عناصر الخطبة
1/الابتلاء والامتحان من أقدار الله 2/ رحمة الله لأهل الطاعة وشدته لأهل المعصية 3/ مقارنة بين موقف أجدادنا من الابتلاء وموقفنا 4/ حال الناس من النذر الإلهية 5/ خطر المترفين والظالمين على الناس 6/ أهمية الأخذ على أيديهم 7/ أهمية التوبة إلى الله تعالى .اهداف الخطبة
اقتباس
وَلَقَدِ ابتُلِيَ أَجدَادُنَا في هَذِهِ البِلادِ سِنِينَ بِالشِّدَّةِ وَاللأَّوَاءِ، وَتَوَالَت عَلَيهِم سَنَوَاتُ الفَقرِ وَالقِلَّةِ؛ فَكَانُوا أَحسَنَ مِنَّا حَالاً وَأَقوَى بِرَبِّهِمُ اتِّصَالا، ثم ابتُلِينَا مِن بَعدِهِم بِالسَّرَّاءِ وَالرَّخَاءِ، وَتَوَالَت عَلَينَا النَّعمَاءُ وَتَرَادَفَتِ الآلاءُ؛ فَنَبَتَت فِينَا نَوَابِتُ ذُهُولٍ وَغَفلَةٍ، بَلْ بَرَزَت رُؤُوسُ جُحُودٍ وَكُفرٍ، نَسَبَتِ النِّعَمَ إِلى غَيرِ مُولِيهَا، وَتَوَجَّهَت بِالشُّكرِ إِلى غَيرِ مُسدِيهَا، وَطَمِعَت في المَزِيدِ مِن دُنيَاهَا عَلَى حِسَابِ الدِّينِ؛ ..
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم إِنَّ زَلزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ * يَومَ تَرَونَهَا تَذهَلُ كُلُّ مُرضِعَةٍ عَمَّا أَرضَعَت وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَملٍ حَملَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج 1: 2]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: الزَّلازِلُ وَالبَرَاكِينُ، الأَمطَارُ المُدَمِّرَةُ وَالسُّيُولُ الجَارِفَةُ، الطُّوفَانُ العَارِمُ وَالأَموَاجُ العَاتِيَةُ، القَصفُ وَالهَدمُ وَالحَربُ وَالضَّربُ، المُشَرَّدُونَ وَاللاَّجِئُونَ، النَّازِحُونَ وَالمَنكُوبُونَ؛ كَلمَاتٌ مُفزِعَةٌ وَمُفرَدَاتٌ مُوجِعَةٌ، يُعِيذُ المَرءُ نَفسَهُ مِن سَمَاعِهَا فَضلاً عَن مُشَاهَدَتِهَا؛ فَكَيفَ بِمُلابَسَتِهَا أَو وُقُوعِهَا لِقَرِيبٍ أَو صَدِيقٍ أَو عَزِيزٍ؟!
وَلَقَد كَانَت هَذِهِ المُصطَلَحَاتُ في سَنَوَاتٍ مَضَت شَيئًا ممَّا نَسمَعُهُ وَنَرَاهُ في وَسَائِلِ الإِعلامِ، وَيَقَعُ لِدُوَلٍ بَعِيدَةٍ عَنَّا وَمَنَاطِقَ نَائِيَةٍ مِنَّا، وَلَكِنَّنَا في هَذِهِ الفَترَةِ الأَخِيرَةِ القَصِيرَةِ، رَأَينَا مِنهُ طَرَفًا حَولَنَا وَسَمِعنَا بِهِ قَرِيبًا مِنَّا؛ في هِزَّاتٍ أَصَابَت بَعضَ مَنَاطِقِ بِلادِنَا فَأَقَضَّت مَضَاجِعَ أَهلِهَا، وَأَمطَارٍ هَطَلَت وَفَيَضَانٍ جَرَى في أَجزَاءٍ أُخرَى، فَدَمَّرَ مَا دَمَّرَ وقَتَلَ مَن قَتَلَ، وَاعتِدَاءَاتٍ آثِمَةٍ مُجرِمَةٍ، قُصِدَت بها جِهَاتٌ ثَالِثَةٌ مِن بِلادِنَا، تَأَهَّبَت لأَجلِهَا قُوَّاتٌ وَأُخِذَت عِدَدٌ وَعُبِّئَ جُنُودٌ، وَنَزَحَ بِسَبَبِهَا عَن دِيَارِهِ مَن نَزَحَ وَشُرِّدَ مَن شُرِّدَ.. وَالحَمدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَمَا نَحنُ لِقَضَائِهِ بِرَادِّينَ وَلا لِقَدَرِهِ بِمُنكِرِينَ، وَلا ممَّا أَجرَاهُ عَلَينَا بِحِكمَتِهِ مُمتَعِضِينَ.. كَيفَ وَالإِيمَانُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ أَصلٌ مِن أُصُولِ الإِيمَانِ مَتِينٌ، وَرُكنٌ في دِينِ المُسلِمِ رَكِينٌ؟ قَالَ -سُبحَانَهُ-: (مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ في الأَرضِ وَلا في أَنفُسِكُم إِلاَّ في كِتَابٍ مِن قَبلِ أَن نَبرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيلا تَأسَوا عَلَى مَا فَاتَكُم وَلا تَفرَحُوا بما آتَاكُم وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ) [الحديد 22: 23]
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذنِ اللهِ وَمَن يُؤمِن بِاللهِ يَهدِ قَلبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ) [التغابن 11]
وَرَوَى الطَّبَرَانيُّ عَن زَيدِ بنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَو أَنَّ اللهَ - تَعَالى- عَذَّبَ أَهلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ لَعَذَّبَهُم وَهُوَ غَيرُ ظَالِمٍ لهم، وَلَو رَحِمَهُم كَانَت رَحمَتُهُ خَيرًا لهم مِن أَعمَالِهِم؛ وَلَو كَانَ لِرَجُلٍ أُحُدٌ أَو مِثلُ أُحُدٍ ذَهَبًا يُنفِقُهُ في سَبِيلِ اللهِ، لا يَقبَلُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنهُ حَتى يُؤمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ، وَيَعلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لم يَكُنْ لِيُخطِئَهُ، وَمَا أَخطَأَهُ لم يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَإِنَّكَ إِن مِتَّ عَلَى غَيرِ هَذَا أُدخِلتَ النَّارَ" صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
نَعَم -أَيُّهَا الإِخوَةُ- ذَلِكُم أَمرُ اللهِ النَّافِذُ وَقَضَاؤُهُ المَاضِي، وَتِلكُم مَشِيئَتُهُ الكَائِنَةُ وَحِكمَتُهُ البَالِغَةُ، غَيرَ أَنَّهُ -تَعَالى- لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ بهم، لا يُرِيدُ أَن يُعَذِّبَهُم وَهُم لَهُ شَاكِرُونَ (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ) [الشورى :19] (مَا يَفعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا).[النساء : 147]
بَلْ إِنَّ رَحمَتَهُ -سُبحَانَهُ- تَسبِقُ غَضَبَهُ، وَهِيَ بِفَضلِهِ أَعَمُّ مِن عَذَابِهِ، قَالَ -تَعَالى- عَن نَفسِهِ: (قَالَ عَذَابي أُصِيبُ بِهِ مَن أَشَاءُ وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤمِنُونَ) [الأعراف: 156]
وَإِذَا آمَنَ العِبَادُ بِهِ وَصَدَّقُوا، وَوَقَفُوا عِندَ حُدُودِهِ وَلم يَتَجَاوَزُوا، وَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُم بِهِ وَلم يَعصُوا، وَانتَهَوا عَمَّا نَهَاهُم عَنهُ ولم يَتَهَاوَنُوا - فَقَد وَعَدَهُم -تَعَالى- بِرَحمَتِهِ وَهُوَ لا يُخلِفُ المِيعَادَ فقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرجُونَ رَحمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة :218]
أَمَّا حِينَ يَكثُرُ فِيهِمُ العِصيَانُ وَيَتَمَادَوا في الطُّغيَانُ، وَيَسمَحُوا لأَنفُسِهِم بِالتَّجَاوُزِ وَالاعتِدَاءِ، وَيَسعَوا بِالإِفسَادِ في مُلكِهِ بَعدَ إِصلاحِهِ - فَمَا لِلمُسِيءِ حِينَئِذٍ في رَحمَةٍ مَطمَعٌ، وَلا لِلمُعتَدِي مِنهَا حَظٌّ وَلا نَصِيبٌ، قَالَ -تَعَالى-: (ادعُوا رَبَّكُم تَضَرُّعًا وَخُفيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُعتَدِينَ * وَلاَ تُفسِدُوا في الأَرضِ بَعدَ إِصلاَحِهَا وَادعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ) [الأعراف 55: 56] فَالرَّحمَةُ لِلمُصلِحِينَ المُحسِنِينَ، الطَّامِعِينَ في رِضوَانِهِ الرَّاجِينَ لِثَوَابِهِ، الخَائِفِينَ مِن غَضَبِهِ الوَجِلِينَ مِن عِقَابِهِ، المُرَاقِبِينَ لَهُ في كُلِّ حَالٍ وَزَمَانٍ وَمَكَانٍ.
أَمَّا المُفسِدُونَ في مُلكِهِ المُعتَدُونَ لِحُدُودِهِ، المُكَذِّبُونَ لِرُسُلِهِ المُعَانِدُونَ - فَهُم عَن رَحمَتِهِ بَعِيدُونَ، وَسُنَّتُهُ فِيهِم مَاضِيَةٌ لا تُجَامِلُهُم، وَنَوَامِيسُهُ في الكَونِ جَارِيَةٌ عَلَيهِم لا تُحَابِيهِم (وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بما كَانُوا يَكسِبُونَ) [الأعراف :96] وَلا عَذَابَ إِلاَّ عَلَى مَعصِيَةٍ، وَلا بَلاءَ إِلاَّ بِذَنبٍ (فَعَصَى فِرعَونُ الرَّسُولَ فَأَخَذنَاهُ أَخذًا وَبِيلاً) [المزمل: 16] (فَكُلاًّ أَخَذنَا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَن أَرسَلنَا عَلَيهِ حَاصِبًا وَمِنهُم مَن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَن خَسَفنَا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَن أَغرَقنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظلِمَهُم وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ) [العنكبوت: 40] (وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى :30]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ الابتِلاءَ سُنَّةٌ مِن سُنَنِ اللهِ في خَلقِهِ، وَاللهُ يَبلُو عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَيَختَبِرُهُم بِاللِّينِ وَالبَأسَاءِ، لِيَنظُرَ مَا يَفعَلُونَ في الحَالَينِ، وَبِأَيِّ استِجَابَةٍ يُقَابِلُونَ الاختِبَارَينِ (وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ) [الأنبياء: 35]
وَلَقَدِ ابتُلِيَ أَجدَادُنَا في هَذِهِ البِلادِ سِنِينَ بِالشِّدَّةِ وَاللأَّوَاءِ، وَتَوَالَت عَلَيهِم سَنَوَاتُ الفَقرِ وَالقِلَّةِ؛ فَكَانُوا أَحسَنَ مِنَّا حَالاً وَأَقوَى بِرَبِّهِمُ اتِّصَالا، ثم ابتُلِينَا مِن بَعدِهِم بِالسَّرَّاءِ وَالرَّخَاءِ، وَتَوَالَت عَلَينَا النَّعمَاءُ وَتَرَادَفَتِ الآلاءُ؛ فَنَبَتَت فِينَا نَوَابِتُ ذُهُولٍ وَغَفلَةٍ، بَلْ بَرَزَت رُؤُوسُ جُحُودٍ وَكُفرٍ، نَسَبَتِ النِّعَمَ إِلى غَيرِ مُولِيهَا، وَتَوَجَّهَت بِالشُّكرِ إِلى غَيرِ مُسدِيهَا، وَطَمِعَت في المَزِيدِ مِن دُنيَاهَا عَلَى حِسَابِ الدِّينِ؛ في تَركٍ لِلصَّلَوَاتِ بِلا تَأَثُّمٍ، وَاتِّبَاعٍ لِلشَّهَوَاتِ بِلا تَحَرُّجٍ، وَأَكلٍ لِلرِّبَا بِلا تَحَرُّزٍ، وَأَخذٍ لِلرِّشوَةِ بِلا قُيُودٍ، وتَنَاوُلٍ لِلسُّحتِ بِلا حُدُودٍ، وَجُنُوحٍ إِلى المَادِيَّةِ بِلا تَعَقُّلٍ وَلا تَفَكُّرٍ، وَتَفرِيطٍ في الآخِرَةِ بِلا تَوبَةٍ وَلا تَذَكُّرٍ، وَأُضِيعَتِ الأَمَانَةُ وَوُسِّدَ الأَمرُ إِلى غَيرِ أَهلِهِ، فَأُكِلَتِ الأَموَالُ العَامَّةُ بِأَدنى الحِيَلِ، وَأُضِيعَت حُقُوقُ العِبَادِ بالخِدَاعِ وَالمَكرِ، وَأُهدِرَتِ المَبَالِغُ الضَّخمَةُ في مَشرُوعَاتٍ وَهمِيَّةٍ، وَارتَقَى أَفرَادٌ عَلَى أَكتَافِ جَمَاعَاتٍ، وَتَبلُغُ الوَقَاحَةُ بِالجَانِحِينَ إِلى أَن يَتَبَجَّحُوا بما أُوتُوا مِن قُوَّةٍ، وَإِلى أَن يَفرَحُوا بما عِندَهُم مِن عِلمِ الدُّنيَا، فَيَنسِبُوا إِلى الطَّبِيعَةِ كُلَّ مَا حَصَلَ وَيَحصُلُ، وَيُخَطِّئُوا كُلَّ مَن أَرَادَ أَن يَعِظَ النَّاسَ وَيُذَكِّرَهُم بِاللهِ وَيُخَوِّفَهُمُ العُقُوبَاتِ وَيُحَذِّرَهُمُ المَثُلاتِ، غَافِلِينَ عَن أَنَّهُ عَينُ العَقلِ وَقِمَّةُ التَّفَكُّرِ، أَن يَتَذَكَّرَ المَرءُ مَكرَ رَبِّهِ في كُلِّ حِينٍ، وَأَنَّ مِنَ الخَسَارَةِ وَالسَّفَاهَةِ الأَمنَ مِن مَكرِهِ، مَعَ المُجَاهَرَةِ بِمَعصِيَتِهِ وَإِظهَارِ المُخَالَفَةِ لأَمرِهِ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتًا وَهُم نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُونَ * أَوَلم يَهدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرضَ مِن بَعدِ أَهلِهَا أَن لَو نَشَاءُ أَصَبنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَنَطبَعُ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُم لا يَسمَعُونَ. [الأعراف 97 :100]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ مَا أَصَابَنَا وَيُصِيبُنَا، لَهُوَ نَوعٌ مِنَ النُّذُرِ الإِلَهِيَّةِ والآيَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، الَّتي لا يَعِيهَا وَلا يَكتَشِفُ مَا وَرَاءَهَا إِلاَّ مَن أَنَارَ اللهُ بَصِيرَتَهُ مِنَ ذَوِي الأَلبَابِ المُؤمِنِينَ (الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). [آل عمران:191]
وَأَمَّا أَهلُ الغَفلَةِ وَالعَمَى، الَّذِينَ لا يَستَكِينُونَ لِرَبِّهِم وَلا يَتَضَرَّعُونَ - فَهُم كَمَا هُم في الغَيِّ يَعمَهُونَ، بَل لا يَزدَادُونَ إِلاَّ تَمَادِيًا وَسَفَهًا وَإِعرَاضًا (وَمَا تُغنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَومٍ لا يُؤمِنُونَ) [يونس:101] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعرِضُونَ) [الأحقاف: 3]
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-: فَإِنَّنَا لِعِبَادَتِهِ قَد خُلِقْنَا، وَبِتَقوَاهُ قَد أُمِرْنَا، وَلا مَفَرَّ لَنَا مِنهُ إِلاَّ إِلَيهِ، وَلا -وَاللهِ- يُغَيِّرُ رَبُّنَا مَا بِقَومٍ حَتى يَكُونُوا هُمُ المُغَيِّرِينَ (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَومٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ).[الرعد:11]
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (فَفِرُّوا إِلى اللهِ إِنِّي لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبلِهِم مِن رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَو مَجنُونٌ * أَتَوَاصَوا بِهِ بَلْ هُم قَومٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنهُم فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ المُؤمِنِينَ * وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنهُم مِن رِزقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثلَ ذَنُوبِ أَصحَابِهِم فَلا يَستَعجِلُونِ * فَوَيلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَومِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ). [الزاريات 50: 60]
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ –تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا * وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا) [الطلاق 2: 3]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّنَا لا نَزعُمُ وَلا أَحَدٌ مِن عُلَمَائِنَا الرَّبَّانِيِّينَ أَو دُعَاتِنَا المُصلِحِينَ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ قَد فَسَدُوا أَو أَنَّهُم جَمِيعًا قَد هَلَكُوا، أَو أَنَّ كُلَّ كَارِثَةٍ تَحُلُّ بِنَا فَإِنَّمَا هِيَ بِالضَّرُورَةِ عُقُوبَةٌ مُبَاشِرَةٌ، لَكِنَّنَا نُرِيدُ أَن يَرتَبِطَ النَّاسُ بِرَبِّهِم وَيَتَذَكَّرُوا شِدَّةَ بَطشِهِ وَعَزِيزَ انتِقَامِهِ، وَأَن يَخَافَ قَومُنَا مَغَبَّةَ ذُنُوبِهِم وَيَحذَرُوا عَاقِبَةَ مَعَاصِيهِم، وَيَكُونُوا عَلَى عِلمٍ بِخَطَرَ تِلكَ القِلَّةِ المَارِقَةِ العَاصِيَةِ، الخَارِجَةِ عَن شَرِيعَةِ رَبِّهَا المُتَمَرِّدَةِ عَلَى أَمرِهِ، المُضِيعَةِ لِلأَمَانَةِ الوَالِغَةِ في الخِيَانَةِ، وَالَّتي سَيَكُونُ لها الأَثَرُ السَّيِّئُ وَالنَّتَيجَةُ الوَخِيمَةُ إِذَا خُلِّيَ بَينَهَا وَبَينَ مَا تَشَاءُ وَتَشتَهِي، أَو تُرِكَ لها الحَبلُ عَلَى الغَارِبِ لِتَفعَلَ مَا تُرِيدُ.
وَآيَاتُ الكِتَابِ وَأَقوَالُ مَن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى دَالَّةٌ عَلَى مَا لِهَؤُلاءِ المُترَفِينَ مِن سَيِّئِ الأَثَرِ عَلَى أَقوَامِهِم وَقُرَاهُم؛ فَلا مَجَالَ لِلمُخَادَعَةِ الإِعلامِيَّةِ وَالمُرَاوَغَةِ الصَّحَفِيَّةِ، وَسِحرِ النَّاسِ بِبَيَانِ القَولِ عَن حَقَائِقِ الأُمُورِ، أَو مَدحِ مُضَيِّعِي الأَمَانَةِ مِن كِبَارٍ أَو صِغَارٍ، أَو الذَّبِّ عَن أَعرَاضِ المُنَافِقِينَ وَالتَّحَامِي دُونَ الفُجَّارِ، مُقَابِلَ السُّكُوتِ عَن ظُلمِهُمُ الرَّعِيَّةَ وَتَضيِيعِهِم حُقُوقَهُم وَإِفسَادِهِم في البِلادِ وَهَضمِهِمُ العِبَادَ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لا تَقُولُوا لِلمُنَافِقِ سَيِّدًا ؛ فَإِنَّهُ إِن يَكُ سَيِّدًا فَقَد أَسخَطتُم رَبَّكُم -عَزَّ وَجَلَّ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
إِنَّهُ لا بُدَّ مِن أَن يُقَالَ لِكُلِّ مُحسِنٍ أَحسَنتَ، وَأَن يُوقَفَ كُلُّ مُسِيءٍ عِندَ حَدِّهِ وَيُنكَرَ عَلَيهِ إِسَاءَتَهُ وتَعَدِّيهِ؛ وَإِلاَّ فَلْيَنتَظِرِ المُقَصِّرُونَ الهَلاكَ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا) [الأسراء :16]
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَالتِّرمِذِيُّ عَنِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَثَلُ القَائِمِ في حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ استَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَصَارَ بَعضُهُم أَعلاهَا وَبَعضُهُم أَسفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ في أَسفَلِهَا إِذَا استَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَن فَوقَهُم، فَقَالُوا: لَو أَنَّا خَرَقنَا في نَصِيبِنَا خَرقًا وَلم نُؤذِ مَن فَوقَنَا، فَإِن تَرَكُوهُم وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِن أَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِم نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعًا".
وَعَن زَينَبَ بِنتِ جَحشٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَيهَا فَزِعًا يَقُولُ: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَيلٌ لِلعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقتَرَبَ، فُتِحَ اليَومَ مِن رَدمِ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ مِثلُ هَذِهِ -وَحَلَّقَ بَينَ أَصبُعَيهِ الإِبهَامِ وَالَّتي تَلِيهَا- فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَهلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَم، إِذَا كَثُرَ الخَبَث" رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.
وَعَن أَبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُم تَقرَؤُونَ هَذِهِ الآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم) [المائدة: 105] وَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا الظَّالِمَ فَلَم يَأخُذُوا عَلَى يَدَيهِ أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِن عِندِهِ" رَوَاهُ أَهلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَفي حَدِيثٍ عِندَ أَحمَدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا المُنكَرَ وَلا يُغَيِّرُونَهُ أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ".
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-: وَالتَّوبَةَ إِلى رَبِّكُمُ التَّوبَةَ، وَالإِنَابَةَ إِلى الرَّحِيمِ الإِنَابَة َ(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُم وَأَسلِمُوا لَهُ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذَابُ بَغتَةً وَأَنتُم لا تَشعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفسٌ يَا حَسرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ في جَنبِ اللهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَو تَقُولَ لَو أَنَّ اللهَ هَدَاني لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَو تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَو أَنَّ لي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحسِنِينَ * بَلَى قَد جَاءَتكَ آيَاتي فَكَذَّبتَ بِهَا وَاستَكبَرتَ وَكُنتَ مِنَ الكَافِرِينَ * وَيَومَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُسوَدَّةٌ أَلَيسَ في جَهَنَّمَ مَثوًى لِلمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِم لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُم يَحزَنُونَ). [الزمر 53: 61]
التعليقات