عناصر الخطبة
1/ وقفة مع آية (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) 2/ حرص الإسلام على الصلح 3/ بيان فضل الصلح وخيريته 4/مسارعة السلف للصلح 5/واقعنا في ضوء الآية الكريمةاقتباس
لقد ذكر الله -جل جلاله- في الآية الكريمة أن الصلح خير والخير يطلبه كل عاقل ويرغب فيه كل لبيب، فكيف وقد أمر الله به وحثّ عليه فلاشك أن على المسلم أن يزداد طلباً له ورغبة فيه ولا يجوز له رفضه. ولكن النفوس البشرية جبلت على الأثرة وحب الذات وعدم الرغبة في بذل ما عليها للآخرين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أمر بالإصلاح ودعا إليه، وحذر من التنازع والعواقب المترتبة عليه، ورغب في الإذعان للحق والانقياد، وزجر عن الإصرار على الباطل والعناد، والصلاة والسلام على من أرسى أسس الصلح والحوار، وعمق معنى التسامح والإعذار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما تعاقب الليل والنهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أيها الناس: يقول الله - تبارك وتعالى - في كتابه العظيم: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء : 128]. إن هذه الآية العظيمة يبين الله -سبحانه وتعالى- فيها فضل الصلح وأهميته، ويخبر أن الصلح خير كله.
إن الآية تخاطب المرأة التي تشعر أن زوجها مُعرض عنها وليس له رغبة فيها، فالأحسن له ولها في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحاً، وذلك بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها بحيث تبقى معه، أو ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها. فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما في هذا الاتفاق، لا عليها ولا على الزوج، ويجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحالة، وهي خير من الطلاق والفرقة، ولهذا قال: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).
نعم, الصلح خير في كل الأمور، وهو الخيار الأفضل في كل النزاعات والمشاكل، والأسلوب الأحسن في كل شيء، والجائز في جميع الأمور إلا إذا أحلّ حراما أو حرّم حلالاً فإنه لا يكون حينئذ صلحاً وإنما يكون جوراً.
ولاشك أن الصلح خير وأفضل من التعنت وبقاء كل فريق متمسك برأيه متشبث بما عنده، لا يرى نفسه إلا على الصواب المحض الذي لا يحق له أن يتنازل عنه، وخصمه على الخطأ المحض الذي يجب عليه التراجع عنه، وتبقى المشاكل بينهم قائمة والنزاعات مستمرة بسبب أنهم لا يريدون الصلح، لأنهم لا يعلمون أن الصلح خير.
لقد ذكر الله -جل جلاله- في الآية الكريمة أن الصلح خير والخير يطلبه كل عاقل ويرغب فيه كل لبيب، فكيف وقد أمر الله به وحثّ عليه فلاشك أن على المسلم أن يزداد طلباً له ورغبة فيه ولا يجوز له رفضه. ولكن النفوس البشرية جبلت على الأثرة وحب الذات وعدم الرغبة في بذل ما عليها للآخرين، والحرص على التمسك بالحق الذي لها، كما قال تعالى (وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحّ) ولكن الله نهانا عن ذلك ورغبنا في الإقلاع عن هذا الخُلُق الذميم وطرده من النفوس، واستبداله بالحنان والعطف والسماحة، وبذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك.
فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن وطرد الشح والأثرة من نفسه، سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصومه، وسهلت عليه الطرق التي توصله إلى مطلوبه، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يتعسر عليه الصلح ولا يرضى بالموافقة عليه، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر وتعسر. ولهذا قال الله: (وَإِنْ تُحْسِنُوا ) أي: في عبادة الخالق، وتحسنوا إلى المخلوقين بجميع طرق الإحسان، وتحسنوا بفعل المأمور، وترك المحظور (وَتَتَّقُوا) الله بفعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) قد أحاط بكل شيء علماً وخبرة، بظواهر الأمور وبواطنها، فيحفظ ذلك لكم، ويجازيكم عليه أتم الجزاء، فلا ترفضوا الصلح وخذوا به فإن الصلح خير لكم لو كنتم تعلمون.
وأمرنا الله -تبارك وتعالى- إذا تنازعت طائفتان من المسلمين، وفسدت العلاقة بينهما، وبغى بعضهم على بعض، ووقع الاختلاف والاقتتال بينهما لأي سبب كان، فالواجب حينئذ أن نصلح بينهما، وأن نتلافى هذا الشر الكبير والاختلاف العظيم الذي وقع بينهما بالصلح ونعالجه بالإصلاح بينهم والتوسط في ذلك، حتى يقع الصلح على أكمل وجه فالصلح خير لهم من التنازع والاقتتال. يقول الله - سبحانه وتعالى -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات : 9].
عباد الله: إن الإسلام حرص أشد الحرص على تنمية العلاقة الإيمانية والأخوة الإسلامية بين المسلمين، وأمرهم عند النزاع والخلاف أن يجنحوا للصلح، ومن أجل أن يرغبهم في الصلح أخبرهم بأنه خير لهم من كل الوجوه ومن جميع النواحي. فعندما تنازع المسلمون بعد غزوة بدر ووقع الاختلاف بينهم على الأنفال، وهي الغنائم التي ينفلها الله لهذه الأمة من أموال الكفار، ولم يعرفوا كيف تقسم وعلى من تقسّم؟ أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- سورة كاملة سماها سورة الأنفال، بدأها بقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : 1]. أي: أصلحوا ما حصل بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر، بالتواد والتحاب والتواصل فذلك خير لكم وبه تجتمع كلمتكم، ويزول ما حصل في نفوسكم من التخاصم، والتشاجر والتنازع بسبب الاختلاف والتقاطع.
إن من لا يرضى بالصلح معناه أنه لا يريد بالخير ولا يرضى به بنص الآية، فالآية صريحة في التنصيص على أن الصلح خير، فمعنى ذلك أن من يرفض الصلح فإنه يرفض الخير، ولا يرد الخير ويرفضه إلا من كان في قلبه مرض وفي دينه نقص. روى الإمام أحمد عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ: الْحَالِقَةُ، حَالِقَةُ الدِّينِ لاَ حَالِقَةُ الشَّعَرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ" [أحمد (1412)].
لو تأملتم في صلح الحديبية وبنوده والاتفاقات التي تمت فيه بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين مشركي مكة لوجدتم أن في ظاهرها إجحافاً واضحاً على المسلمين وهضماً لهم، بل تبادر إلى أذهان بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أن هذا تنازل من جهتهم لأعداء الله، حتى قال عمر -رضي الله عنه - لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآه قد وافق على بنود الصلح ورضي بها قال: "يارسول الله: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبين عدونا؟" ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يعلم أن الخير كل الخير في الصلح قال له: "يا عمر إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ولن يضيعني أبداً" [النسائي (11504)].
أيها المسلمون: لقد فقه السلف الصالح -رضي الله عنهم- هذه النصوص الشرعية، وعلموا أن الصلح هو الخيار الأفضل والسبيل الأمثل لحل كل النزاعات والمشاكل، وأن الخير كل الخير في الإصلاح بين المتخاصمين والتقريب بينهم. فلقد تنازل الحسن بن علي -رضي الله عنه- بالخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، لأنه يعلم أن الصلح خير من الفتن وإراقة الدماء، فحاز بالشرف العظيم ونال الكرامة الكبيرة التي أخبر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ أُمَّتِى" [أبوداود (4662)].
يقول وكيع البغدادي رحمه الله :كتب عمر إلى معاوية -رضي الله عنهما-: "احرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء" [أخبار القضاة لوكيع (1 /75)]. ويقول عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت: " كنت جالساً مع محمّد بن كعب القرظيّ، فأتاه رجل فقال له القوم: أين كنت؟ فقال: أصلحت بين قوم، فقال محمّد بن كعب: أصبت لك مثل أجر المجاهدين، ثمّ قرأ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ..." [أعلام الموقعين (2/ 685)]. وقال ابن بابويه رحمه الله: "إنّ الله- عزّ وجلّ- أحبّ الكذب في الإصلاح، وأبغض الصّدق في الفساد" [منهاج الصالحين للبليق (420)].
قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
عباد الله: بعد كل الذي سمعناه ماذا نقول فيمن يتعنت ويرفض الصلح ويحب أن تبقى الأمور كما هي ويرضى بالمشاكل أن نستفحل وتتطور؟ ماذا نقول في بعض الناس -هداهم الله- يأتي إليهم المصلحون ويتقربون منهم ويتحببون لهم، وُيعلمونهم بسعيهم الحثيث لحل مشكلاتهم، فيرفض ذلك بعضهم، ويرى أن الخير له أن يبقى مقاطعاً لأخيه هاجراً له، ويعتقد أن الصلح لن يكون لصالحه، وينسى أن الصلح هو خير له.
ماذا نقول فيمن يطرق أبواب المحاكم، ويطولّ القضايا، ويعقّد المشاكل، ويرفض الصلح، ويحب أن تبقى المشكلة في المحكمة فترة طويلة يتكلف فيها أموالاً طائلة مع المحامين وغيرهم، وينقطع فيها عن مشاغله وأموره حتى يتفرغ لجلسات المحاكم وفصوله، ويرى أن حكم المحكمة خير له من الصلح؟ وينسى قول الله - سبحانه وتعالى -: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء : 128].
بعض الناس يمر على مشكلة معينة أو يقف عليها وبإمكانه أن يتدخل فيها بالإصلاح وينهيها بالصلح، ولكنه يتهرب من ذلك، ويقول مالي ولهم؟! وينسى أن الصلح خير.
كم من مشاكل يعج بها مجتمعنا وتدور في واقعنا وتبقى لسنوات طويلة مستمرة بين الطرفين ولا تنتهي بسبب أننا لم نفقه أن الصلح خير، وإلا لو فقه المتخاصمون أن الصلح خير، وفقهنا نحن أن الصلح خير، وقمنا بدورنا في حلها وإصلاحها لما كثرت وتعقدت المشاكل داخل المجتمع. يقول الله -سبحانه وتعالى- مبيناً فضل الصلح وخيريته: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور : 22].
لقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ترك الصلح ورده فقال: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثنين، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" [مسلم (2565)].
صلوا وسلموا على هذا النبي العظيم والقائد الكريم الذي أمرنا ربنا جل جلاله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم اجعلنا صالحين مصلحين، مطيعين مخبتين.
اللهم أعنا على أنفسنا، وألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، ووفقنا لقبول الصلح وإرادته وطهر نياتنا في ذلك.
التعليقات