عناصر الخطبة
1/لله حكمة في ابتلاء عباده 2/المحن تأديب ورفع درجات للصالحين 3/من الأمور التي تدفع البلاء وتعين عليه الذِّكر 4/خصوصية أهل بيت المقدس 5/بعض صفات المسلم التقي النقي 6/سوء أحوال كثير من المسلمين ووجوب التوبة 7/ضرورة المحافظة على الدماء ورعاية المقدساتاقتباس
ونحن اليوم -يا عباد الله- في محن وبلاء، أحوالنا لا تسر إلا الأعداء، فإذا أردتم النجاة فعليكم بالعودة إلى الله؛ فهو القادر على كشف البلاء والغلاء والهم والغم، توجَّهوا إليه بالذِّكْر، فهذا من أسباب ذَهاب ما أنتم فيه، وسبِّحوه وتبتَّلوا إليه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الهادي النصير، يهدي مَنْ يشاء إلى صراط مستقيم، القائل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)[الْفُرْقَانِ: 31]، نحمده -سبحانه وتعالى-، الذي أنجَز لعباده الصالحين وعدَ الاستخلاف، وقهَر بأهل التوحيد أهل الشرك والخلاف، ونشهد ألا إله إلا الله، تعزَّز بعز كبريائه، وتوحد بدوام بقائه، ونور بمعرفته قلوب أوليائه، فسبحانه ما أوسَع عطاه، وما أعظم عُلاه، سبحان مَنْ فتَح قلوبًا وشرَح، ووهَبَها عطاياه ومنَح، ونشهد أنَّ سيدنا ومولانا محمدًا، عبدُه ورسولُه، الطاهر الزكي، أرسى قواعدَ الدين، وبنَى دولةَ التوحيد، وخُصَّ بالمقام المحمود، والحوض المورود، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله أصحاب العهود، وخير الجنود.
أما بعد فيا عباد الله: يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبد أصيب بمصيبة فقال كما أمره الله -تعالى-: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيرًا منها إلا فعَل الله ذلك به".
عباد الله: إن الله إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه، وإذا ابتلاه صبَّره، إن الرجل لتكون له الدرجة عند الله -تعالى- لا يبلغها بعمل حتى يُبتلى ببلاء في جسمه، فيبلغها بذلك، إن العبد إذا أذنب ذنبا فأصابته شدةٌ أو بلاءٌ في الدنيا فاللهُ أكرمُ من أن يعذبه ثانيًا، قال لقمان لابنه: "يا بُنَيّ، إن الذهب يُجرَّب بالنار، والعبد الصالح يجرب بالابتلاء"، فإذا أحبَّ اللهُ قومًا ابتلاهم، فمن رضي له الرضا، ومن سخط فله السخط.
المحن تأديب من الله، والأدب يا عباد الله لا يدوم، فطوبى لمن تصبر على التأديب وثبت عند المحنة، من أفضل آداب الرجال أنهم إذا نزلت بأحدهم جائحة أو وباء استعمل الصبر عليها وألهم نفسه الرجاء لزوالها، والمحن فيها تخليص من الذنب، وتنبيه من الغفلة، وتعرض للثواب، وتذكير بالنعمة، وحضّ على الصدقة، واستدعاء للمثوبة، ينزل الله على كل عبد من البلاء بقدر ما وهبه من المعرفة؛ لتكون معرفته عونًا على بلائه، فالصبر مفتاح الفرج، وثمرة الصبر الظفر، وعند اشتداد البلاء يأتي الرخاء.
ومن الأمور التي تدفع العقوبةَ والعذابَ والمحنَ الذِّكرُ، قال الله -تعالى- في حق يونس -عليه السلام-: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[الصَّافَّاتِ: 143-144]، فسبحان الله تمنع العذاب، والاستغفار كذلك؛ لقوله -جل وعلا-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الْأَنْفَالِ: 33].
ومن أعظم الأشياء الرافعة للشدة والوباء والمصائب والمتاعب العظام، كثرة الصلاة والسلام على النبي -عليه الصلاة والسلام-، يقول الحق -جل وعلا-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الْأَعْرَافِ: 96-99].
ونحن اليوم -يا عباد الله- في محن وبلاء، أحوالنا لا تسر إلا الأعداء، فإذا أردتم النجاة فعليكم بالعودة إلى الله؛ فهو القادر على كشف البلاء والغلاء والهم والغم، توجَّهوا إليه بالذِّكْر، فهذا من أسباب ذَهاب ما أنتم فيه، وسبِّحوه وتبتَّلوا إليه، فقد ورَد عن الصِّدِّيق عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما؛ فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيتُ ذلك أهلكتهم بالأهواء وهم يحسبون أنهم مهتدون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا"، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "شعار أمتي إذا حُملوا على الصراط: لا إله إلا أنتَ"، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "قال صلى الله عليه وسلم: ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، ولا منشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: الحمد لله الذي أذهَب عنا الحَزَنَ"، ولسان حال المؤمن يقول: أعددتُ لكل حولٍ ألقاه في الدنيا والآخرة: لا إله إلا الله، ولكل هم وغم ما شاء، ولكل نعمة: الحمد لله، ولكل رخاء وشدة الشكر لله، ولكل أعجوبة سبحان الله، ولكل ذنب أستغفر الله، ولكل مصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلم: لا تتمنَّ منازل الأبرار وأنتَ مقيم على الأوزار، عاملًا بعمل الفُجَّار، أكثِرْ من الصلوات والأعمال الصالحات والمبرَّات، في الخلوات والجلوات، ولا يغرنك الأمل فتذهب بالعمل، إياك ثم إياك والْمَلاهِي، أو عشرة الْمُلاهِي، إياك والخلاعة والشناعة والزم الأدب مع أهله، واسأل الله من فضله، كم ساكت أبلغ من ناطق، وراجل أشجع من فارس.
وأنتم يا أهل بيت المقدس: أطفالكم رجال، وشبابكم أبطال، وشيوخكم أبدال، والمسلم -يا عباد الله- يقتات من كسب يمينه، لا يلقى أحدًا إلا مبتسمًا، يسابق إخوانَه بالسلام، سليم الصدر من الغش والحقد والحسد، ملازم للذِّكْر، مشغول القلب بالله، خيرا متواضعا، الناس سالمون من لسانه ويده، وهكذا يجب أن يكون المجتمع المسلم، وتلك هي صفات أمتنا المرحومة، أخلاقهم كريمة، ومعاملاتهم رحيمة ومستقيمة، وعقولهم وقلوبهم سليمة، أصحاب عهد ووفاء، ونقاء وصفاء، يحافظون على الأعراض والحرمات، والأرض والمقدسات، يسهرون من أجل مصلحة الأمة.
والذي نراه اليوم غير ذلك؛ فاتصف الأمراء بالجبر والمهانة، والتجار بالكذب والخيانة، والعلماء بالحسد والجهالة، والأغنياء بالبخل والبطالة، هانت عليهم المنابر، ضمائرهم خبيثة، يغلب عليهم حب الدنيا الدنية، والرشوة والهدية، والسحت الحرام، وتلاعبوا بالشريعة والأحكام، وباعوا الدين والإيمان فلا دين إلا أندر النادر، ولا مسئول يسر الخاطر، بطر وقهر وتكبر واتباع للهوى، وقول بلا فعل، دين أحدهم على لسانه، يكذبون على الله، ويصدون عن سبيل الله، وكأنهم لم يسمعوا قول الله: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ)[الْأَحْزَابِ: 8]، أترى إذا سأل الصادقين أيترك المعتدين بغير سؤال، فهم في زي الصالحين، وعملهم عمل المعرضين.
إذا وقعت الواقعة، وإذا وقعت الحملة، ولَّوْا على أدبارهم وأعقابهم ناكصين، اللهم فرج الكربات، واختم أعمالنا بالصالحات، وارفعنا أعلى الدرجات، وتقبل شهداءنا في الغرفات، واكتب الشفاء للمرضى والجرحى، وأطلق سراح أسرانا، وأطلق سراح الأسرى، واستجب الدعوات واللهفات، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله منجي من شاء من عباده المؤمنين من الهلكة، ومصطفي ما شاء من بلاده لمزيد من الإيمان والبركة، ونشهد ألا إله إلا الله، فطوبى لمن وحده، وتبا لمن أشركه، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، المخصوص بالفضل الذي ما بلغه سواه، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وملكه بالشام، فهي لأمته خير مملكة، صلى الله عليه وعلى آله، ومن اقتفى طريقه وسلكه.
أما بعد، فيا أيها المصلي، أيها العابد الساجد: وهبَك الله -تبارك وتعالى- من نعمه السوابغ، وأوردك عطاءه والمنافع، ولا زلت بصيرًا بمكائد الناس، خبيرًا بخُدَعِهم وحيلهم، والعاقل -يا عباد الله- مَنْ يَعِظُهم.
وأنت يا أيها المؤمن: يا مَنْ عَلِمَ تلُّونَ الزمان، ابتلاءات وفتن، واختبارات ومحن، اعتداءات وخلافات ومشاحنات رغم الصعاب والآلام والجراح والأتراح، حوادث القتل التي ما زلنا نحذر منها دائمًا، تجاوزت كل الخطوط الحمراء، وخير شبابنا في سجون الظلم والظلام، كفى بكل ذلك، نحن بحاجة لمن يحرس الديار، وليس لمن يزج في السجن الأخيار، وللأسف الشديد، أن نرى في هذه الأيام وهم قلة قليلة، ونفوسهم وقلوبهم مريضة، تُسرِّب ممتلكاتِ المسلمينَ، رغم المعاناة الشديدة، والأوضاع الصعبة، من هدم للبيوت، ومحاولات إخراج الناس من ديارهم؛ سواء في بطن الهوى أو سلوان، أو في الشيخ جراح، وتضييق الخناق عليهم، كل هذا يندرج تحت الشدة والمعاناة التي نلاقيها في هذه الأيام، ورغم كل ذلك، فإننا والحمد لله متمسكون بأرضنا، وديارنا، وواحسرتاه وواأسفاه على من فرط بأرضه وداره، ولات ساعة مندم.
عباد الله: لقد أمرنا المولى -تبارك وتعالى- بإعزاز الدين، والذَّبِّ عن الحريم، ورعاية مقدَّسات المسلمين في الدهر الصالح، والزمان المطمئن، فكيف بنا في هذه الأيام، وقد اضطرب الحال، وانتهكت المحرَّمات والمقدَّسات؟ وحورب الدين، ونيل جانبه بالضيم، وقصد عقره بالهدم، والواجب على أصحاب المسئولية القيام بالإصلاح ودفع الفتن والبغي والفساد، رغم غاية الخلاف والظلم والاعتساف والتعدي من سائر الجهات؛ فساد موجود في هذه الأيام، نرى رجالا ليس لهم اعتقاد، وإنما انتقاد، لا ينظرون لله نعمة، ولا يقرون بالحرمة، ولا ترى لهم نفسا مطيعة، ولا آذانا للحق سميعة، والشكوى منهم ظاهرة والقلوب منهم نافرة، والأمن مفقود، والغلا موجود، والناس في هرج ومرج، فلو أن الإمام الحسن البصري جاءهم ما عظموه، أو أن أويسًا القرني لما قبلوه، بل ربما تعاظموا على مليك الأرض والسما، وظنوا أن لهم عليه فضلا لكونهم بادعائهم أصلحوا له البلاد، وما حصل منهم إلا الفساد؛ مزقوا وفرقوا، فأين هؤلاء من السلف الصالح؟ والحمد لله ما وجد في زمانهم قتل ولا نهب ولا غدر ولا أمر بمنكر ولا أقروا عليه، ولا رأوا معروفًا إلا أمروا به، أو دلوا عليه، مع غاية من الاعتقاد والعلم وتعظيم أهل الفضل، وإهانة كل خسيس لئيم، فالأمن كان موجودا، والعدل ممدودا، والشقي مفقودا، فسبحان من يعلم الأسرار ويبهر الأبرار ويخذل الفجار.
إذا أردتُم النجاةَ -يا عباد الله- فاسلكوا مسالكها؛ إن السفينة لا تجري على اليبس.
أعاذنا الله وإياكم من اختلاف الأهواء، واتباع الآراء، والزيغ خلف السفهاء، الله -تعالى- خلقنا لعبادته، وأمرنا بالوحدة فإن فيها القوة والمنعة، كلمة التوحيد تمسكوا بها، طوبى لمن جاء بقلب سليم وعمل في مصالح المسلمين.
اللهم أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا أنت الثقة لنا ورجاؤنا، اللهم إنا نعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، وغلبة الأعداء وشماتتهم، اللهم اغفر لنا وارحمنا وارض عنا وتقبل منا، وأدخلنا الجنة ونجنا من النار، وأصلح لنا شأننا كله، وانصرنا على من بغى علينا، وأدرك ثأرنا ممن ظلمنا وارحم شهداءنا، واشف جرحانا، وداو مرضانا، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وقلوبنا و أزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
التعليقات