عناصر الخطبة
1/الهداية للصراط المستقيم أعظم منة وأغلى مطلب 2/طرق الهداية مؤصدة إلا طريق النبي -صلى الله عليه وسلم 3/طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به قضية النجاة الكبرى 4/حقيقة طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومقتضياتهااقتباس
عبادَ الله: إن طاعةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- قضيةُ النجاةِ الكبرى، وهي ألزمُ ما يجبُ أن يحاسبَ المرءُ نفسَه عليها علمًا وعملًا وحالًا، سيما في أوقات الفتن العامةِ والخاصةِ ووجودِ الأئمة المضلين، وتحقيقَ طاعةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون في خَبَرِه وأَمْرِه تصديقًا للخَبَر، سيما ما...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي لم يَزَلْ حميدًا مجيدًا، دانَ له الخلْقُ فكانوا له عبيدًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)[آل عمران: 102].
أيها المؤمنون: إن الهدايةَ للصراط المستقيم أعظمُ منةٍ يمنّها اللهُ على عباده، وهي أعظمُ مطلوبٍ يُلِحُّ العبدُ في سؤاله ربَّه فَرْضًا سبع عشرة مرةً في يومه، يقول تعالى: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَان)[الحجرات: 17].
ولأجلِ غايةِ هدايةِ الخلق أنزل اللهُ الكتبَ، وأرسل الرسلَ؛ فكانت منتُه بذلك أعظمَ المننِ التي لا تساويها مننُ الدنيا جمعاءَ، كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين)[آل عمران: 164].
وقد أَوْصَدَ اللهُ برحمته كلَّ الطرقِ إليه إلا طريقَ الهدايةِ المستقيمَ الذي مَن حَادَ عنه ضلَّ وشقي: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام: 153].
وكان مضربُ المثلِ للناس في اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- كمَثل قومٍ تائهين؛ كانوا في بَيْداءَ من الأرض موحشةٍ، ذاتِ آفاتٍ وسباعٍ وهلكةٍ وقطاعِ طريق، وليس لهم منها مخرجٌ آمنٌ إلا مخرجًا واحدًا، لا يهتدي له، ولا يعرف تفاصيلَ سبيله والعقباتِ التي تعرض له إلا شخصٌ منهم واحدٌ ذو علمٍ دقيقٍ بالطريق بِدْئًا وانتهاءً، وذو صدقٍ ونصحٍ وعقلٍ ورأيٍ ورحمةٍ وشفقةٍ ورفقٍ، وحرصٍ على رفقته، وذو نزاهةٍ وعفةٍ عن سؤالهمُ الأجرَ أيًا كان لقاءَ دلالتهم وهدايتهم، وهم لا يجهلون ذلك كلَّه منه لِما قام لهم في ذلك من كثرة الأدلة والشواهد التي لا ينكرها إلا معاندٌ مكابرٌ، فقامَ فيهم ناصحًا: أن اتّبعوني أهدْكم طريقَ النجاة من تلك الهلكة، وتنعموا بجمالِ ذلك الطريق واستقامتِه ورحابتِه، واختصارِه وقِصَرِه، وأُنْسِه، وحسنِ عاقبته؛ وتُكْفَوْا عناءَ البحث، وحيرةَ الاختيار، واضطرابَ الآراء.
فكان منهم الموفَّقون الذين أسلموا قيادَهم له، ووثقوا برسوخ علمه وحسن دلالته، فاقتفوا أثرَه، ونهجوا نهجَه، ولم يتقدموا بين يديه، وأَنِسُوا بطيب حديثه، وقوّاهم جميلُ حدائه فلم تُذْعِرْهم المخاوفُ، ولم يرهبْهم كيدُ المتربصين، ولم يستطيلوا الطريقَ وإن توارت عن نواظرهم علائمُ نهايته، ولم يَثْنِهم عن السير نكوصُ الناكصين، ولم تُعْيِهم مراهقُ السير التي لا بد من تكبّدها ليقينهم بعصمةِ قائدهم، وحسنِ المآلِ الذي ينتظرهم، فمَن يعرفْ ما يطلب يهنْ عليه ما يبذل، كيف وهم يرون المَثَلَ في قائدهم الذي لم تٌحْفظْ عليه يومًا زرايةٌ، أو يَروْا فيه أيَّ تناقضٍ بين قولٍ وعملٍ وحالٍ! فسَار بهم سيرًا رفيقًا يَسبِقُ به السابقُ، ويلحقُ به اللاحقُ، يحملُ ضعيفَهم، ويعلِّمُ جاهلَهم، ويَحْلُمُ على سفيههم، ولا يكلفُهمُ المشاقَّ، ويصبِّرهم مُشَجِّعًا على تخطّي العقباتِ التي لا بد من مرورها في طريق النجاة، وهم يتمتعون بالطيبات أثناءَ مسيرهم دون أن ينشغلوا بها عن غايتهم التي يرومونها، فما زال ذلك دَأبَهم حتى وصلوا إلى مخرج النجاة، ونعِموا بالسلامة والهناء.
وكان مِن أولئك الركبِ قومٌ مخذولون قد انخدعوا لغرورِ خِطَابِ قُطَّاعِ الطريق حين زعموا أن ثمةَ طرقًا أهدى من سبيلِ الهدايةِ الوحيدِ، وطفِقوا يزيِّنونها للناس ببهارج من شبهات وشهوات تَخْلِبُ الأبصارَ، وتَغُرُّ الجاهلَ والغافلَ، تزعم أنها سبلٌ للهداية والنجاة، فاتَّبَعُوا أولئك الغواةَ، وشَقُوا بوَعْثاءِ الطريق مع شقاء ضَلالِه.
وما لبثوا إلا أن انكشف لهم الغطاءُ، وبان لهم السرابُ وغرورُ الأمانيِّ، فصاروا يندبون نفوسَهم، ويلعنون مَن أضلهم حين احْتَوَشَتْهمُ المهالكُ، ووقعوا صرعى تحت رَحى الخزي والحرمان والأحزان، وبمِثل ذلك المصرعِ الوخيمِ كان حتْفُ مَن تكايس، وظنَّ أن بإمكانه الاهتداءَ لدرب النجاةِ الوحيدِ بعقله البشريِّ وإن خالف طريقَ الهادي، سيما إن عرضت له عقباتٌ في طريق الهدى، أو رأى شيئًا من عناء السفر الذي لا بد منه، وانغرّ بسهولة ممرٍّ عَرَضَ له، أو بَهَرَه جمالُ ظاهرِه، أو ظنّ أنه دربٌ أقصرُ من جادةِ الهداية؛ فتخلّى عن رَكْبِ الهُداة سالكًا دربًا كان يظنه سبيلَ نجاة وإذ به يُفضي إلى هلكة وبَوار؛ فنَدِمَ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ.
بذلكمُ المَثل تبين به حقيقةُ الاهتداءِ ببركةِ الاقتداءِ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في السير في هذه الحياة، كما قال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور: 54]، فالهدايةُ والسعادةُ ثمرةُ الطاعةِ والاتباعِ لنبي الرحمة -عليه الصلاةُ والسلامُ-، والغوايةُ والشقاءُ ثمرةُ المخالفةِ والابتداع.
عبادَ الله: إن طاعةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- قضيةُ النجاةِ الكبرى، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلِي ومَثَلُكم كمَثَل رجلٍ أوْقدَ نارًا، فجعل الجنادبُ والفَراشُ يَقَعْنَ فيها، وهو يَذُبُّهن عنها، وأنا آخِذٌ بحُجَزِكم عن النار، وأنتم تَفْلُتُون من يدي"(رواه مسلم).
وتلك الطاعةُ النبويةُ ألزمُ ما يجبُ أن يحاسبَ المرءُ نفسَه عليها علمًا وعملًا وحالًا، سيما في أوقات الفتن العامةِ والخاصةِ ووجودِ الأئمة المضلين، وجدالِ المنافقين عليميْ اللسانِ، وإعجابِ كلِّ ذي رأيٍ برأيه، وبُروزِ النّزْعةِ العقليةِ، ومساربِ الهوى في تحكيم النصوص الشرعية؛ إذ لا نجاةَ من تلك الفتن الخطِرةِ التي عادةً ما يهوي في حُفَرها الكثير، ولا يسلم مِن إضلالها إلا مَن عَصَمَهُ الله بحبل التمسك باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- وطاعته، قال الإمام مالك: "السنةُ سفينةٌ نوحٍ مَن ركِبها نجا، ومَن تخلّفَ عنها غَرِق".
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله... أما بعدُ: فاعلموا أن أحسنَ الحديث كتابُ الله...
أيها المؤمنون: إن تحقيقَ طاعةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون في خَبَرِه وأَمْرِه تصديقًا للخَبَر، سيما ما تعلّق بالغيب الذي لا يمكنُ للحس إدراكُه، وامتثالًا للأمْر أداءً وكَفًّا واتباعًا، سيما ما خَفِيتْ حكمتُه، أو خالف الهوى، يُجلّي حقيقةَ تلك الطاعةِ النبويةِ حالُ أبي بكرٍ الصديقِ -رضي الله عنه- في تصديق خبرِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وامتثالِ أمرِه وإن اعترضها مِن دواعي الاعتراض ما دَعَاها؛ وذلك في خبرِ الإسراءِ، وأحكامِ صلحِ الحُدَيبة، قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: "لما أُسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى أصبحَ يتحدّثُ الناسُ بذلك، فارتدَّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسَعْوا بذلك إلى أبي بكر -رضي الله عنه-، فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعمُ أنه أُسري به الليلةَ إلى بيتِ المقدس؟ قال: أَوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئِن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تُصَدِّقُه أنه ذهب الليلةَ إلى بيت المقدس وجاءَ قبل أن يُصْبِحَ؟! قال: نعم، إني لأصدِّقُه فيما هو أبعدُ من ذلك، أصدِّقُه بخبر السماء في غدْوة أو روْحة؛ فلذلك سُمِّي أبو بكر الصديق"(رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
ولما اشترطتْ قريشٌ شروطَها الجائرةَ في صلح الحديبة أتى عمرُ بنُ الخطاب -رضي الله عنه- نبيَّ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ألستَ نبيَّ اللهِ حقًا؟ قال: "بلى" قال عمر: ألسنا على الحق وعدوُّنا على الباطل؟ قال: "بلى" قال: فلِمَ نعطي الدَّنيّةَ في دِيننا إذًا؟ قال: "إني رسولُ الله، ولستُ أعصيه وهو ناصري" قال: أوليس كنتَ تحدثنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطوفُ به؟ قال: "بلى، فأخبرتُكَ أنَّا نأتيه العامَ؟" قال: لا، قال: "فإنك آتيه ومُطَوِّفٌ به" قال عمر: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبيَّ الله حقًا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذًا؟ قال: أيها الرجلُ إنه لَرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس يعصي ربَّه وهو ناصرُه؛ فاستمسكْ بغَرْزِه، فواللهِ إنه على الحق!"(رواه البخاريُّ ومسلم).
التعليقات