هم العدو فاحذرهم (2)

حفيظ بن عجب الدوسري

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ محاسن الفتوحات الإسلامية 2/ العداء بين الإسلام والنصرانية لن تنتهي (قصص تاريخية) 3/ استمرار الحملات الصليبية ضد المسلمين 4/ لماذا يكرهون الإسلام والمسلمين؟ 5/ مذابح النصارى ضد المسلمين 6/ بعض فتوحات المسلمين 7/ تضحيات المسلمين وثباتهم 8/ قوة المسلمين تكمن في اجتماعهم حول كتاب الله 9/ كيف استطاع الغرب تفريق المسلمين؟ 10/ العودة إلى الإسلام الذي يجمعنا جميعا 11/ مخططات الغرب صد الإسلام 12/ بعض الأعمال الخبيثة التي قام بها أتاتورك 13/ معاني جميلة للخلافة الإسلامية 14/ لن تعود الخلافة الإسلامية إلا بتضحيات 15/ أهداف الاستعمار بعد سقوط الخلافة الإسلامية 16/ أسباب خوف الغرب من الإسلام 17/لا صلاح للعالم إلا بالإسلام
اهداف الخطبة

اقتباس

ولما سقطت الأندلس ظن الغرب أن شوكة الإسلام قد كسرت، ولكنها ما لبثت أن اشتدت شدة وقوة، حيث اتجه جند الله إلى أنحاء أخرى من العالم ففتحوها، ورفعوا في سمائها علم التوحيد والجهاد، ولما استعمر النصارى شرق البحر المتوسط، وحطوا رحالهم في...

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كنا تحدثنا عن عداء أمم الكفر للإسلام، وخصوصا اليهود، وتحدثنا عن شيء من اجتماع ملل الكفر على المسلمين، ومما لا شك فيه أن عداء النصارى للإسلام لا يقل خطورة، ولا مكرا عن عداء اليهود؛ لأن مورد هذا العداء الثنائي واحد، ألا وهو الحقد على الإسلام، عقيدة ومنهجا، ولن ينطفئ هذا الحقد إلا باختفاء المسلمين من الوجود.

 

أو لم يقل الله -تعالى-: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120].

 

لن ترضى عنك -أيها المسلم- حتى تتبع ملتهم، ومن اتبع ملتهم ارتد وكفر، وخرج من ملة الإسلام، ولذلك فإنهم لن يرضوا حتى نتبعهم، وما دمنا لا نتبعهم ونبرأ إلى الله منهم ومن كفرهم، فإنهم لن يرضوا عنا، وسيحاربوننا وسيكيدون لإسلامنا العظيم: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).

 

أيها المسلمون: أيها الموحدون: لقد كانت الفتوحات الإسلامية نقلة هائلة؛ حولت الروم عن دينهم وديارهم إذ أسلم سوادهم الأعظم، بينما أمست ديارهم الشام ديارا إسلامية تنطلق منها كتائب الفتح إلى ما وراءهم من البلدان والأمم، وسقوط مملكة الرومان في أيدي المسلمين، وما أعقب ذلك من فتح القسطنطينية، وطرق أبواب روما، والتوغل في الأندلس وفرنسا ترك عندهم ركام من الأحقاد والعداوات الصليبية التي تجسدت في حملاتهم الصليبية المسيرة على العالم الإسلامي.

 

ورغم أن الفتح الإسلامي لمعاقل النصرانية كان في حقيقته نقلة جبارة للعالم الغربي، حولته من جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، أو ليس هذا هو كلام ربعي بن عامر - رضي الله عنه -: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

 

هكذا بعثنا، وهكذا يجب أن نكون.

 

أيها المسلمون: لم يعرف العالم بشهادة الغرب وشهادة أحد الفرنسيين منهم بقوله: "لم يعرف العالم فاتحا أرحم من العرب".

 

إلا أن رحمة المسلمين لغيرهم لم تتمكن من صهر الأحقاد، ونبذ خبث القلوب الذي شحنت به أفئدة النصارى ضد هذا الدين، فكانت هناك ثلاث مواجهات دامية لطخت جبين التاريخ، تحت أقدام مجرمي الصليب.

 

بين الإسلام والنصرانية حرب لا تنتهي، وعداوة لا تزال مستمرة، حتى نتبع ملتهم، ولم يفلحوا ولن نتبع إلا دين الله، وسيبقى الإسلام شامخا عظيما مرتفعا بطائفة الحق المنصورة، التي لا تزال على الحق واليقين والهدى حتى تقوم الساعة.

 

وقصتنا مع النصرانية في الأندلس عظيمة، أو لم نبنِ حضارة عظيمة في الأندلس؟ أولم نقم دولة إسلامية عظيمة ترتفع بالحضارة السامية بسمو الأخلاق؟ أو لم نضرب مثلا للعالم كله فيما فعلنا في الأندلس؟ أمة رفعت أمما من بعدها، وأحيت العالم بعد أن كان هالكا، إنهم المسلمون.

 

أيها المسلمون: لما تراجع المسلمون القهقرى، وفقدوا أندلسهم، وسيطر عليها النصارى الكافرون، وتمكنوا من ذبح المسلمين حيث هزم الموحدون في وقعة العقاب، ولا زال بساط السلطة يسحب من تحت أقدام المسلمين في الأندلس، حتى وقعت برمتها وحذافيرها فريسة في أيدي النصارى، ويومئذ ارتفع علم الصليبين، وذاق المسلمون الإبادة والنفي والهوان، حتى استأصلت شَأْفَتَهُمْ في الفردوس المفقود، ولأول مرة في التاريخ يباد شعب بأسره، وهذه عادة النصرانية على مر التاريخ في جرائمها وخبثها وانتقامها.

 

ويروي لنا الثقات أن من قتل ثلاثة ملايين والباقي هم بين جريح، ومع كسوف شمس المسلمين في الأندلس، وسقوط دولتهم، وفقدان فردوسهم، اعتصرت قلوب البشرية أسى ولوعة على هذه النكبة التي ألمت بالعالم، فبكى المسلمون، وتألم المنصفون، وكان من أشهر المتأثرين بواقع الجراح شاعر من شعراء الأندلس:

 

تبكي الحنيفيةُ البيضاءُ من أسفٍ *** كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ

على ديارٍ من الإسلام خاليةٍ *** قد أقفرتْ ولها بالكفر عُمرانُ

حيث المساجد قد صارت كنائسَ *** ما فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ

حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ ***حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ

 

ورحم الله المسلمين الذين قتلوا في الأندلس: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140].

 

ولما سقط الإسلام في الأندلس سقطت حضارة عظيمة لم يبكِ عليها المسلمون، بل اعترف بها أهل الكفر، وبكى عليها الكافرون، يقول أحدهم: إن انتكاسة المسلمين في الأندلس، وخروجهم من الفردوس المفقود، جرح لا يندمل إلا بعودة الخلافة التي تبسط رداؤها، ليس على الأندلس وحسب، بل تتعدى ذلك لتعيد قرعة طبول النوازل على هؤلاء الراقصين على جراحنا، المترنمين بآهاتنا، المتاجرين بآمالنا وأموالنا، الذين يعملون لحساب الكافرين، نصارى كانوا أو يهودا.

 

إن هؤلاء الراقصين على جراحنا، الحاكمين لبلاد المسلمين، المتسلطين علينا، ما هم إلا أذناب لليهودية والنصرانية، وهم يعملون لحساب الكفر والكافرين، فرقونا، وشتتوا شملنا بعد أن كنا أمة واحدة، بعد أن كنا لا نفترق، وليس لنا مسميات أوطان.

 

فأينما ذُكر اسمُ اللهِ في بلدٍ****عددتُ ذاكَ الحمى من صلبُ أوطاني

 

لم يندمل جراح المسلمين إلا إذا عادت لإسلامنا قوته وسطوته، فعاد من جديد بطرق أبواب المشرقين، بحمل القرآن الكريم للخافقين، وإن غدا لناظره لقريب؛ إذا عدنا إلى الجهاد، ولم نحب الدنيا، ولم نرض بالزرع، ولم نتبع أذناب البقر؛ ارتفعنا من الذل، وعلا شأننا.

 

أيها المسلمون: إن الحروب الصليبية بدأت منذ أمد طويل ولا زالت مستمرة حتى أيامنا هذه، وفي كل زمن، وكل سنة يأخذ الراية نصراني مختلف، ودولة نصرانية مختلفة، في كل زمان ومكان تتغير الأسماء، ولكن الحروب الصليبية ضد المسلمين مستمرة.

 

كانت تهدف هذه الغزوات في بدئها إلى الاستيلاء على الأماكن المقدسة لدى المسلمين -أيها المسلمون- تهدد الجزيرة العربية، ومهد الإسلام، والدول المجاورة للشام، فكانوا يريدون الأماكن المقدسة من أيدي المسلمين، استولى الصليبيون الأوروبيون فعلا على القدس، وعلى عامة مدن الشام وقلاعه، وطمعوا في مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا أكبر خطرا على الإسلام والمسلمين بعد فتنة الردة.

 

أيها المسلمون: لقد كانت نقطة البداية لهذه الغزوات في سنة 295 ميلادية، حيث قاد بطرس الناسك حملة صليبية شعبية قضى عليها الأتراك في البلقان، وبعدها بعام واحد انطلقت الحملة الصليبية العسكرية الأولى التي تمكنت من احتلال القدس سنة 492هجرية، ثم تتابعت الحملات الصليبية على العالم الإسلامي حتى كان آخرها حملة ملك فرنسا لويس التاسع الثامنة عام 1270م على تونس، فماذا أراد الصليبيون من هذه الحملات؟

 

أراد النصارى إشفاء غليلهم من المسلمين، وأرادوا أخذ المقدسات، وإلهاء المسلمين عنها، وأرادوا الانتقام من المسلمين.

 

أيها المسلمون: نرى رواد هذه الغزوات عند نزولها في بيت المقدس يتبارون في الفتك بالمسلمين بإراقة دمائهم، وهتك أعراضهم، وتهجير أبنائهم، وفوق كل ذلك كله تدنيس مقدساتهم، فهل ينسى المسلمون وهل ننسى ما فعله الصليبيون المتحضرون كما يزعمون يوم استسلم لهم مسلمو القدس، فذبحوا منهم أكثر من سبعين ألفا دون تمييز بين رجل وطفل وشيخ وفتاة، أو لم يفعلوا ذلك؟!

 

التأريخ يحكي وهو لا يكذب، وبه تحدثوا هم حتى مؤرخو الكفار من الصليبيين اعترفوا بذلك، وقتل الفرنجة بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان، وقد نهبوا أموال المسلمين حتى القبور نبشوها، فنهبوا ما فيها، واستباح الفرنجة بيت المقدس، وأقاموا في المدينة أسبوعا ينهبون ويدمرون.

 

إنهم يكرهون المسلمين والعرب بالذات؛ لأنهم هم الذين حملوا الإسلام حتى أصبح بعض المسلمين يلقون أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويجعلونهم طعاما للنار، ويخرجونهم من الأقبية، وأعماق الأرض، ويجرونهم في الساحات، ويقتلونهم فوق جثث الآدميين، أفلا نتذكر هذا التاريخ؟!.

 

حدثت في بيت المقدس وحده مذبحة رهيبة، وكان دم المقهورين يجري في الشوارع، حتى لقد كان الفرسان يصيبهم رشاش الدم وهم راكبون، وعندما أرخى الليل سدوله جاء الصليبيون وهم يبكون من فرط الفرح، وخاضوا الدماء التي كانت تسيل كالخمر في معصرة العنب، واتجهوا إلى الناقوس، ورفعوا أيديهم المضرجة بالدماء؛ يصلون لله شكرًا.

 

كان الصليبيون في كل بلد يدخلونه يقتلون أهله، ويخربون عمرانه، ويحرقون كتبه ومتاعه وآثاره، بعد أن قتلوا ما يزيد على مائة ألف، وأسلموهم للنار، هكذا هم الصليبيون، وهكذا كانت معاملة الصليبية للمسلمين، فكيف كان الانتقام؟!.

 

لما أذن الله -تعالى- لبيت المقدس أن يتنفس الصعداء، تقدم الإسلام يزحف بقيادة عماد الدين زنكي من الموصل، رغم أنه ليس من العرب، بل ينتسب إلى العرق الكردي، ولم ينحدر من سلالة عدنان ولم ينسل من ظهر قحطان، بل نبت من دوحة الإسلام الفارهة، واستشهد عماد الدين -نحسبه والله حسيبه-، وواصل ابنه نور الدين زنكي مسيرة البلاء والعناء والمرارة والضناء، وقد أعاد بسمته الصالح، وعدله وهديه سيرة الخلفاء الراشدين، فكان بعض المؤرخين يعدونه سادس الخلفاء الراشدين، ودخل نور الدين دمشق، ولكن عينه ترنو إلى بيت المقدس، وقلبه يهفو إلى المسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، وقتل نور الدين سنة 569هـ، وتسلم الراية صلاح الدين الكردي، ودخل دمشق سنة (575 هـ)، وأخذ يجمع المسلمين تحت هذه الراية، ويزحف حتى التقى بجحافل الصليبيين في حطين 25 من ربيع الثاني سنة583 وهزمهم شر هزيمة:

 

لما تحكمت الأسنة فيهم *** جارت وهن يجرن في الأحكم

فتركتهم خلل البيوت كأنما *** غضبت رؤوسهم على الأجسام

 

وواصل جيش الإسلام زحفه والأكاليل فوق مفرقيه، ورايات النصر تظلل عطفيه، حتى وصل بيت المقدس سنة (583ه)، وفي هذا اليوم تجلت سماحة الإسلام، وأشرقت أخلاق المسلمين النبلاء؛ كالشمس إذا تسطع، فتبدد الظلمات.

 

كانت سماحة الإسلام، وسمو تعاليمه في ذلك اليوم تزكيان الروح الجهادية يوم هزمهم، وأسر عشرات الألوف، منهم أبت نفسه المسلمة أن تعاملهم بالمثل، فنحن المسلمون أعظم من حكم، وأرحم من عفا، نحن هكذا نقتدي برسولنا - صلى الله عليه وسلم -.

 

ولذلك حقن دماءهم، وساعدهم على الرحيل، وافتدى عدد من أسراهم، أو ليست تلك صفاتنا نحن المسلمين؟ إي ورب الكعبة.

 

إن هذه الروح السامية، والمعاملة المثالية، هي التي أخرجت خير أمة أخرجت للناس، ودفعتها لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتودع بذور المبادئ النبيلة، والسجايا الحميدة، تربة التأريخ، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت، واستحالت بذور الصلاح فيها، رجالا يحملون الخير والهداية إلى مختلف أجناس البشرية، كانت الحاكمية في الأرض لله وحده.

 

ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح

وحللتم قتل الأسارى وطالما ***غدونا على الأسرى نعف ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** فكل إناء بالذي فيه ينضح

 

فننضح بالعفو والإحسان والسماحة والوفاء، وأنتم لا إلى هذا ولا إلى ذاك، لقد هال أعداء الإسلام قوة المسلمين، وحضارتهم الشامخة، ورقيهم واندفاعهم وحماسهم، فتصدعت من هولها القلاع، وهوت أمام المسلمين الحصون، فما هي إلا سنوات قلائل، حتى توطنت للإسلام قدم في الهند، وأخرى في الأندلس.

 

كان المسلمون لا يستمرؤون الذل والهوان، فما أن تسقط لهم دولة حتى يعيدوا الكرة من جديد، فينفضوا غبار التأريخ عن رؤوسهم، وتثور ثائرتهم خلف قائد ملهم، يوحد الصف، ويجمع الشمل على طريق المنعة، والسؤدد والرقي.

 

أيها المسلمون: وعندما يتعرض المسلمون للشدائد يضربون أروع المثل في الثبات على دينهم، والذب عن حياض عقيدتهم، مضحين في سبيل ذلك بالنفس والنفيس، فالمغول والتتار الذين خالهم التاريخ سيغيران مساره، ويقيدان الإسلام ويوثقانه، عاد أخيرا إلى جادة الصواب، فدخلوا في دين الله أفواجا، وعادت دولة الإسلام من جديد.

 

ولما سقطت الأندلس ظن الغرب أن شوكة الإسلام قد كسرت، ولكنها ما لبثت أن اشتدت شدة وقوة، حيث اتجه جند الله إلى أنحاء أخرى من العالم ففتحوها، ورفعوا في سماءها علم التوحيد والجهاد، ولما استعمر النصارى شرق البحر المتوسط، وحطوا رحالهم في بيت المقدس، تراءى للناس أن الإسلام قد غفا وعفا عليه الزمن، ولكنه هب من سباته، فطرد الفرنجة، وطهر القدس، وصان المقدسات من جديد.

 

ولما اعتقد أعداء الأمة أنهم قصوا أجنحة الخلافة، وأغمضوا وأخمدوا أنفاسها، عادت فانبعثت من جديد في بلاد الترك على يدي سلاطين آل عثمان، الذين حملوا الإسلام، وصاروا به شمالا حتى البحر الأسود، وجنوبا حتى وسط أفريقيا السوداء، وأخرج الله من بينهم محمد الفاتح الذي حمل أعباء فتح القسطنطينية، فقام بما عجز عنه الفاتحون القدماء.

 

أيها المسلمون: لما سقطت منارة بني عثمان في اسطنبول كر الصليبيون ثانية على عالمنا الجريح، وهم يوقنون أن بعثا إسلاميا سيغير مجرى التاريخ مرة أخرى؛ لأنهم من خلال التجارب المريرة قد اكتووا بنار الصحوة الإسلامية، وبنار الطائفة المنصورة التي لا تزال باقية ومنتصرة مرارا وتكرارا، وعليهم الآن أن يبذلوا ما يستطيعون من تضحية ومكر لمنع أي انبعاث للإسلام، وقيام لدولة الخلافة، "فرق تسد" ذلك كان شعار الصليبيين.

 

ما يميز الإسلام في قوته اجتماع المسلمين حول كتابهم المقدس؛ القرآن الكريم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك ابتدأ الغزاة أولا بتفتيت صخرة الوحدة الإسلامية؛ ففرقونا، ولذلك مستعمرو هذا الزمن كان هدفهم الغالي تمزيق شمل المسلمين، انطلاقا من مثلهم الذي جعلوه شعارا لهم، ووجدوا ضالتهم المنشودة "فرق تسد" ففرقوا المسلمين، وتقاسموا بلادهم وديارهم، واستعمروها وسيطروا عليها.

 

ولا زالوا في بلادنا يقطعون أوصال أمتنا يوما بعد يوم، وكلما زادت الرايات في عالمنا كلما سهل الاستعمار الأجنبي أن يأخذ بزمامه، ويقيده إلى الهاوية، انطلاقا من مبدأ "فرق تسد"، وقد أغروا هؤلاء السفهاء من الراقصين على جراحنا، والحكام الظالمين والطواغيت عملاء الغرب، حتى ظهرت على خارطة العالم بضع وخمسون دولة، أو قل ستون، زادت أو نقصت، المهم أنهم فرقونا، واستأصلونا، وجعلونا مقسمين.

 

أيها المسلمين: استأصلت فلسطين والأندلس من جسد العالم الإسلامي، واستأصلت بلاد مسلمة بتسليمها للروافض أعوانهم وعملائهم الكافرين، الذين هم أشد عداء على المسلمين من الكافرين، وأخذوا يتفقون معهم، والكفر ملة واحدة، وكذلك النصارى، وتمكن الغرب بالقضاء على وحدة المسلمين، فكسب وخسرنا، وانتصر وهزمنا، ولن ننتصر إلا بالعودة إلى الوحدة الإسلامية.

 

أيها المسلمون: لا يزال الكفار والمستعمرون النصارى يتوجسون خوفا من أن يندمل هذا الجرح يوما، فيأتي المسلمون فيخرج منهم قائد يجمعهم على "لا إله إلا الله" فيقاتلونهم فينتصرون عليهم، وهم يعلمون أن هذا واقع لا محالة.

 

أيها المسلمون: كيف فرقنا النصارى واليهود؟ كيف فرقنا الغرب؟

 

بثوا بيننا القوميات، وأصحب شعار الوطنية منتشرة بيننا، فأصبحنا نتسمى بأسماء مختلفة "وطنية" ما أنزل الله بها من سلطان "ترابية " ليست من الدين ولا الإسلام، القومية التي فرقتنا، فجعلتنا عربا نختلف عن إخواننا المسلمين.

 

"المسلم أخو المسلم" ولم يقل القومي أخو القومي، أو العربي أخو العربي، بل "المسلم أخو المسلم"، لا والذي بعث محمدا بالحق لم يكن العرب إلا رعاة شاة، يقتل بعضهم بعضا، ويسفك بعضهم دم بعض، وما عرف العرب العز والسؤدد إلا بالإسلام الذي جعل منهم أمة ذات شأن، تهابها الملوك، وتتساقط أمامها التيجان، ولا أصدق في وصف العرب من مقولة جعفر بن أبي طالب بين يدي النجاشي في الحبشة: "أيها الملك كنا قوم أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ونأكل منا القوي الضعيف".

 

فهل يتباهى القوميون بأبنائهم قطاع الطرق، ووائد البنات، أم أنهم يتباهون بأكل القوي الضعيف: (نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأنعام: 143].

 

لا قومية ولا عروبية، بل إسلام ودين، وتوحيد ومنهج؛ تجمع بيننا "لا إله إلا الله"، وموقف الإسلام جلي واضح ممن دعا إلى قومية أو شعوبية أو وطنية، فذلك كله مع اختلاف المسميات يندرج في العصبية الجاهلة، التي قال عنها حبيبنا - صلى الله عليه وسلم -: "دعوها فإنها منتنة".

 

وقال: "ليس منا من تعزى بعزاء الجاهلية".

 

وقال: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعْضُوهُ بِهِنَّ أَبِيهِ، وَلَا تُكَنُّوا"

 

فنحن ليس لنا إلا أن نتمسك بالإسلام، وليس لنا أن نتمسك بالعروبيات ولا القوميات: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة: 24].

 

أيها القوميون: أيها الوطنيون: إن وطنيتكم وقوميتكم خطر على عقيدتكم، قد تجركم إلى التواد والتحاب مع أعداء الله ورسوله بذريعة اجتماعكم معهم باللسان، أو الأرض، أو نحو ذلك، والله -تعالى- يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)[المجادلة: 22].

 

فإخوتنا أخوة الدين، فعودوا إلى الإسلام الذي يجمعنا، ولا جامع لنا سواه، والوطنية لا تغني شيئا، نحن نحب مسكننا الذي نسكن فيه، ولكننا لا نعادي ولا نوالي من أجله، بل نحن نعادي من أجل "لا إله إلا الله"، ونوالي من أجل "لا إله إلا الله".

 

احذروا -أيها المسلمون- من القومية والوطنية التي روج لها الغرب بين المسلمين، ثم لما رأوا أنها بدأت تضمحل، روجوا للعلمانية، فخرج من المسلمين من يفصل الدين عن الدولة، من استبدل الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين بولاء للأرض والدم والجنس.

 

ورأوا أنه لابد أن يحكموا من إغلاق فوهة بركان الإسلام الثائر، فوضعوا العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، وأصبح المسلمون في هذا الزمان ينتشر بينهم مذهب العلمانية، وأصبح بعضهم من أهله إن شعر أو لم يشعر، وسعى الغرب إلى ترويج القومية والوطنية والعلمانية، ثم سعى إلى هدم الخلافة، وتفريق المسلمين، فقاد العسكريون من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بإيعاز من الصهيونية العالمية والاستعمارية ثورة ضد السلطان عبد الحميد، تمخضت عن تفريغ مضمون الخلافة الإسلامية، وتحويلها إلى طلل يتربع على سدته خلفاء رنجيون، لا وزن لهم في تدبير الأمور، أو تسيير الدولة، وهم: محمد رشاد، ثم محمد الخامس، فمحمد السادس، وأخيرا السلطان عبد المجيد.

 

وفي عام 1924 والتأريخ لا يكذب، وبالتحديد في أوائل شهر مارس أعلن كمال أتاتورك إلغاء الخلافة الإسلامية التركية، ثم نحا بالبلاد منحى آخر على أشكال، فبعد أن ألغى الخلافة الإسلامية فصل تركيا عن المسلمين أعلن العلمانية الإلحادية، اضطهد علماء مسلمين، علقهم على المشانق، وعلق جثثهم على أعواد الشجر، أغلق كثيرا من المساجد، حرم الأذان باللغة العربية، أجبر الشعب على تغيير زيه الإسلامي ولبس الأوروبي، ألغى الأوقاف، منع الصلاة في جامع آيا صوفيا وحوله إلى متحف، ألغى المحاكم الشرعية، وفرض القوانين المدنية السويسرية، فرض العطلة الأسبوعية يوم الأحد بدلا من يوم الجمعة، ألغى استعمال التقويم الهجري واستبدله بالتقويم الميلادي، ألغى قوانين الميراث والزواج والأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية، وحرم تعدد الزوجات والطلاق، وساوى بين الذكر والأنثى في الميراث، شجع الشاب والفتاة على الدعارة والفجور، أباح المنكرات، وضرب بنفسه المثل في ذلك، إذ كان يهوديا متزينا بزي المسلمين، وهو ليس من المسلمين أبداً، ولذلك فإنه قضى على التعاليم الإسلامية في جميع مراحل الدراسة، بل منع تدريس القرآن الكريم، واستبدل الحروف العربية الذي فهمها الأتراك طوال ألف سنة بالحروف اللاتينية.

 

هذا الكافر اللعين سعى إلى حذف الكلمات العربية من اللغة لإبعاد الأتراك عن المسلمين وعن العرب، فتح الباب لعلماء يهود، وأسس حزب الشعب، ومارس عن طريقه كل وسائل الإرهاب والبطش، وأمام هذه التحولات في تاريخ الخلافة الإسلامية بكى المسلمون على منارتهم: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140].

 

لقد بكى التاريخ قبل أن يبكي المسلمون، وحق لكل أن يبكي لإلغاء هذه الخلافة العظيمة، وكان وجود الخلافة في المسلمين يتضمن لديهم معاني جميلة، من أهمها:

 

1- أن بقاء الخلافة يعني وجود نظام سياسي، يجمع شمل المسلمين مهما بلغ واقع حال هذا النظام إلى مستوى من الضعف والرمزية بفضل دسائس الاستعمارية.

 

2- أن بقاء الخلافة دليل على استمرار تأريخ المسلمين.

 

3- أن بقاء الخلافة يعني بقاء الرباط الذي يبرر للمسلمين الاشتراك والمساومة والمساهمة في الدفاع الدولي عن دفاع المسلمين.

 

4- أن بقاء الخلافة يقضي في أدنى الحدود الرمزية بأن لا تقوم بين بلادهم حواجز مصطنعة، وهم قد صنعوا الحواجز، فأصبحنا نرى بين كل بلد وبلد مسلم حدودا وحواجز، وأصبح المسلمون مسجونين في بلادهم، ولا يجتمعون إلا بالوطنية والقومية.

 

أيها المسلمون: فرح أهل الكفر والعلمنة والنفاق والقومية بسقوط الخلافة، وحزن أولياء الله الصالحون، حزن الإسلام على سقوط الخلافة.

 

أيها المسلمون: إن الخلافة لن تسقط إلا على جثث المجاهدين الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم في سبيل الله ذودا عن معلم بارز من معالم دولتهم الإسلامية، ولن تعود الخلافة إلا بتضحيات كتلك إن لم تكن أكثر، وكما قالوا: "ما ضاع بالقوة لا يعود إلا بالقوة" وهذا زمن التضحيات، وقبل التحول عن ذكر الخلافة سأل من سأل: هل ستعود الخلافة؟ وهل ستقر أعيننا باجتماع كلمة المسلمين تحت خليفة رباني؟

 

لا شك أن هذا هو ما سيتمخض عنه المستقبل، وهو من أعلام نبوة حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-.

 

أيها الأحباب: عنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلاً يَكُفُّ حَدِيثَهُ، فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، فَقَالَ: يَا بَشِيرُ بْنَ سَعْدٍ، أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الأُمَرَاءِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا أَحْفَظُ خُطْبَتَهُ، فَجَلَسَ أَبُو ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةٍ. ثُمَّ سَكَتَ".

 

أيها المسلمون: لقد اغتصب الغرب أراضي المسلمين لما سقطت الخلافة، وأصبحت بلاد المسلمين بينهم مقسمة مجزئة، واستعمروها وأكلوا ثرواتها، ولكن كان لهم أهداف أرادوا أن يحققوها من الاستعمار بعد سقوط الخلافة؛ تزعم هؤلاء اليهود والنصارى:

 

أولا: زعزعة المعتقد الإسلامي، وهي قص لجناح الطائر لمنعه من التحليق ثانية، فإذا كان المعتقد ساقط فإن ما سواه يسقط.

 

ثانيا: وأرادوا أيضا من أهدافهم: تحقيق تبعية العالم الإسلامي للغرب، فأصبح أغلب المسلمين ذنب للغرب، لا يسير إلا تحت أمرهم، وحسب مشيئتهم، وعملاء الغرب في بلاد المسلمين من الطواغيت والعلمانيين والمنافقين والظالمين كثير: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].

 

اللهم أزل عروش الظالمين العملاء المنافقين.

 

ثالثا: ومن أهدافهم التي أرادوا منها استعمار البلاد الإسلامية: استبدال أنظمة الحكم الإسلامية بأخرى تتجاوب مع القوى الاستعمارية، فهدموا الحكم الإسلامي، ونحن نرى الثورات تقوم فتحكم العلمانية ولا تحكم بشرع الله: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[المائدة: 44].

 

(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[المائدة: 45].

 

(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 47].

 

وكثير من المسلمين حتى مع ظهور روح الحمية فيهم لم يحكموا شرع الله، بل تحاكموا إلى القوانين الوضعية التي تخرج من دان بها من ربقة الإسلام.

 

أيها المسلمون: لما أسر لويس ملك فرنسا وقائد الحملة الصليبية الثانية الذي هزم وأسر في المنصورة، ثم افتدى نفسه وعاد إلى بلاده ليوصي بني ملته بنصيحته الغالية، ولا يزال المسلمون يتذكرونها، انظروا إلى هذه النصيحة، يقول: لابد من تحويل الحملات الصليبية العسكرية إلى حملات سلمية، تستهدف ذات الغرض، ولا فرق بين الحملتين إلا من حيث نوع السلاح الذي يستخدم، تجنيد المبشرين الغربيين في معركة سلمية لمحاربة تعاليم الإسلام، ووقف انتشاره، ثم القضاء عليه معنويا، العمل على استخدام مسيحي الشرق في تنفيذ سياسة الغرب، العمل على إنشاء قاعدة للغرب في قلب الشرق العربي يتخذها الغرب نقطة ارتكاز له ومركزا لقوته، وإن لم يكن اليهود كذلك فمن هم ومعهم الرافضة.

 

ولما ظهر للمستعمرين أن خططهم قد تخرج أمام العراء، وأنها قد تفضح بخروج المسلمين من رقة الظلم والسيطرة من عملاء الغرب الكافر، بدؤوا يبعثون البعثات إلى الخارج، فبدأ بعض أبناء المسلمين يتعلم في بلاد الكفار، فيرجع علمانيا منافقا، مواليا للغرب، يحارب الإسلام، ويدافع عن الكافرين، نشروا المدارس الأجنبية والتبشيرية، المدرسين الأجانب الذين استقدموا لمدارس المسلمين، اقتبسوا مناهج التعليم من مناهج الكفار فبثوها بين مناهج المسلمين، ورضوا بها حكام المسلمين، وصدق حبيبنا - صلى الله عليه وسلم-: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ".

 

فألد أعدائنا هم اليهود والنصارى، وهم من أكثر من يكيدون لنا، وهم من روجوا للفرقة بيننا، وحاربونا ظاهرا وباطنا، وأنتم ترون أن بلاد المسلمين أصبحت نهبا بأيديهم، هذا يعزلونه، وهذا يسجنونه، وهذا يقتلونه، فبلاد المسلمين أضحت بأيدي الكفار وهم يتحكمون فيها.

 

عجيب أمر هذا العالم كله متصارع متناحر متباعد إلا أنه إذا كان الأمر ضد الإسلام أصبح الكفر ملة واحدة، وأصبحوا يحاربوننا مجتمعين: المنافقون، اليهود، الأعراب، الرافضة، النصارى، المجوس، الهندوس، أهل الإلحاد؛ بأسهم بينهم شديد، ولكنهم يأتلفون ويتألفون ضد المسلمين: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) [البقرة: 113].

 

لكنهم اليوم مع بعضهم قد اتفقوا علينا، فسرنا كالفريسة للكلاب، وأصبحوا يحاربوننا مجتمعين: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)[الحشر: 14].

 

إلا علينا فإنهم يجتمعون، وهذا تناقض عجيب، ولكن هذا ما يحصل في العالم قديما وحديثا، ومن رأى اليوم سيرى أن الإسلام هدفهم، وأنهم يحاربونه، ومن تمعن في التاريخ وجد أن أعداءه ينطلقون إلى حربه بدوافع الحقد والخوف والثأر، وكل هذه الأسباب دفعته إلى حرب المسلمين، توارث الأعداء الحق على الإسلام سلفا عن خلف، وتلقاه جيل عن جيل، فكان عقيدة راسخة عند اليهود والنصارى، وعند الرافضة، وعند المجوس، وعند الهندوس، وأهل الإلحاد، عواطفهم تحركهم نحو حرب المسلمين، الجندي الحاقد يستطيل حقده على تصويب سيفه، والكاتب الحاقد يسيل حقده مع مداد قلمه، والمفكر الحاقد يسيطر بحقده على بنيات أفكاره، فيذهب في حرب الإسلام، ويوجهها حربا فتاكة.

 

الخوف من الإسلاميين لا يخاف الصليبيون واليهود ومن معهم من ملل الكفر من أحد كخوفهم من الإسلام الذي يبدو لهم شبحا مروعا، وليثًا ثائرا، لا قِبل لهم به، ولذلك فهم حتى حينما يهاجمون الإسلام ترتعد فرائصهم، وتبلغ قلوبهم الحناجر؛ خوفا من هذا الدين.

 

وقد أبلغنا إخواننا المجاهدون أنهم إذا ما التقوا مع النصارى أو اليهود أو أهل الإلحاد والمجوس أنهم يفرون من المسلمين فرارا عجيبا، ويذعرون ويخافون، وحق لهم أن يتوجسوا الخوف، فهو الذي زعزع عروشهم، وأتى بنيانهم من القواعد.

 

يقول أحد الكافرين المحاربين للإسلام من قادة الغرب الكافر: "ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع وفي حيويته إنه الجدار الوحيد في وجه الكفر والكافرين والاستعمار الأوروبي " هكذا يقول هذا الكافر.

 

ما هي أسباب خوفهم من الإسلام؟

 

إن أعدادنا متنامية، والرسول -صلى الله عليه وسلم – يقول: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".

فنحن أكثر الناس عددا نحن المسلمين، ولذلك هم يخافون من أعداد المسلمين، ويخافون من سرعة انتشار الإسلام، فهو الدين الوحيد الذي ظل ينمو ويتوسع، ويكسب أرضا جديدة في كل يوم، ومؤمنين جددا في مختلف مراحل التأريخ، والأيام والزمان.

 

إنهم يخشون من الإسلام ويخافونه، ولكن لابد أن نعلم أن هذا الدين منتصر، وأن أولياء الله ينتصرون، وأن النهاية والعاقبة والمستقبل لأهل الحق؛ فعن ثوبان -رضي الله - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله قد زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها مَا زوى لي منها".

 

وقال عليه الصلاة والسلام: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر".

ولكن لابد أن تعلموا -يا عباد الله- أن أخطر ما يخوف الغرب من المسلمين: الجهاد في سبيل الله، فهم يخافون من جيوش الإسلام، ومن انتشار الحق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة: 8].

 

فالإسلام لا يظلم ولا يجور في أحكامه، لكنه يفرض الجهاد بنشر "لا إله إلا الله"، وإزالة العقبات من طريق الدعوة، خاضت الجيوش المسلمة معارك عديدة ما زالت حتى يومنا هذا، تعد على قائمة المعجزات الحربية في التاريخ، خاضت معركة العراق وفارس، وهدمت عرش كسرى رمز الاستعباد والظلم هدمه المؤمنون الحفاة العراة الفقراء، وسلاحهم: "الله أكبر" وخاضت جيوش المسلمين معركة بلاد الشام ضد إمبراطورية الروم، وغلبت الفئة القليلة مئات الألوف من جنود الأعداء، وخاضت جيوش المسلمين معركة مصر وحررتها من عبودية الروم وطغيانهم، ثم اتجهت الجيوش الظافرة غربا وحررت برقة، واشتبكت مع جيوش الروم في حرب دامت حوالي خمسين عاما، استطاع خلالها جنود المسلمين أن يحرروا الشام الإفريقي بأسره، ثم يفتحوا شبه جزيرة ايبريا –الأندلس-، ويفتحوها، ثم يتوغلوا في فرنسا.

 

أما الجهة الشرقية فقد فتحت جيوش المسلمين بعد العراق وفارس أرمينيا وأذريبجان وسجستان وكابل وخراسان والسند، ولم تمضِ ثمانون سنة منذ بدأ الجهاد في سبيل الله حتى كان المسلمون يرفعون راية الإسلام على رقعة تمتد من السند وبحر الهند إلى بحر الظلمات.

 

ويح العروبة كان الكون مسرحها *** فأصبحت تتوارى في زواياه

كم صرفتنا يد كنا نصرفها *** وبات يملكنا شعب ملكناه

بالله سل خلف بحر الروم عن عرب *** بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهوا

فإن تراءى لك الأقصى عن كثب *** فسل الصرح أين المجد والجاه

 

فتح المسلمون هذا العالم حين كانوا يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، فهل بعد هذه الفتوح العظام يخالط أعداء الإسلام شك بأن الجهاد هو سر تقدم الإسلام الذي أوصل المسلمين إلى أقاصي العالم قديما، ولا زال يناشدهم العودة إليه ليعيدهم إلى مراقي العزة، وسيزال الخطر مداهما حتى نعود إلى الجهاد، وإعلاء كلمة "لا إله إلا الله" وخوف أعداء الله من أولياء الله المجاهدين الذين يرفعون راية "لا إله إلا الله"، وإعادة الخلافة الإسلامية من جديد، ولذلك هم يحاربونهم في أفغانستان وفي الشيشان وفي الشام وفي فلسطين، تحت كل سماء وفوق كل أرض، يحاربون من رفع راية "لا إله إلا الله" وأراد أن ينصر الإسلام والمسلمين.

 

إنهم يثأرون من المسلمين ولكنهم يعلمون أن الخطر الحقيقي عليهم يتمثل في هذه الأمة المؤمنة التي تحمل السيف وتريد الحرب والجهاد في سبيل الله، المستقبل للإسلام، المستقبل لنا -يا عباد الله-، ولكن لا يصنع المستقبل بالقعود، لا يصنع إلا بالجهاد في سبيل الله.

 

إن الغرب كان محقا عندما حارب الدولة الإسلامية، وفرق المسلمين، وحارب كل قائد يرفع "لا إله إلا الله"، ووضعت عملاء والطواغيت والخونة؛ لأنهم يحققون مصالحهم.

 

وسبب تخلفنا نحن المسلمين ليس أن ديننا هو الإسلام، لا، بل سبب تخلفنا أننا تركنا الإسلام، وأصبحنا لا نعمل بما كان في الكتاب والسنة، ولا بما أمرنا الله به: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ)[آل عمران: 110].

 

بقية الخطبة ف

المرفقات
هم العدو فاحذرهم (2).doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life