عناصر الخطبة
1/ تعاسة مَن فوّت عليه المغفرة في رمضان 2/ تهيئة الله تعالى لعباده وسائل المغفرة برمضان 3/ الهدي النبوي في العشر الأواخر 4/ فضل ليلة القدر 5/ إحياء العشر الأواخر وليلة القدر بالعبادات والدعاءاهداف الخطبة
اقتباس
واعلموا أن أكثرَ ليالي رمضان قد انصرمت، وأكثرَ أيامه قد انقضت, ولا يزال كثيرٌ من الناس لم يذق طعم العبادة في رمضان، لم يتذوَّقِ الأنسَ واللذةَ فيه، لم يَعِشْ مع رِحَاب القرآن، لم يجدْ طعمَ الخشوعِ والخضوعِ بين يدي الله, في صلاةِ التراويح وغيرها، لا زال مشغولاً باستراحاته وقنواته، لا تؤثرُ فيه موعظة، ولا تحرِّكُ قلبَه آية، يتحبب الله إليه بنعمه وآلائه، ويبارزه بمعصيته وسخطه.
الحمد لله الذي شرَّف هذه الأمةَ بمواسم الخيرات, ونوَّع لهم كثيراً من العبادات والطاعات، فسهَّل عليهم فعلها، ووعد بالأجر العظيم عليها، فشَرُفَتْ هذه الأمة على الأمم السابقة، بما نالته من البركة والأجور المضاعفة.
وأشهد أن لا إله إلا الله، لا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمداً عبد الله ومجتباه، وخليله ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن سار على هداه، وسلم تسليماً كثيراً إلى أنْ نلقاه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أكثرَ ليالي رمضان قد انصرمت، وأكثرَ أيامه قد انقضت, ولا يزال كثيرٌ من الناس لم يذق طعم العبادة في رمضان، لم يتذوَّقِ الأنسَ واللذةَ فيه، لم يَعِشْ مع رِحَاب القرآن، لم يجدْ طعمَ الخشوعِ والخضوعِ بين يدي الله, في صلاةِ التراويح وغيرها، لا زال مشغولاً باستراحاته وقنواته، لا تؤثرُ فيه موعظة، ولا تحرِّكُ قلبَه آية، يتحبب الله إليه بنعمه وآلائه، ويبارزه بمعصيته وسخطه.
ارتقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر يوماً فقال: "آمين"، فلما نزل قالوا: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه، قال: "إن جبريل عرض لي فقال: بَعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: "آمين" رواه ابن حبان في صحيحه وصححه الأرناؤوط والألباني.
فجبريل -عليه السلام-، ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-, يدعوان على هذا الغافل المفرِّط، الذي أدركه رمضان، فلم يُغَيِّرْ من حالِه، ولم يتب إلى ربه، وقد يسَّر الله له صنوفاً من العبادات، ورتَّب عليها المغفرة والرحمة، والأجور العظيمة.
"مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ", "ومَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، "وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
ما أيسرها من عبادات، وألذَّها من طاعات! وما أعظم أجورها، وأفضل نتائجها!
لكنْ؛ تأمَّلِ الشرط: "إيماناً واحتساباً", والجائزة: "غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه".
فلا بدّ أنْ يكون القيامُ والصيامُ إِيمَانًا: أَيْ: تَصْدِيقًا جازماً بِوَعْدِ اللَّه بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ. وَاحْتِسَابًا: أَيْ طَلَبًا لِلْأَجْرِ والثواب, لَا لِقَصْدٍ آخَر مِنْ رِيَاء أَوْ مُجاملةٍ أو غيرِ ذلك.
فإذا فعل الصائم والقائم ذلك: فلْيَبْشِرْ بالجائزة والغنيمةِ العظيمة، وهي مغفرةُ الذنوب السالفة, حتى قال ابنُ حجر -رحمه الله-: "ظَاهِرُهُ يَتَنَاوَلُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ".
أي: إنَّ الله يَغفرُ لك كلَّ ما ارتكبته من آثامٍ ولو عَظُمت, وخطايا ولو كثُرت, إنْ صدَقْتَ مع الله -تعالى-, وأقبلت إليه في هذا الشهر العظيم, وأخلصت بعملك لله وحده, وما ذلك على الله بعزيز.
فهل يليقُ بنا أنْ نتمادى بالمعاصي والذنوب، ومُحَادَّةِ علّام الغيوب، الذي فَضْلُه إلينا نازل، وكرمُه علينا واصل؟ فتح لنا أبواب الرحمة والتَّوبة، وسهَّل علينا طُرُقَ الجنَّةِ والمغفرة.
فلْنتق الله يا أمَّةَ الإسلام, ولْنصْبِرْ أنفسنا على طاعة الرحمن, والقيامِ، وقراءة القرآن؛ ولْنَحذر السآمة والْمَلل، والفتورَ والكسل، فها نحن على أبواب العشر المباركة الفاضلة، التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ, شَدَّ مِئْزَرَهُ, وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ. متفق عليه.
"أَحْيَا لَيْلَهُ": أَيْ: سَهِرَهُ فَأَحْيَاهُ بِالطَّاعَةِ والعبادة, وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ: أَيْ لِلصَّلَاةِ والقيام.
قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَجْتَهِدُ فيْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فيْ غَيْرِها" رواه مسلم.
نعم، إنها أيام الجدِّ والعمل، وتركِ الخمول والكسل، إنها أيامٌ فاضلة، وليالٍ مباركة، كيف لا؛ وفيها أعظمُ وأفضلُ ليلة؟! إنها ليلة القدر!.
قال -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تَحَرّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" متفق عليه.
وقد أنزل فيها سورةً تُتلى إلى يوم القيامة، إنها سورة القدر؛ حيث يقول -تعالى- فيها: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1]، أي أنَّه -تعالى- ابْتدأ بإنزاله في رمضان, في ليلة القدر منه.
وسُمِّيتْ ليلةَ القدر لعِظَم قدرها وفضلِها عند الله، ولأنه يُقَدِّرُ فيها ما يكون في العام, من الأجل والأرزاق والمقادير القدرية.
ثم فخّم شأنها، وعظَّم مقدارها فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:2-3]، أي: تعادل في فضلها ألفَ شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خيرٌ من العمل في ألف شهر خاليةٍ منها، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث مَنَّ -تبارك وتعالى- على هذه الأمة الضعيفة، بليلةٍ يكون العمل فيها يقابل ويزيدُ على ألف شهر، عُمر إنسانٍ يزيدُ عُمُرُه على الثَّمانين سنة, فأيُّ فضلٍ وأجرٍ أعظمُ من هذا؟!.
(تَنزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [القدر:4]، أي: يكثر نزولهم في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تَنَزُّلِ البركة والرحمة، كما يتنزَّلون عند تلاوة القرآن, ويُحيطون بحِلَق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم تعظيما له.
(سَلامٌ هِيَ)، أي: سالمةٌ من كلِّ آفةٍ وشَرٍّ؛ وذلك لكثرة خيرها، (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر:5]، أي: بدايتُها مِن غروب الشمس, ونِهايتُها طلوعُ الفجر.
فاللهَ اللهَ -عباد الله- بالجدِّ والحزم في هذه الأيام! فإن مَنْ حُرم خيرَها فهو المحروم حقاً؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فِيهِ -أي: في رمضان- لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ" رواه أحمد وصححه الألباني.
فلْنَحْرصْ أيها الصائمون على قيامِ ليلة القدر؛ فإن ليلة القدر: هي أفضل ليالي العام على الإطلاق.
والموفق والسعيد من عرف قدرها, وعظَّم شأنها, فأحياها عبادةً وتضرعا وابتهالا، أحياها بتلاوة كتاب الله, أحياها بالذكر والاستغفار والدعاء, يشكو إلى الله همَّهُ وحزنه, يبثُّ إليه فقره وحاجته, فحريٌّ بمن هذه حاله أن يجيب الله دعوته, ويغفرَ ذنبَه, ويسترَ عورتَه, ويرزقَه حلاوةً وأنسا في قلبه, هي أفضلُ عنده من الدنيا وما عليها.
اللهم بلِّغنا ليلة القدر، وأعِنَّا على قيامها، وتقبَّلْها مِنَّا يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الصائم: في كلِّ لَيلةٍ ساعةُ إجابَةِ، الأبوابُ فيها تُفْتَحْ، والكريمُ فيها يمنَح، فسَلِ فيها ما شئتَ؛ فالمعطِي عظيم، وأيقِنْ بالإجابةِ؛ فالرّبّ كريم، وبُثَّ إليهِ شَكواك؛ فإنّه الرّحمنُ الرّحيم، وارفَع إليه حاجتك، فهوَ السّميع البصير، يقول -عليه الصلاةُ والسلام-: "إنّ في اللّيلِ لساعةً, لا يُوافقها رجلٌ مُسلم, يسأل اللهَ خيرًا مِن أمرِ الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلة" رواه مسلم.
إنَّ الكريم إذا سُئل يستحي أنْ يمنع, والشريفَ إذا وُصل لا يُمكن أنْ يقطع, فكيف بأكرم الأكرمين, وأجود الأجوَدين؟ فإذا سألته فلن يمنعك, وإذا وصلته بصلاتك وعبادتك فلن يقطعك.
وهذا ربُّنا -تبارك وتعالى- يقول, بعد أنْ ذكر آيات الصيام: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].
يا له مِنْ أسلوبٍ ما ألطفه! ونداءٍ ما أجمله! (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عنِّي), فأنت عبده وتحت تصرُّفه, فلا غنى لك عنه وعن إحسانه.
فَإِنِّي قَرِيبٌ: هو أقرب إليك من حبل الوريد, (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) [الحديد:4].
(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ): يُجيب دعاءك وحاجتك, ويغفرُ ذنوبك ومعصيتك.
(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي): بالدعاء الخالص من القلب؛ "فإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, يُحِبُّ تَذَلُّلَ عَبِيدِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُؤَالَهُمْ إِيَّاهُ، وَطَلَبَهُمْ حَوَائِجَهُمْ مِنْهُ، وَشَكْوَاهُمْ إِلَيْهِ، وَفِرَارَهُمْ مِنْهُ إِلَيْهِ" [مدارج السالكين].
وَلْيُؤْمِنُوا بِي: أي "ولْيُؤْمِنُوا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْهُمْ, لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابٌ, وَلَا وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ يُبَلِّغُهُ دُعَاءَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ، أَوْ يُشَارِكُهُ فِي إِجَابَتِهِمْ أَوْ إِثَابَتِهِمْ، لِيَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ حُنَفَاءَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" [تفسير المنار].
فليس بيننا بين الله حِجَاب, ولا حقَّ لأحدٍ أنْ يُغلقَ عنَّا دونه الأبواب.
نسأل الله -تعالى- أنْ يتقبل من الصائمين صيامهم, وقيامهم، وسائر أعمالهم, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيبٌ.
التعليقات