عناصر الخطبة
1/وجوب تعظيم الله بمعرفة أسمائه الحسنى وعناية العلماء بذلك 2/وجوب إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الأسماء والصفات 3/التعبد لله بدعائه بأسمائه وصفاته والتحذير من خطر الإلحاد في ذلك 4/بعض صور الإلحاد في أسماء الله في العصر الحاضر 5/وجوب الإنكار على الملحدين المعاصريناقتباس
إن الإلحاد في أسماء الله قد تنوَّع في تاريخ البشرية ما بين اتخاذ الأصنام والأوثان والأنداد، وعبادتها من دون الله، وإطلاق الأسماء المعظِّمة لها؛ مما يَجعلونها بهذه الأسماء أندادًا تُدعى من دون الله -جل وعلا-، إلا أن الإلحاد في أسماء الله -تعالى-...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون: إنَّ الله -جل وعلا- قد افترض علينا تعظيمه وإجلاله، وأن نقوم بحقه سبحانه من توحيده وعبادته، وتعظيمه وإجلاله -جل جلاله-؛ ولذلك كان من منهج عباد الله المؤمنين الذين اصطفاهم رب العالمين أن يَكونوا معظِّمين لله حقَّ تعظيمه، موقِّرين لله حق توقيره، يَحرصون على أن يكونوا قائمين بهذا الواجب العظيم، مُتباعِدين عما يُخلُّ به، والعبد كلما قام في قلبه تعظيم الله وإجلاله دلَّ ذلك على عمق الإيمان ورسوخه في قلبه، وعلى قربه من ربه -سبحانه-.
ولذلك كان المقدَّمون في هذا الأمر العظيم هم الأنبياءَ والرسلَ -صلوات الله وسلامه عليهم-، ولذلك مَن تأمل في سِيَرهم، وبخاصة خاتمهم محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- رأى من تعظيمهم لله وتوقيرهم له سبحانه ما ينبغي أن يكون قدوة للعباد جميعًا.
وقد تكاثرَت نصوص الكتاب والسنة، وزخَر القرآن العظيم، واستفاض في سُنَّة النبي الأمين ما يدل على وجوب تعظيم الله، والحذَرِ مما يُخلُّ بهذا الواجب العظيم الذي افترضَه رب العالمين، ومِن دلائل هذا الأصل العظيم ما جاء في سورة الأعراف من قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأعراف: 180]؛ ففي هذه الآية الكريمة تعليمٌ من الله -جل وعلا- لعباده بما له سبحانه من الأسماء الحسنى التي ينبغي أن يعظموه ويوقروه بدعائه جل وعلا بها، وأن لا يَستعيضوا بغيرها عنها، وأن لا يَنسبوا له جل وعلا ما لا يَليق من الأسماء والصفات؛ فالله -سبحانه- كما قرَّر في هذه الآية الكريمة له أسماء حُسنى منها ما علَّمَناه في هذا الكتاب العزيز، وعلمَنا إياه نبيُّه محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومنها ما لا نَعلَمه مما له من الأسماء العظيمة، والصفات الكريمة.
وقد ثبَت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة، وهو وترٌ يحب الوتر"، فدلَّ هذا الحديث العظيم على أن مِن جملة أسماء الله تسعةً وتسعين اسمًا، اختصَّها الله -جل وعلا- بأن من أحصاها دخل الجنة.
وقد تنوعت أقوالُ العلماء -رحمهم الله- في مدلول قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أحصاها"، والذي يَظهر -والعلم عند الله- أن المعنى مَن عَلِم بها بحفظها والعمل بمقتضاها دخل الجنة؛ لأن علم العبد بهذه الأسماء وعمله بمقتضاها يجعله من عِباد الله الشاكرين، الذين يَحرصون على أن يتعرَّضوا لرحمة الله، ولإحسانه وعفوه ومغفرته وهداه، وغير ذلك من أنواع إنعامه؛ لأن أسماء الله -جل وعلا- كلَّها حسنى، وكلَّها دالٌّ على معانٍ عظيمة توجب على العبد تعظيمَ الله، وعبادتَه وتوحيده تعالى وتقدس.
قال العلماء: وأسماء الله الحسنى غيرُ منحصِرة في تسعةٍ وتسعين اسمًا، وقد جاء تعدادها في رواية الإمام الترمذي -رحمه الله- لهذا الحديث المخرَّج في الصحيح؛ فإن الإمام الترمذيَّ -رحمه الله- بعد أن أسنَد في كتابه "الجامع" هذا الحديث: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا مَن أحصاها دخل الجنة"، جاء بعدها ذِكرُ هذه الأسماء المعروفة المشهورة عند المسلمين، وعامةُ هذه الأسماء ممَّا ورد في كتاب الله، أو في سُنَّة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
لكن الصحيح -كما تقدَّم- أن أسماء الله -جل وعلا- غيرُ منحصرة في هذه الأسماء التسعة والتسعين، ويدل على هذا ما رواه الإمام أحمدُ -رحمه الله- في "مسنده" من حديث عبدالله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "ما أصاب أحدًا همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك؛ سميتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندَك أن تجعل القرآن العظيم ربيعَ قلبي ونور صدري وجِلاء حُزني وذَهاب همي، إلا أذهَب الله حُزنه وهمَّه، وأبدله مكانه فرحًا" فقيل: يا رسول الله أفلا نتعلَّمُها؟ فقال: "بلى، ينبغي لكلِّ مَن سمعها أن يتعلمها"، فقولهم: "أفلا نتعلمُها؟" يَعنون رضي الله عنهم هذه الكلماتِ التي وردَت في هذا الدعاء "اللهم إني عبدك ابن عبدك..." إلخ...، قالوا: هل نتعلم هذا الدعاء؟ قال: "نعم، ينبغي لكل من سمعه أن يتعلمه"؛ لأنه لا أحدَ ينفكُّ من أن يتعرَّض لهذه الأحوال التي تَعرِض له من الحزن والهم والغم وغير ذلك، ولا مخرج من هذه الأمور إلا باللجوء إلى ربِّ العزة -تعالى وتقدس-.
والشاهد من هذا الحديث: أن النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو أعلم الخلق بربِّ الخلق جل وعلا- أورَد فيه قولَه: "أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك"، فإن من أسماء الله ما لا يَعلمه الخلق مما استأثر به الله -جل وعلا-، ولم يُخبر به أحدًا من عباده، ولذلك فالله -جل وعلا- حينما يخبرنا: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[الأعراف: 180]؛ فهذا تعظيمٌ منه جل وعلا تعظيم منه لنفسه، وتعليمٌ منه لعباده؛ كيف يدعونه؟ وكيف يسألونه جل وعلا؟ وما الذي يُطلق عليه من الأسماء والصفات؟ فإنه ليس لأحدٍ من الناس أن يَصِف الله بما لم يَصِف به نفسَه، أو يصفْه به أعلمُ الخلق به نبيُّه محمد -عليه الصلاة والسلام-، وليس لأحدٍ من الخلق أن يسمي الله باسمٍ لم يأت في كتابه ولا في سنة نبيه محمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، وليس لأحد من الخلق أن يَنسب إلى الله شيئًا من المخلوقات نسبةً أو إضافة تَقتضي التشريفَ أو الاختصاص، مما لم يَرِد في كتاب الله -تعالى- وسُنَّة نبيه محمد -عليه الصلاة والسلام-.
وقد عُنِي العلماء -رحمهم الله- بتَعْداد هذه الأسماء الحسنى، حتى إنَّ الإمام القاضيَ أبا بكر ابن العربي الأندلسي -رحمه الله-، وهو أحد أئمة العلماء المالكيين، قال في كتابه "الأحوذي في شرح جامع الترمذي": "إن بعض العلماء جمَع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألفَ اسم، والله أعلم بذلك"، والمقصود أن أسماء الله -جل وعلا- أسماء كريمة عظيمة، لا يُحصيها العباد، والواجبُ عليهم أن يَقِفوا وأن يَقتصِروا على ما سمَّى الله -تعالى- به نفسَه، وعلى ما وصَف به نفسه.
وفي باب الصفات ضلَّ كثيرٌ من الناس، وزاغوا عن الحق والهدى؛ وذلك أن الله -جل وعلا- أثبت لنفسه صفاتٍ تليق بجلاله وعظمته؛ ربًّا عظيمًا، وخالقًا جليلًا، ليس فيها ما يُشبهه فيه خلقُه؛ لأنه -جل وعلا- يقول في كتابه الكريم: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11]، فنَفى الله -جل وعلا- أن يُماثله أيُّ شيء من خلقه؛ لا في أسمائه، ولا في صفاته، وأثبَت لنفسه أنه جل وعلا سميعٌ بصير.
ولذلك قرَّر العلماء -رحمهم الله- في هذا الباب أنَّ الواجب هو الإثبات؛ إثباتُ ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، لكن من غير تشبيه؛ لأن التشبيه محال على الله -سبحانه-، وهذا أمر تُدركه العقول الصحيحة والفِطَر المستقيمة.
فالكل يَعلم أننا نحن العباد لنا حياة، فأي إنسان منا يوصف بالحياة، والله -جل وعلا- أيضًا يوصَف بالحياة؛ فهو الحيُّ القيوم، لكن بالتأكيد أن ثمَّة فرقًا بين حياة الله وحياة عباده؛ لأن حياة الخلق يَسبقها العدم ويَعقُبها الموتُ والفناء.
أما الله -جل وعلا- فهو الحي القيوم، القائم بنفسه، والذي قامت به عبادُه وخلائقه، وهكذا في صفات الله الأخرى فإنه من المقطوع به أنه لا يُشبهه جل وعلا شيءٌ من خلقه في صفاته العظيمة، ولذلك حذَّر الله -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة ممَّن ألحَدوا في أسمائه وألحدوا في صفاته، وقال: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) بعد أن قرر الله -جل وعلا- وعلم عباده أنَّ له الأسماء الحسنى، وحثَّهم على أن يدعوه بها: (فَادْعُوهُ بِهَا).
ومِن فقه العبد أن يتخيَّر من الأسماء والصفات ما يَسأل الله -جل وعلا- فيه حاجته؛ فإنه من اللائق بالمؤمن والدال على علمه وعلى تعظيمه لله -جل وعلا- أن يُكثر بين يدي دعائه من ثنائه على ربه -جل وعلا-، وأن يكون هذا الثناء والدعاء مناسبًا لما يدعو به؛ فهو حينما يسأل رزقًا يقول: يا رزاق ارزقني، وحينما يسأل رحمة يدعو الله بأنه الرحيم، وحينما يَسأل مغفرة يدعو الله بأنه الغفور، وإذا سأل الله عفوًا يصفُه بأنه العفو، وإذا سأل الله نصرًا وتأييدًا فإنه يصِفه ويَدعوه بالقويِّ العزيز... إلى غير ذلك.
فهذا كما نصَّ العلماء من مقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة: (فَادْعُوهُ بِهَا)، وحذر الله من مسلك الزائغين وقال: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ)، والإلحاد معناه: وضعُ الشيء في غير موضعه، والخروجُ به عما أمر الله -جل وعلا-، فهو الميل عن الصراط المستقيم والمنهج الصحيح.
وهذا ما وقع فيه أعداء الله ممَّن زاغت قلوبهم، واستولى عليهم الشيطان، زاغوا فأزاغ الله قلوبَهم؛ وذلك بأنهم نسَبوا إلى الله -جل وعلا- ما لا يليق به من الأسماء والصفات، وشبَّهوه بخلقه.
ولذلك نجد في أحوال المشركين الأوائلِ أنهم من إلحادهم جعَلوا من أسماء أصنامهم ما أرادوا أن يُشبِّهوا الله -تعالى- به، فقالوا لبعض أصنامهم: (اللات) من (الله)، أخذوها مِن لفظ ومن اسم (الله)، و(العزى) من (العزيز)، و(مناة) من (المنان)، وهكذا ما يلحد به غيرهم من أن ينسب إلى الله -جل وعلا- ما لا يليق به؛ كما فعل أهل الكتاب الزائغون بأن نسبوا إلى الله -جل وعلا- الصاحبة والولد، ودعَوُا الملائكة بأنهم بنات الله -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا-: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)[مريم: 90-91].
والمقصود -أيها الإخوة المؤمنون-: أن الواجب على المؤمن أن يكون معظِّمًا لله، وأنه له من الأسماء والصفات ما يَليق بجلاله وعظمته، وأنَّ الواجب على العباد أن يَكونوا معظِّمين لله موقِّرين له سبحانه وتعالى، مُحاذرين من أن يُلحدوا في أسمائه وصفاته، وفي عبادته جل وعلا؛ فإن الله توعَّد في هذه الآية فقال: (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأعراف: 180]، وهذا فيه وعيد عظيم، وتهديدٌ أكيد لمن سلك مسلك أهل الزيغ والضلال والإلحاد؛ كما قال سبحانه في الآية الأخرى من سورة فصلت، قال جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[فصلت: 40]، فلا يُظَنَّ أن أولئك الذين يُلحدون في أسماء الله وصفاته، ويُشركون في عبادته أن هذا الأمرَ والإمهالَ لهم سيمرُّ مرورًا عابرًا؛ فإنما هو إمهالٌ وتأجيل لهم، ثم يأخذهم جل وعلا أخذَ عزيز مقتدر.
فلا يُظن أن هذا الإمهال هو غفلةٌ عنهم، ولكن الله -جل وعلا- كما أخبر نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-: "الله ليُملي للظالم"، "يُملي" يمهل "حتى إذا أخذه لم يُفلِته"، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قولَ الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 102].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بهديِ النبي الكريم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله، نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأعراف: 180]، إن الإلحاد في أسماء الله قد تنوَّع في تاريخ البشرية ما بين اتخاذ الأصنام والأوثان والأنداد، وعبادتها من دون الله، وإطلاق الأسماء المعظِّمة لها؛ مما يَجعلونها بهذه الأسماء أندادًا تُدعى من دون الله -جل وعلا-.
ولئن كان هذا الإلحاد في أسماء الله -تعالى- على هذه الشاكلة في تاريخ الأولين؛ فإنه في زماننا يَتَّخذ صورًا متعددة؛ سواءٌ ما كان يَصدر من أهل الإشراك والكفران، والذين يُجاهرون بإلحادهم، ونَفْيهم ربوبيةَ الله -جل وعلا- وألوهيتَه، ويجاهرون بوصف الله بمقذع الصفات وسيئ الأسماء إلا أن الأمر أعظم حينما يكون ذلك صادرًا ممن ينتسب إلى الإسلام.
وإنه -مع الثورة المعلوماتية، والتواصل الإعلامي الكبير- فإنه ربما مُرِّر على كثير من المسلمين هذا الإلحادُ، وظنوه أمرًا سائغًا ولبَّسوه بلَبوس مما يُلبَّس به الضلال؛ من قَبيل أن هذا من الحرية، أو من الثقافة، أو من غير ذلك، مما يُطلَق على ضلالهم وزيغهم وإلحادهم؛ فإنه إذا مُرِّر هذا الأمر على كثيرٍ من الناس واستساغوه، كان في ذلك خطرٌ على المجتمعات بعامة، فإن الله -سبحانه- ليس بينه وبين أحد من خلقه مِن نسَب، إنما هو أن يُعظموه جل وعلا ويشكروه، فيَشكُر لهم وهو الودود الشكور، فيُنعم عليهم ويبارك لهم، وإما أن يَستسهلوا ما يُنسَب إلى الله -جل وعلا- وما يُلحَد به في أسمائه، فحينئذ يكون الأمر كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الناس إذا رأَوُا المنكر فلم يأخذوا على يد صاحبه أوشَك الله أن يعمَّهم بعقاب".
وهل ضاقت الأرزاق، واختلَّ الأمن، وانتشرت الفوضى، وحلَّ بالناس أنواعٌ من النكبات إلا بسبب ما يَكون من الإعراض عن دين الله، والتساهل بحدوده -جل وعلا-؟!
ألم يَقُل نبي الهدى محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-: "لحَدٌّ يُقام في الأرض خيرٌ لأهلها من أن يُمطروا أربعين يومًا؟!".
ألم يقل ربُّ العزة -سبحانه-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96]؟!
ألم يقُل رب العزة -سبحانه-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: 41]، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بما يكون من ضيق المعايش واختلال مَوازين الحياة، والسبب في ذلك: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.
ومن الأمثلة التي تُمرَّر في المجتمعات مما يكون فيه الإلحادُ في أسماء الله: ما تتناقله بعضُ وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ممَّن ينتسبون ويَعيشون في المجتمعات الإسلامية؛ فعلى سبيل المثال من ذلك فيلم كرتوني، يُذاع على عددٍ من القنوات، ومسمَّاه "الشخصيات التسعة والتسعون" شخصيات كرتونية، نُسِبت ووُصفت بأسماء الله، شخصية كرتونية يُطلَق عليها اسم الصَّمَد، والقوي، والعزيز، والقهار... تسعة وتسعين اسمًا أُطلقت على هذه الشخصيات، ويُمارَس في سيناريو وأحداث هذا الفلم الكرتوني ما ينسب إلى هذه الأسماء؛ من الأوصاف المقذعة والظلم والبغي والعدوان والانتقاص -عياذًا بالله من كل ذلك-.
هذا لا يُبثُّ في قنوات صِهْيَونية أو نصرانية أو يهودية؛ بل في بلاد إسلامية، كما بثَّته قناة الـ(mbc)، وتُرجم إلى عددٍ من اللغات، فيُنشر في بلاد المسلمين في إندونيسيا وفي غيرها؛ ليتربى الأطفال على الإلحاد برب الأرباب -عياذًا بالله من ذلك-.
وكمثالٍ آخر ما قد يُطلِقه مَن ينتسب إلى المثقَّفين من بعض الأوصاف التي يُنزَّه الله -جل وعلا- عنها؛ كما قالت قائلةٌ وكتبت كاتبةٌ حينما تقول: إني إذا سمعتُ المغني فلانًا؛ هل أني أسمعه أم أني أسمع الله؟! -تعالى الله عما قالت علوًّا كبيرًا-.
أو كما يقول أحدهم ممن ينتسب إلى الثقافة أيضًا بأننا نحتاج إلى تجديدِ شريعة محمد.
وكما يقول أحدُهم مِن نسبة بعض الأوصاف إلى الله -جل وعلا-، والنسبة إلى الله نسبةُ الأشياء بابٌ شرعي واضح، لا يجوز أن يُنسَب إلى الله إلا ما نسَبه إلى نفسه.
فالله -جل وعلا- نسَب على سبيل المثال في كتابه العزيز على لسان نبيِّه صالح الآيةَ التي أخرجها لقومه وهي الناقة، قال: (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)[الشمس: 13]، وكما ينسب الله -جل وعلا- إلى نفسه: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18]، والمساجد بيوت الله، وكما يَنسب الله إلى نفسه بعضَ عباده: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)[الإسراء: 1].
فأما أن يُنسَب إلى الله شيءٌ من المخلوقات على الأهواء والأمزجة تحتَ ستار الثقافة والحرية والمجاز؛ فهذا نوع من الإلحاد؛ لأن النسبة توقيفية، إنما يُقتصَر على ما جاء به القرآن والسنة، ومَن زاد فقد ألحد: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأعراف: 180].
ولا شك أن هذا مما يوجب على أهل الاسلام إنكارَه أشد النكير؛ فهذا واجب الناس لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما ثبت في صحيح مسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"؛ فالواجب على عامة الناس هو الإنكار القلبيُّ، والإنكار القوليُّ أيضًا.
الإنكار بالقلب، وهذا ليس وراءه مِثقال حبَّة خردل من إيمان.
والإنكار القولي، وهذا بالنسبة لمن بلَغَه هذا الأمر، فيُعظِّم الله ويُنزِّهه عن هذا القول العظيم، ومَن كان ذا قلم أو مجال إعلام، فواجبٌ عليه أن ينكر ذلك.
وأما الإنكار باليد فمردُّه إلى ولي الأمر ومن أنابه بأن يُؤخذ على أيدي السفهاء، وأن يرفعوا إلى القضاء ليُقام فيهم حكم الله، وما لم يكن كذلك بين الناس من الغيرة لله فهذا مما يؤذِن بحلول العقوبات، وبضيق المعايش، وتسليط الله -جل وعلا- على عباده ما لا طاقة لهم به.
وقد قال نبي الله نوحٌ -عليه السلام- لقومه لما تكاثر فُحشهم وذنوبهم: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[نوح: 13]؟! ما لكم لا تعظِّمون الله حق تعظيمه، والله -جل وعلا- يقول عن عباده الذين لم يقوموا بهذا الواجب العظيم: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)[الأنعام: 91]؟!
فمَن عظَّم الله ووقَّره كان واجبًا أن يكون في قلبه من الغيرة لله -جل وعلا- ما يُنكِر به هذا الأمر العظيم.
أمَّا من تساهل به واعتذَر بأنواع الأعذار تحت مسمَّيات فضفاضة مزيفة، واستسهل أذيَّة الله -جل وعلا-، فهذا دليل على ضعف الإيمان وغوره من القلوب -عياذًا بالله من ذلك-، والله -سبحانه- يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[الأنفال: 24].
ومِن مظاهر ذلك: أن يَضعُف تعظيمُ الله في قلب العبد، حتى لا يَستنكِر هذه المنكرات العظيمة التي هي أكبرُ من الكبائر، هذه المنكَرات التي فيها الإلحادُ بأسماء الله أعظمُ من الزِّنى ومن الخمر ومن أكل الربى، وغيرِه من الكبائر؛ فهذا الإلحاد قنطرةٌ إلى الضلال الذي هو أعظمُ من الشرك؛ فإن الله يقول في كتابه العزيز: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ)[الأعراف: 33].
تأمَّلوا أنه في هذه الآية تدرج في ذِكْر المنكرات من العظيم إلى ما هو أعظم: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33].
فنسأل الله ألَّا يُؤاخذَنا بما فعل السفهاء منا؛ اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إنا نعوذ بك من الزَّيغ والضلال والإلحاد.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على كتابك وسنة نبيِّك محمد -عليه الصلاة والسلام-.
اللهم إنَّ بأمة نبيك محمد -عليه الصلاة والسلام- من الفُرْقة واللَّأواء، ومن الجهل والبعد عن كتابك وسنة نبيك، ما لا نشكوه إلا إليك، وما لا نَسأل كشفه إلا منك، فنسألك اللهم فرَجًا من كل هذا الضلال، ومن كل هذا البلاء.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدَّين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّقهم لكل خير وهدًى، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبعِد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّونا صِغارًا.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].
التعليقات