عناصر الخطبة
1/ الكذب مرض يفسد المجتمعات الإنسانية 2/ أضرار الكذب 3/ الكذب في الأقوال والأفعال 4/ صور الكذب 5/ تحريم الكذب والوعيد عليه 6/ حالات يجوز فيها الكذباهداف الخطبة
اقتباس
أضرار كثيرة يجلبها خلق الكذب على المجتمعات الإنسانية، لأن شطراً كبيراً من العلاقات الاجتماعية والمعاملات الإنسانية تعتمد على شرف الكلمة، فإذا لم تكن الكلمة معبرة تعبيراً صادقاً عما في نفس قائلها، لم نجد وسيلة أخرى نتعرف فيها على إرادات الناس. كيف تتصورون مجتمعاً قائماً على الكذب؟! ما رصيد هذا المجتمع من ثقافة أو تاريخ أو حضارة؟! كيف يوثق بنقل الأخبار والتواريخ؟! كيف يوثق بالوعود والعهود؟!
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: مرض خطير يفسد المجتمعات الإنسانية، ويتسبب في هدم أبنيتها الحضارية، ويقطع روابطها وصلاتها، ورذيلة من رذائل السلوك، ذات الغدر البالغ، والتي لا يتصف بها المؤمن أبداً، إنه الكذب.
والكذب -يا عباد الله- ليس من الأمور التي فطر الناس عليها، إذ هو خلاف الفطرة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبى أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب". فهذا الحديث يدل على أن الإنسان مفطور في أساس تكوينه على حب الحق، وأن خلق الكذب إنما يكتسبه بعد ذلك في حياته اكتسابًا بعوامل شتى، منها البيئة، ومنها مؤثرات الأهواء والشهوات، ثم تتحول لعادة فتكون خلقاً مكتسباً.
عباد الله: هناك أضرار كثيرة يجلبها خلق الكذب على المجتمعات الإنسانية، لأن شطراً كبيراً من العلاقات الاجتماعية والمعاملات الإنسانية تعتمد على شرف الكلمة، فإذا لم تكن الكلمة معبرة تعبيراً صادقاً عما في نفس قائلها، لم نجد وسيلة أخرى نتعرف فيها على إرادات الناس. كيف تتصورون مجتمعاً قائماً على الكذب؟! ما رصيد هذا المجتمع من ثقافة أو تاريخ أو حضارة؟! كيف يوثق بنقل الأخبار والتواريخ؟! كيف يوثق بالوعود والعهود؟! كيف يوثق بالدعاوى والشهادات؟! كيف يصدق التاجر؟! وكيف يصدق الطبيب؟! وكيف يصدق العامل؟! إن مصير هذا المجتمع الانحلال والتفكك، ثم التخلف الحضاري الشنيع، ثم الخراب والدمار.
قال الله تعالى في شأن الكذب: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ). وقال سبحانه: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
عباد الله: قد يتصور بعض الناس أن الكذب يكون في القول فقط، وهذا تصور خاطئ، بل الكذب قد يكون في الفعل أيضاً، فقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث، أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود، وذلك على سبيل المخادعة بالفعل.
وربما يكون الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال، ومثال ذلك ما حكاه الله لنا في كتابه العزيز من أفعال إخوة يوسف -عليه السلام-، إذ جاؤوا أباهم عشاءً يبكون بكاءً كاذباً، وهذا من صور الكذب في الفعل، وقالوا: (يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)، ثم بعد ذلك جاؤوا على قميص يوسف بدم كذب، وهذا أيضاً كذب في الفعل قال الله تعالى: (يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
عباد الله: والكذب له صور شتى وأنواع كثيرة نذكر منها:
الكذب على الله ورسوله: وهذا من أشنع صور الكذب، لأنه افتراء في الدين، وتلاعب بشريعة الله، وتجرؤ عظيم على النار، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)، وقال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". وروى مسلم في صحيحه حديث سمرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو من الكاذبين".
ألا فليتق الله أولئك الذين يكذبون على الله وعلى رسوله باسم الدين، وليتق الله أولئك الذين يلوون أعناق النصوص الشرعية لهوى في أنفسهم، ولغرض يريدون الوصول إليه، وليتق الله أولئك الذين يفتون الناس كذباً إما لأنه قد اشتُريت ذممهم، أو لأنهم يجنون من وراء هذه الفتاوى الكاذبة مصالح لذوات أنفسهم والعياذ بالله.
ومن صور الكذب أيضاً: الكذب لإضحاك الناس، وهذه مسألة خطيرة لابد من التنبه لها -يا عباد الله-، كثير من الناس -هداهم الله- يتصدرون المجالس ويقومون بإضحاك الآخرين، ولكن إضحاكهم هذا يكون على حساب دينهم ونقص إيمانهم والعياذ بالله.
روى الإمام أحمد في مسنده، وكذلك جاء في سنن الترمذي وأبي داود والدارمي عن بهز بن حكم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ويل له". ما بالكم بهذا الحديث -أيها الإخوة-، يدعو عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالويل لمن يكذب ليضحك الآخرين. وما بالكم إذا كان هذا الإضحاك أكاذيب ملفقة على أشخاص معينين يؤذيهم بالحديث عنهم، هذا يكون حاله أشد. وما بالكم لو كان هؤلاء الأشخاص ممن عرفوا بالصلاح والتقوى، فهذا أشد من سابقه، فاتقوا الله -عباد الله- ولا يكن حديثكم إلا حقاً.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما زال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً".
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
عباد الله: فكما أن الشريعة الإسلامية حرمت الكذب وجعلته من الكبائر، توعدت لمرتكبها بالخزي في الدنيا وفضيحته أمام الناس، وبالوعيد الشديد يوم القيامة، ومع هذا كله فإن هناك بعض الحالات التي يجوز فيها الكذب تحقيقاً لمصلحة هي أعظم مما في الكذب من مضرة، أو دفعاً لضرر هو أشد مما في الكذب من ضرر.
فمن الحالات التي يجوز فيها الكذب: الكذب على العدو في حالة حربه للمسلمين، ولكن لا يدخل في هذا جواز الكذب على العدو بمعاهدته ثم الغدر به، فهذا غير جائز قطعاً. فمن أمثلة الكذب الجائز على العدو، ما لو وقع مسلم في أسر الأعداء، فسُئل عن مواقع المسلمين الحربية، أو عن عدد المسلمين، فمن واجب المسلم في هذه الحالة أن لا يعطي العدو فرصة معرفة ما يمكنه من النكاية بالمسلمين وكيدهم، بل الواجب عليه كتم الحقيقة، والحرج من الكذب في مثل هذه المواقف سذاجة وغفلة وعدم فهم في الدين.
ومعلوم أن الحرب خدعة، وكما جاز القتال في الحرب وهو في الأصل محرم؛ لأن الضرورة دعت إليه، جاز الكذب على العدو في حالة الحرب؛ لأن الضرورة دعت إليه أيضاً.
ومن الحالات التي يجوز فيها الكذب أيضاً: أن يتوسط إنسان للإصلاح بين متخاصمين، بحيث لا يجد وسيلة للصلح بينهما سوى أن يكذب، فيجوز له ذلك بمقدار الضرورة، أما إذا تسنى له أن يوري بأقواله دون أن يكذب فهو خير له، يقول -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه البخاري ومسلم عن أم كلثوم قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيراً أو يقول خيراً".
فهذه الحالة من الحالات التي رخص الإسلام فيها بالكذب على مقدار الضرورة، ومهما أمكن الإصلاح بوسيلة أخرى غير الكذب فهو أفضل وأحب إلى الله ورسوله.
ومن الحالات أيضاً التي يجوز الكذب فيها: حديث الرجل لامرأته وحديث المرأة لزوجها في الأمور التي تشد أواصر الوفاق والمودة بينهما، فهذه حالة يتسامح فيها بشيء من الكذب لتوثيق روابط الأسرة ولإضفاء مجالس الأنس بين الزوجين.
وروى مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سنه عن أم كلثوم بنت عقبة قالت: "لم أسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يرخص في شيء من الكذب مما تقول الناس إلا في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل إمرأته وحديث المرأه زوجها".
وروى الترمذي في جامعه عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس: ما يحملكم أن تتابعوا على الكذب كتتابع الفراش في النار، الكذب كله على ابن آدم حرام إلا في ثلاث خصال: رجل كذب على امرأته ليرضيها، ورجل كذب في الحرب، فإن الحرب خدعة، ورجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما".
التعليقات