عناصر الخطبة
1/شدة حاجة الخلائق إلى ربهم سبحانه 2/الافتقار إلى الله لبّ العبودية 3/منحة رمضان منَّة كبرى 4/الاجتهاد في الطاعات في العشر الأواخر 5/فضائل السجود والانطراح بين يدي الرب.اقتباس
في سجودِك قربٌ من ربِّك، ورفعة لمنزلتك، ومحوٌ لذنبك، ومغفرة لزلتك، وترغيم للشيطان، وقوة لقلبك، وزيادةُ يقين وإيمان. فلو عرَفتَ قدر هذه النِّعمة، لما تعجلت الرَّفع منها، وأطلت السجود، وذرفت الدموع، وسكبت العبراتِ حرَّى بين يدَي خالقك على ما فات من أيام دهرك..
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله مقدّر الأقدار ومكوّر النهار على الليل، ومكور الليل على النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبحانه من إله عظيم يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام العابدين وسيد الذاكرين والشاكرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون فمن اتقى الله نجا، ومن اتقى الله خاف ورجا.
هذا نداء من رب الأرض والسماء ومن له العزة والكبرياء، نداء يُشْعِر الإنسان بضعفه أمام قوة الجبار، وبفقره وحاجته للغني القهار.
نداء من القوي للضعفاء، نداء من الغني للفقراء، نداء يضعنا أمام الحقيقة، ويدفعنا للخضوع للخالق والالتجاء إلى حمى الغني الكريم.
نداء هذا نصه: "يا عبادي، كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"(رواه مسلم).
إنها كلمات تبعث في النفس الرهبة والرغبة، وإنها لكلمات تشعرنا بذلنا وضعفنا وفقرنا. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ)[فاطر:15].
إن الناس بحاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة، في حاجة إلى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله، وأن الله غني عنهم كل الغنى، وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه؛ فإن الله غنيّ عن عبادتهم وحمدهم، وهو المحمود بذاته.
إن المرء مهما أُوتي في الحياة من مال أو جاه أو رفعة أو منصب؛ فهو فقير إلى ربه محتاج إلى كرمه، وكل ما أوتيه ما هو إلا ذرة من كرم الكريم ومن عطاء الغني (وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ)[محمد:38].
ها هو الغني الحميد يوالي أفضاله، ويتابع نعمه وآلاءه، عَلم ضعفنا فرحمنا، وعلم تقصيرنا ففتح لنا أبواب الخير ويسَّرها، وما رمضان بنفحاته وخيراته إلا منحة من المولى ومنّةً من الغني الحميد.
أيام حافلة بكل عمل صالح من صلاة وصيام وتلاوة وقيام وذكر وإطعام وصلة للأرحام مع نفوس مهيَّأة وشياطين مصفَّدة وجنان مفتحة ونيران موصدة لكي تقبل النفوس على العبادة وتسابق إلى الحسنى وزيادة.
بدأ رمضان، وبدأ معه التسابق والتنافس بين طلاب الشهوات وعشاق الجنات؛ ففريق هدى وفريق حقَّ عليهم الضلالة، ومضت عشر الرحمة، ثم عشر المغفرة، وتزود فيها فريق بزاد التقوى، فما أسعدهم يوم أن ينادوا: هاؤم اقرؤوا كتابيه.
مضى معظم رمضان وجاء أعظمه، جاءت العشر بأنوارها وخيراتها، جاءت لتقول للناس: ها أنتم هؤلاء تدعون لعبادة الله؛ فهل من مشمر؟ جاءت العشر وفيها ليلة خير من ألف شهر، فيا رب لك الحمد على نعمائك ولك الشكر على آلائك، عمل في ليلة يفوق عمل ثلاث وثمانين سنة؛ فلله الحمد رب السماوات والأرض رب العالمين.
جاءت العشر وفيها كان الرسول القدوة محمد -صلى الله عليه وسلم- يحيي ليله ويوقظ أهله، ويشد مئزره، ويجتهد في عبادة ربه.
جاءت العشر لتكون تاجًا للعاملين وغُرَّة في جبين العابدين، ولتكون فرصة للمقصرين، ومنحة للمذنبين، وإنما الأعمال بالخواتيم.
جاءت العشر بعد ما مضت العشرون، فماذا بقي من عنائكم وسهركم أيها العاملون العابدون؟، لقد مضى العناء وبقي الأجر والثناء، وماذا بقي من لذتكم وشهوتكم أيها العابثون؟، ذهبت لذاتها والإثم حل.
وكم من معاصٍ نال منهن لذة *** فراح وخلاها وذاق الدواهيا
تصرم لذات المعاصي وتنقضي *** وتبقى تباعات المعاصي كما هيا
أين بكاؤكم وندمكم أيها المقصرون؟، أين خوفكم من يوم يبدو لكم فيه ما لم تكونوا تحتسبون؟
إنه ما من ميت يموت إلا ندم؛ إن كان محسناً ندم على أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب، هكذا أخبرنا -صلى الله عليه وسلم-.
كان مطرف بن عبدالله يقول: "اجتهدوا في العمل؛ فإن يكن الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه، كانت لنا درجات في الجنة، وإن يكن الأمر شديداً كما نخاف ونحاذر لم نقل (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)[فاطر:37]، بل نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك".
إن خسيس الهمة يندم لفوات لذّته، ويتحسر لفراق شهوته، أما كبير الهمة فإنما يتحسر على ساعة مرت به في الدنيا لا لأنه عصى الله فيها، وإنما لأنه لم يعمرها بذِكْر الله -عز وجل- وفي الحديث: "ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله -عز وجل- فيها".
لما احتضر عامر بن قيس جعل يبكي ويقول: "ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، وإنما أبكي على ظمأ الهواجر وعلى قيام ليالي الشتاء".
جاءت العشر -أيها المسلمون- فأروا الله من أنفسكم خيراً، وقدِّموا لأنفسكم، واعلموا أنكم ملاقوه، ونَافِسُوا في ميادين الخير والصلاح؛ صلاةً وتلاوةً وذكراً واعتكافاً وصدقة وبراً، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[لقمان:34].
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
(وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد:38].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
أما بعد: يا أهل الحاجات، يا أيها المبتلون بالهموم والأسقام، يا أيها المتورطون بديون وحقوق، يا كل محتاج إلى فرج وتيسير، ها هي العشر قد أقبلت وبين يديك ساعات هي خير من الدنيا وما فيها، أقبلت ساعات الانطراح بين يدي الله والخضوع له والسجود تعبدًا وإجلالاً؛ حيث أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
في سجودِك قربٌ من ربِّك، ورفعة لمنزلتك، ومحوٌ لذنبك، ومغفرة لزلتك، وترغيم للشيطان، وقوة لقلبك، وزيادةُ يقين وإيمان. فلو عرَفتَ قدر هذه النِّعمة، لما تعجلت الرَّفع منها، وأطلت السجود، وذرفت الدموع، وسكبت العبراتِ حرَّى بين يدَي خالقك على ما فات من أيام دهرك.
في السجودِ تتمازجُ للروحِ الأفراحْ.. تتلاشى كل الأتراحْ.. في بضع ثوانْ يتجلى قربُ المعبودِ يتلاشى الكلُّ.. فلا صوت غيرُ أنينٍ وشهود.
جاءت لحظات السجود الطويل فاسجدوا لله واعبدوا، اسجد لله فكلِّ سجدة تسجدها مطمئنًّا مؤمنًا ترتفع درجة، وأقرب ما يكون القلب من الربّ إذا سجد، وفي الحديث: "عليك بالسجود؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفَعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة".
أطيلوا السجود؛ ففيه تفريج الهمّ، وتنفيس الكرب وحصول انشراح الصدر، وثبوت الإيمان في القلب، فالمسلم عندما تتكالب عليه الدنيا بمشكلاتها ومعضلاتها، وتعترضه المحن وتحل به الابتلاءات يجد في العبادة والسجود عوناً على ذلك ومخرجاً منه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ)[الحجر:97-98].
جاءت ساعات السجود، والسجود هو انطراح للجبار، وتذلل للقهار، وتمريغ للأنف، وتعفير للوجه، وانطلاق من أسْر الدنيا، وهروب من قيود الطاغوت، وتجرد من أوسمة العظمة، وتخلٍّ عن رُتَب الفخامة، وألقاب الزعامة.
السجود همسٌ للأرض يسمعه مَن في السماء، فيجيب داعيًا، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنبًا ويكشف كربًا؛ فاسجد لله واقترب.
وأخيراً يا مسلمون: هذه العشر قد دخلت وفتحت ذراعيها للطالبين التائبين، فتزود لآخرتك من دنياك، ولا يلهينك عن غايتك فتات الطريق وبريق الشهوات وحلاوة العيش، (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[النساء: 77].
تزود ما دمت قادراً قبل أن تقول باكياً حين تبلغ الروح الحلقوم، والناس إليك ينظرون: رب أمهلون وإلى الدنيا ارجعون، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت؛ فيقال لك: كلا، فقد انتهت الحياة، ومضت فترة الاختبار..
فاللهم وَفِّقْنا للتوبة قبل الممات، وأعنَّا على العمل الصالح الجميل قبل الرحيل.
هذا، وصلوا وسلموا على مَن أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
التعليقات