اقتباس
إن قطع الأشجار النافعة التي يحتاجها الناس وإهلاك الزروع التي توفر القوت الحلال... محرَّم مذموم يعاقب الله فاعله، فعن عبد الله بن حبشي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار"...
النباتات والأشجار أصدقاء مخلصون للإنسان؛
فأولًا: هي تنقي له الهواء الذي يتنفسه والذي لا يستغني عنه أبدًا فيقدمان له الأكسجين النقي كي يملأ به رئتاه.
وثانيًا: هي تبهجه وتسره بمنظرها الخلاب وجمالها الأخاذ ورونقها الذي ليس له مثيل، خاصة إذا ما خرج إلى الحقول حيث المساحات الخضراء الممتدة والزروع النضيرة والمياه الغزيرة المتدفقة، وكذا إذا ما خرج إلى الحدائق ذات الزهور المتفتحة والألوان المتعددة والثمار الناضجة.
وثالثًا: فإن النباتات والأشجار تمد الإنسان بما يأكل ويعصر من حبوب وثمار وقوت. ورابعًا: فإنها تغنيه بما تقدمه له من موارد غذائية عن الاحتياج والافتقار إلى غيره من العباد، وتغني الدولة المسلمة عن طلب قوتها من الدول الكافرة. وخامسًا: ما يُستخرَج منها ومن لحائها من أدوية للأمراض، بل وما في عصونها اليابسة من دفء للبشر إذا ما أشعلوا فيها النار... فهي -إذن- تقدِّم له ما يتنفس وما يأكل وما يسره عينه وجنانه وما يدفئه، وتقدم له استغناءه وعزته واستقلاليته... وأهم ذلك كله: سادسًا: فإن له في زراعتها ثوابًا وأجرًا من الله -سبحانه وتعالى-، فكلنا يحفظ حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة"(متفق عليه)، بل وإن لم ينتفع بها مخلوق فإن له فيها أجرًا؛ وتلك هي فائدة ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أنس بن مالك الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"(رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني). وهذا الأجور والصدقات لا تنقطع بموت من زرع أو غرس بل يجري عليه الأجر في قبره ما دامت تلك الأشجار التي زرعها تثمر أو تظل الناس بظلها أو ينتفع الناس بها؛ فمن الأشجار المعمرة ما يعمر عشر سنين أو عشرين أو خمسين أو أكثر، ولا قيد على فضل الله. ثم فوق ذلك كله هي آية من آيات الله -عز وجل- أبرزها لخلقه ليعتبروا ويتعظوا ويزدادوا إيمانًا ويستشعروا نعمة الله وفضله عليهم، فتسمع القرآن الكريم يقول: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)[عبس: 24-32]...
وفي نزول المطر على الأرض الميتة فتخرج منها ثمرتها وبركتها إثبات لبعث العباد بعد الموت وتكذيب لمن أنكره: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الحج: 5-6]، ومرة أخرى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[فصلت:39].
ففي هذه الزروع والنباتات وفي تلك الأشجار نعمة وعبرة وحكمة وعظة وبراهين تستوجب شكر المنعم -سبحانه وتعالى- وإن لم يحس بها ولم يعلمها كثير من الخلق: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ)[يس: 33-35]...
***
ومن الممنوع المذموم أن يترك المسلم أرضه بورًا معطلة من الزراعة فيميتها ولا ينتفع بها، بل أمره دين الإسلام أن يزرعها، فإن عجز عن ذلك أو انشغل أن يعطيها لغيره من المسلمين فيزرعها، ولا ينبغي له أبدًا أن يعطلها، فعن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها، فليمنحها أخاه المسلم، ولا يؤاجرها إياه"(متفق عليه)، والأفضل أن يمنحها لغيره بدون أخذ أجرة على ذلك، ويجوز له أن يأخذ أجرة معلومة محددة من الذهب أو الفضة أو النقود مقابل تمكينه من زراعتها، وهذا خير من تركها معطلة لا تنبت ولا تخرج زرعًا، وأما إجارة الأرض المنهي عنها فهي أن يؤجرها بما فيه غرر، يقول رافع: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الماذيانات وأقيال الجداول فيهلك هذا ويسلم هذا، فلذلك زجر عنه - صلى الله عليه وسلم -، وأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس"، فبين أن علة النهي الغرر، وأما بذهب أو ورق فلم ينه عنه، فمثلهما ما في معناهما من الأثمان المعلومة، والماذيانات بكسر الذال وفتحها معربة لا عربية: مسايل الماء الكبار، سمى بذلك ما ينبت على الحافتين مجازًا للمجاورة"( شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك).
***
والآن وقد علمنا فضل زراعة الأشجار والنباتات، وأنه لا ينبغي أن تُترك الأرض معطلة دون انتفاع بها، فقد آن الأوان لنقول: إن قطع الأشجار النافعة التي يحتاجها الناس وإهلاك الزروع التي توفر القوت الحلال... محرَّم مذموم يعاقب الله فاعله، فعن عبد الله بن حبشي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار"، سئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال: "هذا الحديث مختصر، يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل، والبهائم عبثًا، وظلمًا بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار"(رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني)، ولقد كان من وصية أبي بكر -رضي الله عنه- ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام: "... لا تقطعوا شجرة إلا لنفع، ولا تعقرن بهيمة إلا لنفع، ولا تحرقن نخلًا، ولا تغرقنه..."(البيهقي في السنن الكبرى)، ولأن قطعها إفساد في الأرض: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)[البقرة: 205].
وتكون العقوبة أشد والحرمة أغلظ إن كانت تلك الأشجار في أحد الحرمين المكي أو المدني، فأما المكي فقد روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلا لمعرف"، وقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، لصاغتنا وقبورنا؟ فقال: "إلا الإذخر"(متفق عليه)، وأما المدينة المنورة فلقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرمًا، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف"(رواه مسلم)، ومعنى: "ولا تخبط فيها شجرة: تضرب ليسقط ورقها (ينظر: التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي).
ومع هذا إن كانت ضرورة، أو كانت الشجرة تؤذي الناس فإن يجوز قطعها وإن في قطعها أجرًا، فأما الضرورة فكما قطع النبي -صلى الله عليه وسلم- النخل الذي كان يتحصن به يهود بني النضير، فلما عابوا عليه ذلك أنزل الله -عز وجل-: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)[الحشر: 5]، وأما الثانية، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس"(رواه مسلم).
***
وكل ما ذكرنا في جميع كلامنا إنما ينطبق على النباتات والزروع والأشجار النافعة، فهي التي يُنال الأجر بزراعتها، وهي التي يحرم إهلاكها وإفسادها... أما إن كانت هذه النباتات والأشجار تؤذي الناس أو كانت تثمر محرمًا كالمخدرات بجميع أنواعها، فإن في قطعها أجرًا وفي زراعتها وزرًا، وقد مر بنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس"(رواه مسلم).
***
وما كلامنا هذا كله إلا مقدمة وتمهيدًا وفتحًا لباب التكلم في هذا الموضوع، فإن ما زال في حاجة إلى مزيد توسع وتأصيل وبيان... فنترك هذا لخطبائنا الفطناء فيما انتقينا من خطبهم، فدونك فاستفد.
التعليقات