عناصر الخطبة
1/ صور لتناصر المؤمنين مدّ الأمكنة والأزمنة 2/ بيان الواقع لخذلاننا للمسلمين المستضعفين 3/ الاستعانة والاستنصار بالصبر والدعاءاهداف الخطبة
اقتباس
أين هذه الصورُ من النصرِ للمؤمنينَ، وما نراه اليومَ من خذلانِنا لهم؟ فها هي وسائلُ الإعلامِ تنقلُ يومياً وعلى الهواءِ مباشرةً، أحداثاً تُدمي القلوبَ، ووقائعَ تُبكي العيونَ، هناك يُقتلونَ حَرقاً، وهناك يموتون غَرقاً، هناك هدموا البيوتَ فأصبحت خرابا، وهناك قتلوا الطفلَ والكبيرَ والعجوزَ والشابَ، هناك أعراضُ الحرائرِ تُستباحُ، وهناك تُهدمُ مآذنُ تدعو إلى الفلاحِ، نساءٌ ترملت، وأطفالٌ تيتّمت، صوتُ صواريخَ ومدافعَ، دموع وآهات ومواجع، دماءٌ تسيلُ، من مذبوحٍ ومشنوقٍ وقتيلٍ، في سوريا ظلمٌ للعبادِ، في بورما تشريدٌ من البلادِ، وأما القدسُ فوصمةُ عارٍ في جبينِ التاريخِ، كل ذلك على مرأى ومسمعٍ من العالمِ كلِه...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ العليمِ القديرِ، القويِّ المتينِ، ذي العزةِ والملكوتِ والجبروتِ والكبرياءِ والعظمةِ، يَسوقُ الظالمينَ إلى هلاكِهم، ويُنجِّي المظلومينَ من بأسِهم، (فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للـهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [الأنعام:45].
نحمدُه على نعمِه وآلائه، ونشكرُه على فضلِه وإحسانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، حذَّرَ أمتَه من الظلمِ ومن الرُّكونِ إلى الظالمينَ، وأخبرَ عن مصارعِهم في الغابرينَ، وبشَّرَ بانتصارِ المظلومينَ، وأخبرَ أنَّ: "دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: وَعِزَّتِي! لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ".
صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه إلى يومِ الدِّينِ.
أما بعدُ:
تَبكِي وتَمسَحُ دَمعَهَا حَــلبُ *** وبقَلبِهَا من حُزنِها لَهَـبُ
حِقْـــدُ النُّصَيْريينَ يُشــعِلها *** والجَاِمــــعُ الأمَـوي يَنتحِبُ
حلبٌ وتحلِفُ أَلفُ قَـاذِفَةٍ *** أنَّ الطُّـــغاةَ بِأمنِها لَعِـــــبوا
والغَربُ يشْـربُ كأسَ سَكرَتِهِ *** وبمِــثلِها يَتَضلَّعُ العَرَبُ
يا قَلعةَ الشَّهـــبَاءِ لا تَهِنِي *** فالنَّصْــرُ والتَّمكِينُ يَقتَـرِبُ
لا تَجزَعِي فَالظَّالـــــمُونَ لهم *** يومٌ منَ الخـــذْلانِ مُرْتَقَبُ
النَّصرُ عندَ الله يمنَـحُهُ *** للصَّابِرِينَ إذا هُـــــم احتَسبُوا
اللهُ يهِـزمُ كُلَّ ذِي صَــلَفٍ *** فَتَعــلَّقِي باللهِ يا حَـلبُ
عَنْ سَائِبَةَ مَوْلاةِ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، فَرَأَتْ فِي بَيْتِهَا رُمْحًا مَوْضُوعًا، فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا؟ قَالَتْ: "نَقْتُلُ بِهِ هَذِهِ الأَوْزَاغَ، فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ تَكُنْ فِي الأَرْضِ دَابَّةٌ إِلاأَطْفَأَتْ النَّارَ، غَيْرَ الْوَزَغِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْفُخُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِقَتْلِه".
ليسَ الحديثُ -يا أهلَ الإيمانِ- في قتلِ حشرةٍ ضارةٍ فَحَسْب، إنما الحديثُ في تلك الصلةِ العظيمةِ، والعلاقةِ الحميمةِ، بين أهلِ الإيمانِ، فمهما تباعدَ المكانُ، ومهما طالَ الزمانُ، فتبقى النُصرةُ للمؤمنينَ، ولو كان العدو حشرةً لا تَعقِل، فها هو الخليلُ -عليه السلام- في النارِ وحيداً، قد جعلَها اللهُ -تعالى- عليه برداً وسلاماً، فترى الدوابَّ كلَها تطفئُ النارَ إلا الوزغَ، فإنه ينفخُ فيها لتزدادَ اشتعالاً! فما هو شعورُك بعدَ ذلك عندما ترى الوزغَ، ثم تتذكرُ تلك الحادثةَ الأليمةَ، والأيادي اللئيمةَ، التي أوقدت ناراً عظيمةً، لرجلٍ حذّرَهم فأخلصَ، ونصحَهم فصدقَ؟ (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء:66-67].
هناك تتحركُ فيك المشاعرُ الصادقةُ، والأخوةُ الإيمانيةُ، فتسارعُ إلى قتلِ تلك الحشرةِ؛ إيماناً باللهِ -تعالى-، واحتساباً للثوابِ؛ ولذلك جاء في الحديثِ: "مَنْ قَتَلَ وَزَغًا فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ، وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ".
رجلٌ من العظماءِ سمعَ بأن أصحابَ القريةِ قد كذّبوا الأنبياءَ، فجاءَ يسعى مسرعاً من أطرافِ المدينةِ نُصرةً لأهلِ الإيمانِ: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ) [يس:20-21]، ثم بيّنَ لهم الحقَ، ودعاهم إلى عبادةِ ربِ الخلقِ، فقال: (وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) [يس:22-25]، فقتلوه، فماتَ شهيداً، فأخبرنا اللهُ -تعالى- برجولتِه، وخلّدَ ذكرَه حياً وميتاً في كتابٍ يتلوه المؤمنونَ ليلاً ونهاراً؛ تكريماً لرجلٍ نصرَ المؤمنينَ بما يستطيعُ: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس:26-27]. فهنيئاً له!.
في مجلسِ العنادِ والجُحودِ، يجلسُ فرعونُ بينَ الجنودِ، فيقولُ كلماتٍ كاذبات: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26]، فإذا بمؤمنٍ يكتمُ إيمانَه، ولا يمنَعُه أنه في مجلسِ أعظمِ طاغيةٍ، وأنه وحيد بين هؤلاءِ الكافرينَ، أن يُدافعَ عمّن تجمعُه معه صفةُ الإيمانِ: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر:28].
ثم ذكّرَ قومَه بنِعمِ اللهِ عليهم، وخوّفَهم من عقابِه، (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) [غافر:29]، (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [غافر:30-33].
أرادَ لقومِه الخيرَ والفلاحَ، وأرادوا له الخسارةَ والهلاكَ: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) [غافر:41]، فلما لم يستجيبوا لندائِه الصادقِ، قال: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر:44]. فشكرَ اللهُ -تعالى- لك، فقد أديتَ الأمانةَ، وقمتَ بما عليك من النصرِ والإعانةِ، ولا يكلفُ اللهُ -تعالى- نفساً إلا وسعها.
واسمعوا إلى مقارنةٍ بين هذا المؤمنِ وبين صدّيقِ هذه الأمةِ، عن عليِ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- قالَ: "أيها الناسُ، أخبروني بأشجعِ الناسِ"، قالوا: أنت يا أميرَ المؤمنينَ، قالَ: "أما أني ما بارزتُ أحداً إلا انتصفتُ منه، ولكن أخبروني بأشجعِ الناسِ"، قالوا: لا نعلمُ، فمَنْ؟ قالَ: "أبو بكرٍ -رضي الله عنه-، إنه لما كانَ يومُ بدرٍ جعلنا لرسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عريشاً، فقلنا: من يكونُ مع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لئلا يهوي إليه أحدٌ من المشركينَ؟ فواللهِ! ما دنا منه إلا أبو بكرٍ شاهراً بالسيفِ على رأسِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لا يهوي إليه أحدٌ إلا أهوى إليه، فهذا أشجعُ الناسِ".
فقالَ عليٌ: "ولقد رأيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وأخذته قريشٌ فهذا يجأُه، وهذا يتلتلُه، وهم يقولونَ: أنت الذي جعلتَ الآلهةَ إلهاً واحداً؟! قالَ: فو اللهِ ما دنا منه أحدٌ إلا أبو بكرٍ، يضربُ هذا، ويجأُ هذا، ويتلتلُ هذا، وهو يقولُ: ويلَكم! أتقتلونَ رجلاً أن يقولَ ربي اللهُ؟".
ثم رفعَ عليٌّ بردةً كانت عليه فبكى حتى اخضلّتْ لحيتُه، ثم قالَ: "أنشدُكم باللهِ! أمؤمنُ آلِ فرعونَ خيرٌ أم أبو بكرٍ؟"، فسكتَ القومُ، فقالَ: "ألا تجيبوني؟ فو اللهِ! لساعةٌ من أبي بكرٍ خيرٌ من ملءِ الأرضِ من مؤمنِ آلِ فرعونَ، ذاك رجلٌ كتمَ إيمانَه، وهذا رجلٌ أعلنَ إيمانَه".
ورجلٌ عظيمٌ قد يكونُ هو صاحبنا الأول أو غيره، لا نعرفُه، ولكن اللهَ -تعالى- يعرفُه، سمعَ بمؤامرةٍ لقتلِ مؤمنٍ من المؤمنينَ ونبيٍ من الأنبياءِ، فلم يمنعْه بُعدُ المكانِ، وخطورةُ المُهمةِ، من أن يبادرَ مُسرعاً مُحذراً من كيدِ الكافرينَ؛ نُصرةً لأهلِ الإيمانِ، (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [القصص:20]، خطواتٌ مباركاتٌ، وكلماتٌ في كتابِ اللهِ محفوظاتٌ. فجزاه اللهُ -تعالى- عن المؤمنينَ خيرَ الجزاءِ.
فُتحت مكةُ نُصرةً للمؤمنينَ، فلما تصالحَ النبيُ -عليه الصلاة والسلام- مع قريشٍ، فَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- فنقضت قريشٌ العهدَ بقتالِهم لخُزَاعَةَ مع بني بكرٍ، جاءَ رجلٌ من خُزَاعَةَ يقالُ له عَمْرو بْنُ سَالِمٍ إلى المدينةِ يستنصرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْن سَالِمٍ! نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْن سَالِمٍ". ثُمّ عَرَضَ لِرَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ فَقَالَ: "إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ"؛ فكانَ ما كانَ من فتحِ مكةَ.
كُشفت عورةُ امرأةٍ مسلمةٍ فكادَ أن يُقتلَ يهودُ بني قينقاعٍ كلهم لولا جدالُ المنافقِ عبدِ اللهِ بنِ أُبي بنِ سلولٍ ودفاعه عنهم، فاكتفى النبيُ -صلى الله عليه وسلم- بطردِهم من المدينةِ إلى الشامِ.
صرخت امرأةٌ مسلمةٌ تنادي خليفةَ ذلك الزمانِ: وامعتصماه! ففُتحتْ عموريةُ.
فُتحت القدسُ بعدَ أبياتٍ أُرسلت إلى صلاحِ الدينِ رحمَه الله -تعالى-:
يَا أَيُّهَا المَلِكُ الذي ** لِمَعَالِمِ الصُّلْبَانِ نَكَّس
جَاءَت إِلَيْكَ ظُلامَةٌ ** تَسْعَى مِنَ البَيْتِ المُقَدَّس
كُلُّ المَسَاجِدِ طُهّرَت ** وَأَنَا عَلى شَرَفِي أُدَنَّس
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ القائلِ: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ) [الروم:47]، وصلى اللهُ وسلمَ على نبيِنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، وعدَه اللهُ وأمتَه بالنصرِ في الدنيا والآخرةِ في قولِه -تعالى-: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَـادُ) [غافر:51].
أما بعد: قد يقولُ قائلٌ ويَصدقُ: أين هذه الصورُ من النصرِ للمؤمنينَ، وما نراه اليومَ من خذلانِنا لهم؟ فها هي وسائلُ الإعلامِ تنقلُ يومياً وعلى الهواءِ مباشرةً، أحداثاً تُدمي القلوبَ، ووقائعَ تُبكي العيونَ، هناك يُقتلونَ حَرقاً، وهناك يموتون غَرقاً، هناك هدموا البيوتَ فأصبحت خرابا، وهناك قتلوا الطفلَ والكبيرَ والعجوزَ والشابَ، هناك أعراضُ الحرائرِ تُستباحُ، وهناك تُهدمُ مآذنُ تدعو إلى الفلاحِ، نساءٌ ترملت، وأطفالٌ تيتّمت، صوتُ صواريخَ ومدافعَ، دموع وآهات ومواجع، دماءٌ تسيلُ، من مذبوحٍ ومشنوقٍ وقتيلٍ، في سوريا ظلمٌ للعبادِ، في بورما تشريدٌ من البلادِ، وأما القدسُ فوصمةُ عارٍ في جبينِ التاريخِ، كل ذلك على مرأى ومسمعٍ من العالمِ كلِه، حتى صدقَ فينا قولُ الشاعرِ:
لِي فِيكَ يا ليلُ آهَاتٌ أُردِّدُها *** أوَّاهُ لو أَجْدتِ المَحزونَ أوَّاهُ
إنِّى تَذَكَّرتُ والذِّكرَى مُؤَرِّقَةٌ *** مَجدًا تَلِيدًا بَأيدِينَا أَضعنَاهُ
أنَّى اتَّجَهتَ إِلى الإسلَام فِي بَلَدٍ *** تَجِدْهُ كالطَّيرِ مَقصُوصًا جَناحَاهُ
كَم صرَّفَتْنَا يَدٌ كُنّا نُصرِّفُها *** وبَاتَ يَملِكُنَا شَعبٌ مَلكنَاهُ
عبادَ اللهِ: الصبرُ هو سبيلُ الشعوبِ الذين لا يملكونَ قتالاً، فلا ينبغي الاستعجالُ ولا التَّهورُ؛ فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ -رضي الله عنه- قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِه،ِ وَاللَّهِ! لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْر حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَو الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
وسلاحُنا هو الدعاءُ، وهو السلاحُ الذي لا تحجبُه السماءُ، يستطيعُه الجميعُ، وله أثرٌ بديعٌ، دعا النبيُ -صلى الله عليه وسلم- للمستضعفينَ من المؤمنينَ شهراً: "اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"، وإذا بهم يقدمونَ عليه المدينةَ وقد أنجاهم اللهُ -تعالى-.
إنها دعوةُ المَظلومِ التي "تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: وَعِزَّتِي! لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ".
قالَ جَعفر لأبيه يحيى بن خالدٍ البَرمَكي وزيرِ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ، وهُمْ في القيودِ والحَبْسِ: يا أبتِ، بعدَ الأمرِ والنَّهيِ والأموالِ العظيمةِ، أصارَنا الَّدهرُ إلى القُيُودِ ولُبسِ الصُّوفِ والحَبْسِ؟ فقالَ له أبوه يحيى: يا بُنيَّ، لَعلَّها دعوةُ مظلومٍ، سَرَتْ بليلٍ غَفَلنا عنها، ولم يَغْفُل اللهُ عنها.
أَتَهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيهِ *** وَمَا تَدْرِي بِما صَنَعَ الدُّعَاءُ
سِهَامُ اللَّيلِ لا تُخْطِي وَلَكِنْ *** لها أمدٌ وللأمدِ انقضاءُ
اللهمَّ ربنا لا نشركُ بك شيئاً، عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إلهَ غيرُك، اللهم فارجَ الهمِ، وكاشفَ الغم، مجيبَ دعوةِ المضطرين، اللهم اجعل لإخواننا المسلمينَ من كلِ همٍ فرجاً، ومن كلِ ضيقٍ مخرجاً، ربنا مسَهم الضرُ وأنت أرحمُ الراحمينَ، اللهم تولَّ أمرَ إخوانِنا في كلِ مكانٍ بلطفِك ورحمتِك وكرمِك إنك على كل شيء قدير، لا إله إلا أنتَ سبحانك إنا كنا من الظالمينَ.
إنا نسألُك بأسمائك الحسنى وصِفاتِك العليا، بكلِّ اسمٍ سميتَ به نفسَك أو استأثرتْ به في علمِ الغيبِ عندَك، يا قيومَ السماواتِ والأرضِ، يا ذا العرشِ المجيدِ، ويا الفعّال لما تُريدُ، يا من إذا أردْتَ شيئاً فإنما تقولُ له كنْ فيكونُ، اللهمّ يا وليَّ المؤمنين، وناصرَ المستضعفين، وقاصمَ الجبارينَ والمجرمينَ والمتكبرينْ، ويا صاحبَ صفاتِ الجلالِ والعظمةِ والكمالِ، يا من تعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدورُ، ولا يخفى عليك شيءٌ في السماواتِ والأرضِ وما بينهما، اللهمّ إنا نسألُك برحمتِك وقوتِك وقدرتِك أن تجعلَ لإخوانِنا المسلمينَ من لدنكَ ولياً، وأن تجعلَ لهم من لدنْكَ نصيرا.
اللهمّ إنه قد عزَّ الناصرُ، وطغى الكافرُ في أرضِ المسلمينَ، وتجهّمَنا القريبُ والبعيدُ، ولا منجى ولا ملجأ إلا إليكَ يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم إليك نشكو ضعفَ قوتِنا، وقلةَ حيلتِنا وهوانَنا على الناس، اللهم إلى من تكلُ إخوانَنا المسلمينَ؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمُهم؟ أو إلى عدوٍّ ملكتَه أمرَهم؟ اللهم إن لم يكن بك علينا وعليهم غضبٌ فلا نبالي، نعوذُ بنورِ وجهِك الذي أشرقتْ له الظلماتُ، وصلحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ، من أن تنزلَ بنا سخطَك، أو تحلّ علينا غضبَك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك يا ربَّ العالمينَ ويا ناصرَ المستضعفينَ.
اللهمَّ إنه قد غُلِّقتْ الأبوابُ إلا من بابِ رحمتِك، وانقطعَ الرجاءُ إلا منك، وقلَّتْ الحيلُ يا الله إلاّ من عونِكَ ومساندتِك، اللهم فكنْ لإخوانِنا خيرَ معينٍ يا رب العالمين، وكن لهم وليّاً ونصيراً وحامياً ومغيثاً يا ربَّ العالمينَ، اللهم هيّئْ لهم أسبابَ النصرةِ والمناصرةِ والمؤازرةِ والتمكينِ في الأرضِ.
اللهمَّ انصر الإسلامَ والمسلمينَ، وأعل رايةَ الإسلامِ فوقَ كلِّ الراياتِ، اللهمَّ من أرادَ بأمةِ الإسلامِ سوءًا ومكراً فامكر به وخذه أخذَ عزيزٍ جبارٍ، اللهمَّ وأرنا فيه يوماً كيومِ فرعونَ وهامانَ وقارونَ، يا صاحبَ القوةِ والجبروتِ، اللهمَّ ثبتنا بالقولِ الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ، وأحسنْ عاقبتَنا في الأمورِ كلِّها، وأجرنا من خِزي الدُّنيا وعذابِ الآخرةِ.
التعليقات