّقوا اللهَ -رحمَكم الله-، وثِقُوا بنصرِ الله، وأَنَّ العاقبةَ للمتّقين (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ * وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وكَفَى، وسلامٌ على عبادِه الذينَ اصطفى، أمّا بعدُ:
عبادَ الله: اتّقوا اللهَ حَقَّ التّقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
وفي هذه الأثناءِ العصيبة، يَجيءُ الخَبَرُ إلى رسولِ اللهِ أنّ يهودَ بني قُريظةَ نَقَضوا العهدَ وأنّهم يُريدونَ الإغارةَ على المدينة، فتَفَاقَمَ البلاء، واشْتَدَّ الخوفُ على الذّرَارِي والنّساء، فلمّا رأى رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ما أَصابَ النّاسَ مِن الجَزَعِ جَعَلَ يُبشّرُهم ويقول: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أَبْشِرُوا -يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ-، أَبْشِرُوا بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُفْرَجَنَّ عَنْكُمْ مَا تَرَوْنَ مِنَ الشِدَّةِ، وإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ العَتِيقِ آمِنًا، وَأَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ إِلَيَّ مَفَاتِيحَ الكَعْبَةِ، وَلَيُهْلِكَنَّ اللَّهُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَلَتُنْفَقَنّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ".
ولمّا طالَ الحصارُ واشْتَدَّ بالمؤمنينَ الأذى، أَخَذَ رسولُ اللهِ وأصحابُه يَتَضَرَّعونَ إلى ربِّهم ويَجْأرونَ إليه بالدّعاء.
فاشْدُدْ يَدَيْك بحبلِ اللهِ مُعتصمًا *** فإنّه الرّكنُ إنْ خانتْك أركانُ
فكانَ مِن دعائِه -عليه الصّلاةُ والسّلام-: "اللهمّ مُنزلَ الكتاب، سَريعَ الحساب، اهزِمِ الأحزاب. اللهمّ اهْزِمْهم وانْصُرْنا عليهم وزَلزلهم، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللهمّ اكْشفْ هَمّي وغَمّي وكَرْبي، فإنّك تَرى ما نَزَلَ بي وبأصحابي. اللهمّ أنت ربُّنا وربُّهم، ونحنُ عبيدُك وهم عبيدُك، نَواصينا ونَواصيهم بيدِك، فاهْزمْهم وانصرْنا عليهم".
وما زالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وأصحابُه يَدْعونَ ويَتضرّعونَ ويَستغيثونَ ربَّهم، حتّى اسْتجابْ اللهُ لهم.
أَتَهزَأُ بِالدُّعاءِ وَتَزدَريهِ *** وَما تَدري بِما صَنَعَ الدُّعاءُ
سِهامُ اللَيلِ لا تُخطِي وَلَكِن *** لَها أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ اِنقِضاءُ
ونَزَلَ جبريلُ -عليه السّلاُم- يُبَشّرُ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- بالفَرَجِ والنّصْر، فصارَ -عليه الصّلاةُ والسّلام- يَرفعُ يديْه ويَحمدُ ربَّه ويُثني عليه، فبَعَثَ اللهُ -تعالى- رِيحًا عاصفًا على المشركينَ لم تُجاوِزْ عَسْكرَهم، في ليالٍ شديدةِ البَرْدِ والظُّلمة، فقَلَبَتْ بيوتَهم، وقَطَعتْ أطنابَهم، وقَلَعَتْ أوتادَهم، وأَطْفَأَتْ نيرانَهم، حتّى وَلَّوْا مُدبرين.
زَعَمَتْ سَخِينَةُ أَنْ سَتَغْلِبَ رَبَّهَا *** وَلَيَغْلِبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلابِ
وأَرسلَ اللهُ إليهم الملائكةَ فزَلزلتْهم وأَلْقَتِ الرّعْبَ في قلوبِهم (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً).
اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْ أحزابَ الباطلِ في كلِّ مكان، اللهمّ قاتلِ الكفرةَ مِن أهلِ الكتاب، مِن اليهودِ والنّصارى ومَن ناصرَهم، الذينَ يُكَذّبونَ رُسُلَك، ويَصُدّونَ عن سبيلِك، ويُعادونَ دينَك، ويُقتّلونَ أولياءَك، اللهمّ عليك بهم فإنّهم لا يُعجزونَك، اللهمّ اشْدُدْ عليهم وَطْأَتَك، وارفعْ عنهم عافيتَك، وخالفْ بينَ كلمتِهم، واجعلْ بأسَهم بينَهم، اللهمّ زَلْزِلِ الأرضِ مِن تحتِ أقدامِهم، وأَنْزِلِ الرّعبَ في قلوبِهم، وأَرسلْ عليهم الرّيحَ العقيم، اللهمّ لا تَرْفَعْ لهم راية، واجعلْهم لمن خلفَهم آية، يا قويُّ يا عزيز.
اللهمّ الْطُفْ بإخوانِنا المستضعفينَ في غَزَّةَ وفلسطينَ وفي كلِّ مكان، اللهمّ إنَّهم حُفاةٌ فاحْملْهم، عُراةٌ فاكْسُهم، جِياعٌ فأَشْبعْهم، مَغلوبونَ فانْتصرْ لهم، اللهمّ انْصرْهم نصرًا مِن عندِك، وأَيّدْهم بجُنْدٍ مِن جُندِك، وما يَعلمُ جنودَ ربِّك إلا هو.
(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
(سُبحانَ ربِّك ربِّ العِزَّةِ عمّا يَصفون * وسلامٌ على المرسلين * والحمدُ للهِ ربِّ العالمين).
التعليقات