عناصر الخطبة
1/ وعد الله بنصر المؤمنين 2/ نموذج من السيرة النبوية 3/ تصحيح مفهوم النصر والهزيمةاهداف الخطبة
اقتباس
عجَبٌ! كيف تعشو الأبصارُ عن رؤية هذه الحقيقةِ في كتاب الله -جل جلاله-، وقد أكّدها سبحانه في مواطن كثيرة؟! وكيف تغيب هذه الحقيقة عن أذهان من يقرأون سنةَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرتَه؟! هل في خبر الله ورسوله شك؟ أم في وعده سبحانه إخلاف؟! معاذَ الله! ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم!.
أمّا بعد: فإن من أعظم ما يُقعد النفسَ عن العمل، ويَـثُل عزائمَها عن السعي لمرامها: اليأسَ والقنوط. فما أعقبتْ هذه الآفةُ إلا الخوَرَ، والكسَلَ، والعجْزَ، وفتورَ العزم، وهزيمةَ النفس. ولا تستحكم هذه الآفةُ في القلب إلا إذا كان ضعيفَ اليقين، رقيقَ الإيمان، قليلَ الصبر.
ألا وإن من أخطر ما يقع من اليأس في النفوس: اليأسَ من وعْد اللهِ ونصرتِه لأوليائه، واستعلاءِ كلمة الحق على الباطل، وظهورِ دين الإسلام، وانفراجِ الكرب، فإن هذا اليأس لا يزيد الشر إلا استفحالاً، ولا يزيد الخيرَ إلا استقلالاً. وبه تستحيل القوة ضعفاً، والعزةُ ذلاً وهواناً، والتفاؤلُ تشاؤماً، والكَوَرُ حَوَراً، والعزمُ فتوراً وخوَراً.
ولكنّ اليأسَ والقنوطَ لا يعرفان سبيلاً إلى قلوب المؤمنين الموقنين بوعد الله -جل جلاله- بنصرة أوليائه وإظهارِ دينه مهما اشتد الظلام، وتظاهر الأعداء على محاربة الإسلام؛ لأنهم يرون الحقيقةَ التي تطرد عنهم اليأسَ والقنوطَ، وتدفعُ عنهم دواعي الشك والارتياب. إنهم يرون الحقيقةَ قائمةً تصدع بها آياتُ الكتاب الحكيم، وتصرِّح بها أحاديثُ السنة الصحيحة، في تكرار يقصد به التأكيد والتذكير.
إنها الحقيقة التي إذا أيقن بها القلب وآمن قويتْ عزائمُه على الحق، والعملِ له، والدعوةِ إليه، والصبرِ في سبيل ذلك، إنّها حقيقةٌ عجيبةٌ تُضفي على القلب الشعورَ بالعزة والكرامةِ والقوة، هي الحقيقةُ التي تطرد عن المرء الحزنَ عند المحن، والضجرَ والقلقَ في ساعة القوة والضيق.
إنها وعدُ الله بنصرة أوليائه، وإظهارِ دينه، وإعلاءِ كلمته، وغلبةِ الحق على الباطل، وتبديدِ نور الحق لظلمة الضلال.
عجَبٌ! كيف تعشو الأبصارُ عن رؤية هذه الحقيقةِ في كتاب الله -جل جلاله-، وقد أكّدها سبحانه في مواطن كثيرة؟! وكيف تغيب هذه الحقيقة عن أذهان من يقرأون سنةَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرتَه؟! هل في خبر الله ورسوله شك؟ أم في وعده سبحانه إخلاف؟! معاذَ الله! ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم!.
إن إيمانَ المؤمنين بهذا الوعد ليس دون إيمانهم بالآخرة في درجة اليقين؛ لأنهم قد استقوا ذلك كلَّه من خبر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فكان اليقين فيها واحداً متضارعاً في القوة والكمال.
انظر كم قرّر الله هذه الحقيقةَ في كتابه بأبلغ بيان وأؤكده:
(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21].
(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:56].
(وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47].
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51].
وأخرج أحمد بسند صحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ليبلغنّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ بعزّ عزيزٍ، أو بذُلِ ذليل، عزاً يُعزُّ به الإسلامَ، وذلاً يذل به الكفر).
إن المستيقن بهذا الوعد الصادق، وإنْ رأى الأعداء قد تمالئوا اليوم على محاربة الإسلام، واضطهادِ المؤمنين، وتجفيفِ المنابع، وإشاعةِ الفساد بين المسلمين، وإغوائهم إليه، وتسهيلِ سبله وأسبابِه، وتقويضِ أسباب الصلاح، والتنكيلِ بالدعاة، والتضييقِ على المصلحين ـ فإنهم -وإنْ تمالئوا على ذلك وتظاهروا- فإن ذلك كلَّه لا يجعل المؤمنَ يرتابُ في وعد الله -جل جلاله- بنصرة دينه وأوليائه، فضلاً عن أن يشكَّ في عقيدته، أو يساومَ على دينه؛ لأنه يجد في كتاب الله وأخبارِ رسوله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الرسلَ والأنبياءَ قد أُوذوا أكثر مما أُوذي المسلمون اليوم، وتداعى عليهم أعداؤهم كما تداعى أعداء الإسلام اليوم، أو أشدّ، وحاربوا دعوةَ رسلهم بكل ما استطاعوا، ونكّلوا باتباعهم، وطردوهم، وشرّدوهم، وساموهم سوء العذاب. ثم كان ماذا؟! ثم كانت العاقبةُ للرسل ولدعوتهم، ونصرَ اللهُ دينَه ورسلَه وأولياءَه، (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا، كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:103].
وهل يجهل أحدٌ ما لاقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قومه في تبليغ دعوته؟! أم هل يجهل أحد ما بذله كفارُ مكة لإخماد دعوته واخمال ذكره؟! أَمَا إنهم لما يألوا في سبيل ذلك جهداً، ولم يدَّخروا فيه وسعاً، بل مكروا في ذلك مكرَهم، وسعوا في ذلك سعيَهم، حتى وصموه بأقذع الألقاب وأسفّ الأوصاف، وهم الذين كانوا يلقبّونه قبل بعثته بالأمين، ويأتمنونه على أموالهم.
لم يتركوا سبيلاً في محاربة دعوته والقضاء عليها إلا سلكوها، منعوا الناس من الاستماع لدعوته، وآذوا مَنْ يجالسُه، وعذَّبوا اتباعه، بل اعتدوا على جسده الطاهر، فشجّوا رأسَه، وكسروا رباعيته، وأَدْمَوا وجهه الشريف، ووضعوا سَلَى الجزور على ظهره.
لقد جربوا كل شيء في سبيل ذلك، حتى ابتدعوا طريقةً ظنوا أن فيها استئصال دعوته -صلى الله عليه وسلم-، فتمالئوا على أن يقاطعوا بني هاشم مقاطعةً عامةً، ففرضوا عليهم حصاراً اقتصادياً واجتماعياً، حتى يسلموا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- للقتل، فانحاز -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين وبني هاشم إلى الشعب، فلبثوا فيه ثلاث سنين كالحةً، ذاقوا فيها السغب والتعب.
وتوالت مكائدهم في محاربة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعوته، حتى اجترأوا فتآمروا على قتله، (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30].
لقد فعل المشركون ما وسِعهم أن يفعلوه، وبذلوا ما استطاعوا أن يبذلوه في سبيل القضاء على الإسلام وأهله، فهل استطاعوا ذلك؟! وهل نالوا من الإسلام ما يريدون؟!!
إن انتشارَ الإسلام على مدى تلك القرون المتطاولة من عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا كفيلٌ في الجواب عن هذا.
فليفعل أعداءُ الإسلام ما شاءوا، وليمكروا لحرب الإسلام مكرَهم، وليجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، وليؤلِّبوا عليه مَنْ بأقطارها، فإن الله غالبٌ على أمره، ومتمٌ نوره، ومظهِرٌ دينه.
وما أمر هؤلاء إلا كما قال -جل جلاله-: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:32-33].
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن وعد الله لا يُخلف، ونصرَه لا يتخلف، تلك سنة ربانية ثابتة، لا تبديل لها ولا تحويل. ولئن كان واجباً على النفوس أن تستيقنَ بهذه السُنة -من نصر الله لأوليائه وانتصاره لدعوتهم-فإنه لا سبيل لها لهذا الاستيقان حتى تدركَ حقيقةَ النصر، وتحيطَ بصوره وأنواعه.
ومتى قَصَرتْ النفس معنى النصر على صورة معهودة مختزلة في الأذهان فلن تستيقن بتلك السُنة الربانية مطلقاً؛ لأنها -بلا شك- حين تقصر صورة النصر على معنى واحدٍ قريبٍ؛ فإنّها ستجد هذا المعنى متخلفاً في وقائع كثيرة.
يقول الأديب سيد قطب رحمه الله: "إن وعد الله قاطع جازم، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد. يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم ممن يُقتل، ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً، وأن المؤمنين فيهم مَن يسام العذاب، ومنهم من يُلقى في الأخدود، ومنهم من يستشهد، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟!!.
ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل. ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويضلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان، وحيز محدود من المكان. وهي مقاييس بشرية صغيرة. فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر، ولا بين مكان ومكان.
ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال، لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها، ويختفوا هم ويبرزوها.
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظر القصيرة.
إبراهيم -عليه السلام- وهو يُلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته، ولا عن الدعوة إليها. أكان في موقف نصر، أم في موقف هزيمة؟ ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمّة النصر وهو يُلقى في النار، كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد، فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب.
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة، التي كتبها بدمه، فتبقى حافزاً محرّكاً للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كلِّه على مدى أجيال.
ما النصر وما الهزيمة؟، إننا بحاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور ومن القيم قبل أن نسأل: أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا؟!" أ.هـ.
على أن المؤمن -وإن كان موقناً بوعد الله ونصرته لدينه وإعلاء كلمته- فإن هذا لا يدعوه إلى التواكل والتكاسل عن الدعوة إلى دين الله، أو عن الغيرة عليه، وحراسة شعائره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بكلمة الحق. وإنما يحضُّه ذلك على العمل والبذل، وينفث في روعه روح التفاؤل، ويحيى في نفسه العزمَ والحزمَ وقوةَ الهمة والإرادةِ، ويطرد عنه اليأسَ والفتورَ والتشاؤم.
وهو -إن أيقن بانتصار الله لدينه- فهو يسعى لينال شرفَ نصرةِ دين الله -جل جلاله-، حتى يفوز برضى الله ومغفرته.
وهو يعلم كذلك أنه إن لم ينصر دين الله فإن الله -جل جلاله- يقيِّض لدينه أنصاراً سواه.
اللهم أنصر كتابك وسُنّةَ نبيك وعبادَك المؤمنين؛ اللهم استعملنا في طاعتك، ووفقنا لرضائك.
التعليقات