عناصر الخطبة
1/بعض جرائم ومذابح التتار في حق المسلمين 2/أهمية التـأمل في أيام الله والتذكير بها 3/بعض السنن الإلهية المتعلقة بأيام الله 4/بعض أسباب الهلاك التي تجري بها السنن الإلهية 5/السنة الإلهية في موجبات النصر والتمكين 6/الإسلام منصور وبعض صفات الطائفة المنصورة 7/لا خوف على الإسلام إنما الخوف على المتخلفين عنهاهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: إن تاريخ البشر حافل بأقدار من الخير والشر دارت بشأنها سنن، وجرت بسببها ابتلاءات، وحصلت بعدها تغيرات في أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم، فما أشد احتياجنا في أزمنة الشدائد إلى النظر في الثوابت الشرعية، والسنن الإلهية، لنقيس عليها الأمور، ونعتبر بها في التغيير، وننطلق منها في التأملات والتوقعات والتحليلات، ومن ثم في...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
كان شهر رمضان وما يزال رمزاً للعطاء والبذل في كل ميدان، وقد عرف المسلمون وعلى مدار تاريخهم أن رمضان شهر الجهاد والفتوحات، امتن الله -عز وجل- على الأمة فيها بأحلى انتصاراتها في أصعب وأقسى أيامها، ولله الفضل والمنة.
أيها المسلمون: لقد مر بالمسلمين أياماً سالفة في رمضان كانت من أصعب الأيام عليهم، وذلك عندما جاء التتار بخيلهم ورجلهم جاؤوا بجيش لا يعرف أين أوله وأين آخره، وكان ذلك في رمضان عام 658هـ، حين دخل التتار ديار المسلمين، دخلوا أرض الشام، فخربوا ودمروا، وذبحوا وشردوا وعزموا بعد ذلك النصر المؤقت الذي حققوه أن يتوجهوا إلى الديار المصرية.
فبلغ الملك المظفر قطز -رحمه الله- ما كان من أمر التتار على الديار الشامية، وعزمهم بالتوجه للديار المصرية، فبادرهم قبل أن يبادروه، وبرز إليهم، وأقدم عليهم قبل أن يُقدموا عليه، حتى انتهى إلى الشام، فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان.
فلما رأى قطز عصائب التتار، قال للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم، حتى تزول الشمس، وتفيء الظلال، وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم.
فالتقى الفريقان، واقتتلوا قتالاً عظيماً، والمسلمون في بلاد المسلمين يدعون لإخوانهم المجاهدين في ذلك اليوم الفاضل يوم الجمعة، وأبلى المسلمون بلاءً عجيباً، في مقدمتهم ملكهم المظفر قطز -رحمه الله-، فقُتل جواده الذي كان يقاتل عليه، فترجل وبقي واقفاً على الأرض ثابتاً، والمعركة في أوج احتدامها، وهو في موضع السلطان في القلب، فلما رآه بعض الأمراء ترجل عن فرسه، وحلف على السلطان ليركبنّها، فامتنع قطز، وقال لذلك الأمير: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، ولم يزل كذلك، حتى جاؤوه بالخيل، فركب، ولامه بعض الأمراء من امتناعه الركوب منذ البداية، وقال له: فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك.
فقال رحمه الله: أما أنا، فكنت سأذهب إلى الجنة، وأما الإسلام، فله رب لا يضيعه، وقد قتل فلان وفلان وفلان، حتى عدّ خلقاً من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضيع الإسلام.
إنها كلمات خالدة، قالها الملك المظفر قطز -رحمه الله- يسطرها للتاريخ كانت من المسلّمات عندهم، نعم لقد مات فلان وفلان ممن كان لهم شأن في الإسلام، فهل ضاع الدين؟
لا ولن يضيع الدين؛ لأنه دين الله -عز وجل- ليس دين فلان أو فلان، والإسلام غير مرتبط بأشخاص إذا ماتوا أو ذهبوا ضاع الدين معهم، ولا أيضاً مرتبط بدولة إذا ذهبت ضاع الإسلام معها، بل هو دينه سبحانه يظهره متى شاء: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف: 9].
وعلى أيدي من يشاء: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].
البعض يظن جهلاً: بأن الدين مرتبط بجهة معينة، أو أن التعاليم الإسلامية لا بد أن تؤخذ من مصدر واحد لا يتغير، وهذا غير صحيح، فليس في الإسلام نظام الكهنوت، وإنما الشرع يؤخذ من كل من فقهه، وتكلم بعلم، وكان كلامه صحيحاً، موافقاً للدليل، بغض النظر عن لونه أو بلده أو جنسيته.
فماذا حصل بعد ذلك؟ وكيف انتهت المعركة؟
صبر الملك المظفر قطز ومن معه من المسلمين، فنصرهم الله -جل وتعالى-، وهُزم أعدائهم هزيمة هائلة، وقُتل أمير المغول وجماعة من بيته، ولحق الجيش الإسلامي بالتتار يقتلونهم في كل موضع، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب وهرب من بدمشق منهم، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم، وفرح المسلمون بنصر الله فرحاً شديداً، وأيّد الله الإسلام وأهله تأييداً عظيماً، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين، وظهر دين الله وهم كارهون.
فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة للنصارى التي خرج منها الصليب، فانتهبوا ما فيها وأحرقوها، وألقوا النار فيما حولها، فاحترق دور كثيرة للنصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً.
ثم جيء برجل رافضيٍ عجوز، وقتل وسط العامة؛ لأنه كان خبيث الطوية، مصانعاً للتتار على أموال الناس، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 45].
أيها المسلمون: إن تاريخ البشر حافل بأقدار من الخير والشر دارت بشأنها سنن، وجرت بسببها ابتلاءات، وحصلت بعدها تغيرات في أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم، فما أشد احتياجنا في أزمنة الشدائد إلى النظر في الثوابت الشرعية، والسنن الإلهية، لنقيس عليها الأمور، ونعتبر بها في التغيير، وننطلق منها في التأملات والتوقعات والتحليلات، ومن ثم في التحركات والتصرفات، وأداء الواجبات.
فالأيام لا تزال تتوالى بجديد، بين خير وشر، ونفع وضر، ومحن ومنح، يُختبر بها العالمون: (لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) [المائدة: 94].
ومخافة الله بالغيب، تعني: لالتزام بطاعته طمعاً في ثوابه وخوفاً من عقابه، وهذا لا يكون إلا بالإذعان لأحكامه الشرعية الدينية، والإيمان بأحكامه القدرية الكونية.
والله -تعالى- أراد من عباده أن يفقهوا سننه الكونية، مثلما هداهم إلى سننه الشرعية، فقال سبحانه: (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النساء: 26].
أيها المسلمون: إن من سنن الله التي تجري عليها الوقائع والحوادث، هي المسماة في القرآن: بأيام الله، وكما أن السنن تحتاج إلى من يستخرجها، ويعرِّف بها، فإن أيام الله تحتاج إلى من يلحظها، ويذكِّر الناس بها، وهي تجري على البر والفاجر، والمؤمن والكافر، قال تعالى عن نبيه موسى -عليه السلام-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم: 5].
ومعنى أيام الله وقائع الله في الأمم السالفة، والأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية.
إن أيام الله هي تفسير لسنن الله، فتلك السنن ليست معاني مجردة، أو افتراضات محضة، بل هي حُكم وتطبيق، ودرس وشرح، وعظة وعبرة، ولكن ها هنا أيضاً معنى أعظم، يحتاج إلى تأمل وتدبر وهو أن أيام الله التي تُفسِر سنن الله ليست ماضية فقط، بل هي حاضرة أيضاً ومستقبلة، فكما جرت بشأن السنن أيام ووقائع في الماضي الغائب عنا، فهي تجري في الحاضر المحيط بنا، والمستقبل البعيد منا، وكل هذا يؤكد الفائدة العظمى، والأهمية القصوى، للنظر في تلك السنن، واستحضار الحقائق المحتفَّة بها؛ لأنها حكم الله الذي لا يُخالَف، ولا يستطيع أحد عصيانه، فلئن كان بإمكان العصاة أن يخالفوا حكم الله الشرعي، فإن أحداً من الخلق لا يستطيع الخروج قيد أنملة عن حكمه القدري، وتجيء أيام الله بما فيها من محن أو منح لتثبت ذلك.
ما أحوجنا في أزمنة الأحداث الجسام إلى أن نذكِّر أنفسنا، ونذكِّر الناس بأيام الله، وأن نبصِّر أنفسنا، ونبصِّر الناس بسنن الله الكونية القدرية، مع إرشادهم إلى سننه الدينية الشرعية، فالأحداث الكبرى قد تطيش فيها عقول، وتذهل فيها أفئدة، وقد تزل فيها أقدام أقوام، وتضِل أفهام آخرين، ولا يُثَبّت إلا من ثبَّته الله: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم: 27].
إن الزمان كلما تقارب كان فعل الفتن في الناس عجيباً؛ لأنها تتوارد وتتكاثر، حتى يرقق بعضها بعضاً، ولا يزال الأمر في تصاعد وتزايد حتى تتغير الأحوال من تنقُّل بين فتنة وفتنة إلى تقلُّب بين كفر وإيمان -عياذاً بالله- حيث يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا.
فالناس مواقف في أزمنة الشدائد، ومواقفهم بحسب معادنهم، فالمعادن الأصيلة تجلِّيها نار الاختبار.
أما الرخيصة، فتُنفى مع الخبث.
أيها المسلمون: هناك صراعات ستجري وأحداث ستتفاقم خلال مراحل يبدو أنها ستتتابع على شكل سلسلة من التغيرات الحادة في العالم -والله أعلم- فما الذي يحكم كل ذلك؟
إن حركة التغيير على مستوى الأمم والجماعات والأفراد لا تتوقف، فإما أن تكون إلى الأحسن وإما أن تكون إلى الأسوأ، فأما التي إلى الأحسن، فتحكمها السنة القائلة: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
فما من أهل قرية ولا بيت ولا بلد كانوا على ما كره الله من المعصية، ثم تحوَّلوا عنها إلى ما أحب من الطاعة، إلا حوَّلهم الله عما يكرهون من العذاب إلى ما يحبون من الرحمة.
وأما التغيير إلى الأسوأ، فتحكمه السنة القائلة: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53].
ومن سنن أيام الله: سنة العزة والذلة، فالعزة لله وإلى الله كلها، وقد كتب العزة قدراً للمستقيمين على دينه شرعاً، فبقدر استقامتهم تكون عزتهم، فقال سبحانه: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8].
ولهذا، فإن من أراد العزة فليستمدها منه وحده: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر: 10].
أما الذين يريدون أن يستمدوا العزة من عند غير الله، فأولئك لهم شأن آخر مع الله: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[النساء: 138].
ومن سنن أيام الله: سنته جل وتعالى في موجبات النجاة، يتطلع بعض الناس إلى النجاة إذا جاء أمر الله بالكوارث والمحن أو الحروب والفتن يتطلعون للنجاة منها عند بشر مثلهم ضعاف، وكيف غفَل هؤلاء على أن النجاة من المحن والفتن تكون بالتوكل على الله، والإيمان والتقوى، كيف لا وفيها أعظم النجاة؟ قال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 103].
وقد نجى الله أصنافاً وأصنافاً من المؤمنين من الرسل وأتباع الرسل من أنواع شتى من المحن والفتن، فنجى نوحاً ومن آمن معه: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الأنبياء: 76].
ونجى هوداً ومن آمن معه: (وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا) [هود: 58].
ونجى صالحاً ومن آمن معه: (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا) [هود: 66].
ونجى إبراهيم: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) [العنكبوت: 24].
ونجى لوطاً ومن آمن معه: (وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ)[الصافات: 133].
ونجى يونس: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88].
نجَّى الله هؤلاء الرسل، ونجَّى أتباعهم من نوائب وشدائد ومصائب حلت بأقوامهم، وقد كان الدعاء بالنجاة بعد تحقيق الإيمان هو أقربَ سبِل النجاة، ولا يشابهه في الأثر إلا القوة في القيام بالحق وقت الفتن.
وأما عن سنن أيام الله في موجبات الهلاك، فإن القانون في ذلك: أن الله –تعالى- لا يهلك أمة ظلماً، ولا يهلك أمة بغير نذير وتحذير، قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) [الأنعام: 131].
فلا بد من انحرافٍ ما يستوجب الهلاك، وقد نص القرآن على عدد من الانحرافات المستوجبة للهلاك الذي قد يكون هلاك استئصال، أو هلاك، تعذيب واختبار، وقد يسلط الله العذاب على الكافرين، وقد يُبتلى به بعض المسلمين، إذ إنهم لا يخرجون عن السنن الإلهية إذا فرطوا في الشرائع الدينية.
فمن موجبات الهلاك التي تجري بها سنن الله: الظلم والطغيان، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [يونس: 13].
وقال تعالى: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) [الحـج: 45].
وقد أخبر القرآن أن الظلم والطغيان كانا يقبعان خلف إهلاك أمم عظمى، وقوى كبرى، كانت ذات عمارة وحضارة؛ كما قال سبحانه: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى) [النجم: 50 - 56].
ومن موجبات الهلاك: البطر والأشر، وعدم الشكر، قال تعالى عن قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 78- 79].
ومن موجبات الهلاك: الجبروت والبطش، قال الله -تعالى-: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ) [ق: 36].
وقال تعالى: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) [الزخرف: 8].
ومن موجبات الهلاك: التجاوز في السفاهة والتعالي بالترف والفسوق، قال تعالى عن قومٍ: (قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 136 - 39].
ومن موجبات الهلاك: السكوت عن قول الحق، وترك الإصلاح، قال الله -تعالى-: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[هود: 116- 117].
ومن موجبات الهلاك: موالاة الظالمين، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة: 51 - 52].
ومن موجبات الهلاك: معاداة المؤمنين، قال الله -تعالى-: (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73].
فنسأل الله -تعالى- أن يعجل بفرج أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد:
إن أيام الله -تعالى- قد تأتي بالهزيمة والخذلان، كما أنها قد تأتي بالنصر والتمكين، فمن سنن الله في موجبات الهزيمة والخذلان: التفرق والتنازع، قال الله -تعالى-: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
ومن أسباب الهزيمة: طاعة الأعداء، واتخاذ البطانة منهم، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 118].
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 25 - 28].
أيها المسلمون: وأما سنة الله في موجبات النصر والتمكين الذي يتطلع إليه كثير من المسلمين، وهم في هذا الشهر الكريم، فلا يكون إلا بتحقيق الإيمان، ونصرة الدين، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].
وقال تعالى: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ) [آل عمران: 160].
وقال تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحـج: 40].
وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47].
وقال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحـج: 39 - 40].
ونصرة الدين تتضمن الامتثالُ له، والقيامُ به، ووحدة الصف من أجله، والصبر عليه، والجهاد في سبيله.
وأخيراً: لا بد أن يعلم الناس أن هذا الدين منصور، وأن الله -تعالى- قد قيَّض له طائفة لا يخلو منها زمان إلى آخر الزمان، ومن صفات هذه الطائفة: أنها على الحق والسنة، وأنها ظاهرة على هذا الحق معلنة به، وأنها منصورة بالحق مقاتلة عليه، وأنها محفوفة بمن يسلمونها ويخذلونها، وأنها محاطة بالمخالفين، وأنها لا يضرها هذا الخذلان وتلك المخالفة، وأنها جامعة لشرائح مختلفة من الأمة، وأن الله يبعث منها المجددين للدين، وأنها لا تنحصر بمكان واحد، ولكن تتنقل عبر الزمان في أكثر من مكان، وأنها باقية إلى يوم القيامة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال عصابة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس".
أيها المسلمون: إن كل السنن الإلهية المذكورة وغيرها كثير تحققت بشأنها أقدار ووقائع وتواريخ وحوادث، هي من أيام الله، وقد مضت بها سنة الأولين، وستمضي عليها سنن الآخرين، وقد ظل الإسلام عزيزاً شامخاً، وسيبقى كذلك إلى ما شاء الله، فلنتدارس هذه الأيام والسنن، ولنذكِّر الناس بها، فالخوف ليس على الإسلام، ولكن على من يتخلف عن ركب الإسلام.
اللهم منـزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اللهم انتقم للمسلمين المستضعفين في كل مكان.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم واحفظ دماء المسلمين وأعراضهم في كل مكان، اللهم وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، ووحد صفهم، وبلغهم فيما يرضيك آمالهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء، اللهم فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدبيره تدميراً عليه.
اللهم احقن دماء المسلمين، واحم اللهم نساءهم وأطفالهم وشيوخهم، وبلادهم وأموالهم.
اللهم عليك باليهود والنصارى، فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عددا، وأهلكهم بددا، ولا تغادر يا ربي منهم أحدا.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والكفر والزيغ والعناد، وانشر رحمتك على العباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المآب.
اللهم وقاتل الكفرة الذين يعادون أولياءك، ويحاربون دينك، ويقتلون المسلمين بغير ذنب، اللهم واجعلهم عبرة للمعتبرين، وأنزل اللهم عليهم رجزك وعذابك الذي لا يرد عن القوم الظالمين.
اللهم يا ولي الصاحين، ويا ناصر عبادك المستضعفين، نسألك اللهم أن تعين وتنصر إخواننا في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان، اللهم آمن روعاتهم، واستر عوراتهم، واحفظهم اللهم من بين أيديهم، ومن خلفهم وعن أيمانهم.
التعليقات