من وحي مكة

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-31 - 1436/04/11
التصنيفات: التربية الحج
عناصر الخطبة
1/قصة هجرة إبراهيم -عليه السلام- وزوجه إلى مكة 2/وقفات مع حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- 3/بعض الدروس والعبر المستفادة من أعمال الحج 4/الفوائد المستنبطة من مواقيت الحج المكانية 5/محظورات الإحرام 6/بعض معاني الحج وأسراره
اهداف الخطبة

اقتباس

أيها الإخوة المسلمون: لنتذكر جميعاً أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة نطقت وكبّرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، يَنقلُ خُطاه في المشاعر، ينتقل مع أصحابه ومحبيه مرددين تلك الكلمات الخالدات، ومترنمين بتلك الـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: لقد جاء إبراهيم -عليه السلام- بزوجه هاجر وابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت العتيق، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما ماء وتمراً، ثم انطلق إبراهيم -عليه السلام-، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ قالت ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.

 

ثم انطلق إبراهيم -عليه السلام- حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم: 37].

 

وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نَفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، ثم تسمّعت فسمعت أيضاً، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه بيدها، فشربت وأرضعت، فقال لها الملك: "لا تخافوا الضيعة، فإن هذا البيت يبنيه هذا الغلام وأبوه"[رواه البخاري في صحيحه].

 

وتمضي الأيام، وتمر السنون، ويبني الخليل -عليه السلام- وابنه البيت، ويأمر الله خليله إبراهيم بأن يؤذن في الناس بالحج إلى ذلك البيت: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحـج: 27].

 

ومنذ ذلك الحين، وجموع الناس تفد إلى ذلك المكان شوقاً وحنيناً.

 

قف بالأباطح تسري في مشارفها *** مواكب النور هامت بالتقى شغفا

من كل فج أتت لله طائعة *** أفواجها ترتجي عفوا الكريم عفا

صوب الحطيم خطت أو المقام مشت *** مثل الحمائم سرباً بالحمى اعتكفا

 

فما أروعها من رحلة، وما أعظمه من منظر يأخذ الألباب. فهل شممت عبيراً أزكى من غبار المحرمين؟ وهل رأيت لباساً قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟ هل رأيت رؤوساً أعز وأكرم من رؤوس المحلّقين والمقصرين؟ وهل مر بك ركبٌ أشرف من ركب الطائفين؟ وهل سمعت نظماً أروع وأعذب من تلبية الملبين، وأنين التائبين، وتأوه الخاشعين، ومناجاة المنكسرين؟.

 

أيها الإخوة المسلمون: لنتذكر جميعاً أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة نطقت وكبّرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، يَنقلُ خُطاه في المشاعر، ينتقل مع أصحابه ومحبيه مرددين تلك الكلمات الخالدات، ومترنمين بتلك العبارات الناصعات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".

 

يتقدم صلى الله عليه وسلم في إحرامه الطاهر، وقلبه الخاشع، وخلقه المتواضع، يتقدم إلى حيث ذكريات جده أبي الحنيفية، ومُرسِي دعائم هذا البيت العتيق، وجنبات الحرم تدوي بالتهليل والتكبير: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 127].

 

كلمات التلبية وعبارات التوحيد تملأ المكان، وتُطرِبُ الزمان، وتتصاعد في إخلاصها إلى الواحد الديّان، ويقترب الرسول من الحجر الأسود ليقبله قبلة ترتسم على جبينه درة مضيئة على مر السنين، لم يتمالك نفسه صاحب النفس الخاشعة، والعين الدامعة، فينثر دموعه مدراراً، وتتحدر على خده الشريف المشرق، كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يتابع الموقف بلهفة، وتعجب: يا رسول الله لماذا تبكي؟ يكفكف صلى الله عليه وسلم دموعه الطاهرة، ويجيب عمر بعبارات هادئة خاشعة باكية، قائلاً: "هنا تسكب العبرات يا عمر".

 

أيها المسلمون: حج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة، حجة جموع ودموع، حيث تقاطرت الوفود من كل فج، لتنال شرف الصحبة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة، نزل قول الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[المائدة: 3].

 

وعندما سمعها عمر -رضي الله عنه- بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان".

 

وأعظِم به من فقه عمري؛ لأنه استشعر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسميت حجة الوداع.

 

روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع".

 

وكان صلوات ربي وسلامه عليه يقول: "إني والله لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا".

 

وكان صلى الله عليه وسلم يقول في كل موطن: "خذوا عني مناسككم".

 

إنها وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لكل حاج أن يتعلم أحكام الحج: "خذوا عني مناسككم".

 

وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لكل من شرّفهم الله بمباشرة خدمة الحجيج، أن يتقوا الله فيهم، ويسلكوا بهم هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، إحراماً وتفويجاً، إفاضةً ومبيتاً، طوفاً وسعياً، نصحاً وإرشاداً، بيعاً وشراءً.

 

أن يحسنوا الاستقبال، ويؤدوا الواجب بلا استغلال، بالكلمة الطيبة وبالطريقة الطيبة، وبالأمر بالمعروف بالمعروف، وبالنهي عن المنكر من غير منكر.

 

أحبتي عاد ذهني إلى زمنٍ *** معظمٍ في سويدا القلب مستطرِ

كأنني برسول الله مرتدياً *** ملابس الطهر بين الناس كالقمر

نور وعن جانبيه من صحابته *** فيالقٌ وألوف الناس بالأثر

ساروا برفقة أزكى مهجةٍ درجت *** وخير مشتملٍ ثوباً ومؤتزر

ملبياً رافعاً كفيه في وجل *** لله في ثوبِ أوّابٍ ومفتقر

مُرنماً بجلال الحق تغلبه *** دموعه مثل وابل العارض المطر

يمضي ينادي خذو عني مناسككم *** لعل هذا ختام العهد والعمُر

وقام في عرفات الله ممتطياً *** قصواءه ياله من موقف نضِر

تأملَ الموقف الأسمى فما نظرت *** عيناه إلا لأمواج من البشر

فينحني شاكراً لله منّتَه *** وفضله من تمام الدين والظفر

يشدو بخطبته العصماء زاكيةً *** كالشهد كالسلسبيل العذب كالدرر

مجلياً روعة الإسلام في جملٍ *** من رائع من بديع القول مختصر

داعٍ إلى العدل والتقوى وأن بها *** تفاضل الناس لا بالجنس والصور

مبيناً أن للإنسان حرمته *** ممرغاً سيّء العادات بالمدر

يا ليتني كنت بين القوم إذ حضروا *** مُمَتَّعُ القلب والأسماع والبصر

وأنبري لرسول الله ألثُمُهُ *** على جبينٍ نقي طاهر عطر

أقبِّل الكف كف الجود كم بذلت *** سحّاء بالخير مثل السلسل الهدر

ألوذ بالرّحل أمشي في معيته *** وأرتوي من رسول الله بالنظر

أُسّر بالمشي وإن طال المسير بنا *** وما انقضى من لقاء المصطفى وطري

أما الرداء الذي حج الحبيب به *** يا ليته كفن لي في دجى الحُفر

يا غافلاً من مزاياه وروعتها *** يَمّم إلى كتُبِ التاريخ والسير

يا رب لا تحرمنا من شفاعته *** وحوضه العذب يوم الموقف العَسِرِ

 

أيها المسلمون: نتذكر في الحج يوم حج رسول الله مع مائة ألف من الصحابة حجة الوداع، ونظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الألوف المؤلفة، وهي تلبي، وتهرع إلى طاعة الله، فشرح صدره انقيادها للحق، واهتداؤها إلى الإسلام، فعزم على أن يغرس في قلوبهم لباب الدين، وينتهز تجمعهم، ليقول كلمات تبدد آخر ما أبقت الجاهلية من مخلفات في النفوس، فيلقي خطبته الجامعة الشاملة، يوم عرفة، فيبين فيها حرمة دم المسلم، وماله، وعظم الأمانة، وخطر الربا، حتى المرأة لم تُنس في هذه الخطبة الجامعة، فيقول: "واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم".

 

وكان يشهدهم على قوله فيقول: ألا هل بلغت؟ فيقول الصحابة: نعم، فيقول: اللهم فاشهد.

 

لقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة، وهو الذي ظل ثلاثاً وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء، ويغسل أدران الجاهلية.

 

لقد أجاب الله دعاء نبيه إبراهيم: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)[البقرة: 129].

 

أيها المسلمون: إن المتأمل في أعمال الحج يستلهم دروساً خالدة، ومعاني سامقة منها: أن المسلم يتعود في الحج الاستسلام لله رب العالمين، والاستجابة والخضوع له والطاعة.

 

فهاجر تقول لخليل الله -عليه السلام- "آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم" فأعلنت استسلامها وأذعنت لأمر ربها وخضعت لخالقها قائلة: "إذاً لا يضيعنا الله".

 

وأكرم بها من طاعة، في أرض مقفرة لا أنيس ولا ماء، ولا طعام ولا أخلاّء. ويَأمر الله إبراهيم -عليه السلام- بذبح ابنه حين بلغ السن التي يفرح فيها الوالد بولده، ولو أُمر غيره بالذبح لكان أهون، فكيف إذا كان الذابح للولد أباه؟: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102].

 

فيعلن الوالد والولد استجابتهما وانقيادهما وخضوعهما، فتأتي أعمال الحج لتركز هذا المفهوم، وتعمق هذا المدلول، ولهذا لا غرابة أن تجد أن المتمردين هنا مطيعين هناك.

 

فهناك يقف الحاج في عرفة ولو تأخر عنها، أو تقدم بطل حجه، ويطوف حول الكعبة وهي أحجار مغطاة بستار، ويقبّل الحجر الأسود الذي لا يضر ولا ينفع يؤدي ذلك ليتربى على الاستسلام والاستجابة، ويتعود على الخضوع والطاعة قائلاً في كل نسك وفي كل أمر ونهي: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".

 

حتى إذا عاد إلى بلده وبيته، وعمله وتعامله، وسمع الأوامر الإلهية والزواجر الشرعية، قال: "لبيك اللهم لبيك".

 

يعلنها في سائر شؤون حياته، كما كان يصدح بها هناك على صعيد عرفات، إذ كيف يستجيب لله في تقبيل حجر ولا يستجيب فيما يجلب الخير ويدفع الضرر، إذا سمع: (يا أيها الذين آمنوا).

 

أرخى لها سمعه، واستحضر قلبه مستسلماً لله، خاضعاً منقاداً، فهو إمّا خيراً يؤمر به أو شراً ينهى عنه.

 

إذا سمع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[المائدة: 90].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النساء: 29].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)[الحجرات: 12].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)[المائدة: 1].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة: 8].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)[الحجرات: 12].

 

وهكذا كلما سمع أمراً ربانياً أو توجيهاً نبوياً قال دون تلكؤ وتردد: "لبيك اللهم لبيك" قال دون أن يعرض الأمر على العادات والتقاليد، أو يستجيب لأهواء العبيد: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].

 

أيها المسلمون: ثبت في الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: وقّت النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرناً، ولأهل اليمن يلملم، وقال: "هنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ، ممن أراد الحج والعمرة".

 

هذا الحديث متى قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-؟

 

قاله عليه الصلاة والسلام والشام والبصرة والكوفة ومصر، كل تلك البلاد لم تفتح بعد.

 

كل تلك البلاد لم تفتح إلا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث في الوقت الذي كانت فيه تلكم البلاد بأيدي الكفار، وتحت حكمهم، فهاهنا عدة دلالات:

 

الأولى: أن هذا يدل على معجزة من معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حيث أخبر بأمر غيـبي لم يقع بعد.

 

الثانية: أن الرسول وقّت هذه المواقيت لأهلها وأهلها لم يسلموا بعد، فدل ذلك على أنهم سيسلمون، وأن بلادهم ستفتح وسيسلم أهلها، وكل هذا حصل بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

 

الثالثة: وهذا مما نعتقده، وهو أنه كما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذه المواقيت قبل فتح بلادها وفتحت، فكذلك أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفتح بلاد أخرى كالقسطنطينية، وهذه أيضاً فتحت بعد عدة قرون من إخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأسلم أهلها وحجوا إلى بيت الله الحرام.

 

كذلك أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفتح روما، وهذه أيضا ستفتح -بإذن الله عز وجل-، وسيسلم أهلها، وإن كانت هي الآن في أيدي الكفار كما كانت الشام والعراق ومصر في أيدي الكفار في الوقت الذي حدد فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- المواقيت.

 

فكل ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الخبر الصحيح أنه سيقع فسيقع، لا نشك في ذلك، ومنه أيضاً أنه في آخر الزمان سيمكّن لهذا الدين، وأنه ما من بيت على وجه الأرض إلا وسيدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله.

 

وتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من بيت".

 

ولم يقل بلد أو دولة أو مجتمع بل ما من بيت.

 

وإن كانت الفترة الحالية التي تمر بها أمة الإسلام، من أصعب فتراتها لكن هذا لن يستمر، بل سيكون له نهاية، وللكفر حد سيقف عنده، وللظلم حد سيقف عنده، بل للدنيا كلها حد ستنتهي إليه، وستكون الغلبة للإسلام وأهله، وللدين وأعوانه، ولجند الله وأوليائه: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].

 

أيها المسلمون: المحرم عليه أن يتجنب تسعة محظورات ذكرها العلماء، وهي: اجتناب قص الشعر، والأظافر، والطيب، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، وقتل الصيد، والجماع، وعقد النكاح، ومباشرة النساء.

 

كل هذه الأشياء يُمنع منها المحرم حتى يتحلل، فمن عزم على الدخول في مؤتمر الحج العظيم وجب عليه أن يستعد له.

 

إذاً، يجب عليه قبل مجاوزة الميقات أن يحرم، وأن يتجنب هذه المحظورات، وهذا يعني أنه يدخل منطقة الحرم في سلام، فلا يتعرض للصيد بأذى، ولا يتعرض لآدمي أيضاً بأذى، ولا يتعرض لشجر بقطع إنه سلام كامل، حتى شعره وأظافره لا يقص شيئاً منها، فهذا فضلاً عن كونها علامة على التقشف، إلا أنها تشير إلى معنى السلام، إنه سلام حقيقي لا سلام مزيف.

 

يدخل المسلم نسك الحج، يتعلم ويدرك من خلالها، قيمة المسلم مهما كانت درجة حياته، فلا يتعدى على أحد، ولا يظلم أحد، ولا يبغى على أحد، يدرك المسلم من خلال هذا المؤتمر السنوي قيمته الحقيقية التي وضعه الله فيها فضلا عن قيمته الإنسانية كإنسان، فيتبين له زيف تجهيل الإعلام العالمي، ويتبين له كذب منظمات حقوق الإنسان التي لا تعنى إلا بالإنسان الغربي، أما الإنسان المسلم فحوادث التاريخ وأحداث الزمان كشفت عن مدى جرم هذه الدول التي تسمى بالعظمى والكبرى، وإلا فكيف يفسر ما تفعله دولة ما تسمى بإسرائيل في فلسطين اليوم، بل ما تفعله الصليبية الحاقدة اليوم في العراق، قصف للمدنيين، ولمواقع سكنية، ولأسر ونساء، وشيوخ وأطفال، على مرأى ومسمع من العالم، أين السلام الذي يدعيه الغرب وتدعوا له دولة إسرائيل؟ بل أين منظمات الرفق بالحيوان، عن البهائم التي أهلكت في بلاد الرافدين وغيرها من البلاد، إذا كان الإنسان ليس له قيمة في أجندة هذه المنظمات وهذه الدول والحكومات؟

 

إن الوحشية والهمجية التي تمارس اليوم في العراق، لا يقره شريعة ولا نظام.

 

ولهذا، فلا يتصور أمان ولا وئام ولا سلام في ظل هذه المنظمات، وتحت هذه الأنظمة.

 

إن كل عاقل ومنصف يشهد فضلا عن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، يدرك بأن السلام الحقيقي، والتعاون على البر والتقوى لا ظل له في الواقع، إلا في الإسلام وفي تاريخ الإسلام.

 

أما غير المسلمين من شتى الأمم، ومختلف الديانات، فإن أقوالهم معسولة مسمومة، وأفعالهم في غاية الفحش والدناءة والفظاعة والبشاعة، فما أحوج البشرية في هذا العصر، وهي تكتوي بلهيب الصراعات الدموية، والنـزاعات الوحشية، ما أحوجها إلى الدخول في الحج إلى بيت الله الحرام، لتتخلص نفوس أبناءها من الأنانية والبغضاء والكراهية والشحناء، وترتقي إلى أفق الإسلام، فتتعلم الحياة بسلام ووئام كما أراد الله لعباده المؤمنين.

 

بارك الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أيها المسلمون: إن فريضةَ الحجّ فريضة عظمت في مناسكها، وجلّت في مظاهرها، وسمت في ثمارها. فريضة الحج عظيمةُ المنافع، جمّة الآثار، تضمّنت من المنافعِ والمصالح ما لا يُحصيه المحصون، ولا يقدر على عدّه العادّون، انتظمت من المقاصد أسماها، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع أعظمَها وأزكاها، مقاصدُ تدور محاورها على تصحيح الاعتقاد والتعبّد، وعلى الدعوة لانتظام شملِ المسلمين ووحدة كلمتهم وعلى التربية الإصلاحية للفرد والمجتمع، والتزكية السلوكيَّة للنفوس والقلوب والأرواح والأبدان.

 

وبالجملة، ففي الحج من المنافع التي لا تتناهى، والمصالح التي لا تُجارَى، ما شملَه عمومُ قول المولى -جل وعلا-: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)[الحـج: 27].

 

تمر السنون، وتتوالى القرون، ووفود الله يتزايدون في لقاء إيماني واجتماع سنوي، يقدمون من أماكن بعيدة، وبلدان سحيقة، ومن كل فج عميق، إلى واد غير ذي زرع، ليس فيه ما يستهوي النفوس، كل ذلك استجابة لله قائلين: "لبيك اللهم لبيك".

 

والعبودية لله في الحج من أعظم ما يحصّله العبد من المنافع والفوائد، وكفى به شرفاً وفضلاً.

 

أيها المسلمون: من معاني الحج العظيمة: وحدة المسلمين، واجتماع كلمتهم، يجتمعون في مكان واحد، وفي زمن واحد، على تباعد ديارهم، وتباين ألوانهم واختلاف ألسنتهم، تجردوا من ثياب الزينة، وطهّروا قلوبهم من الضغينة. ففي صعيد عرفات، الأسود والأبيض، الأحمر والأصفر، جميعاً مسلمون، برب واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرؤون، ولرسول واحد يتّبعون، ولأعمال واحدة يؤدّون، فأي وحدة أعمق من هذه، كلهم في مظهر واحد.

 

فما أعظم وأحوج المسلمين أن يحققوا وحدة المظهر والمخبر، والظاهر والباطن.

 

ومهما علت النداءات وتكررت الخطابات لتحقيق الوحدة الإسلامية، فلن تتم دون أن نحقق مقوماتها، ونوجد أركانها، ومنها: تصحيح المنهج والمسار والسير على هدي سيد الأبرار، وحب الصالحين الأخيار.

 

هذا واقع المسلمين لما تفرّقوا، تأمّل أحوالهم، وقد تبدّد شملهم، تفرّق جمعهم، تباين أمرهم، اختلفت آراؤهم، تنافرت قلوبهم، تمزّقت ألفتهم، خمدت نارهم وركدت ريحهم، بل أصبحوا غثاء كغثاء السيل، كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.

 

وأفظع من هذا وأعظم أن ترى الدماء الجارية من أجساد المسلمين الطاهرة بأيد مسلمة.

 

ونتساءل بكل حيرة وعجب ‍‍‌‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍: أيقتل المسلم أخاه المسلم بلا سبب؟

 

هذا الذي كان يمتنع حال إحرامه عن قتل الصيد في الحرم، بل عن تنفيره وإثارته، وهناك تراه يسعى لقتل أخيه وإبادته، دون وازع من دينه، أو رادع من إيمانه وعبادته.

 

قلّب بصرك أنّى شئت، تر العجب العجاب، ولن ينفع العويل ولا الصراخ والعتاب.

 

ولقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حرمة دم المسلم للأمة، وذلك في خطبة حجة الوداع العظيمة، فقال: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"[رواه البخاري].

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم"[أخرجه الترمذي].

 

قدّر الله -جل وعلا- لهذه الأمة الخالدة، أن تعيش في بيئات مختلفة جداً، من لين وشدة، وحرارة وقسوة، ونشاط وركود، ومصارعة ومقاومة، وإغراءات مادية وسياسية، وتقدم في الحضارة وتوسع في المال والمادة، وضيق وضنك، وبذخ وترف، وعسر ويسر، وتسلط عدو قاهر، وسلطان جائر، وكانت الأمة، في حاجة دائمة إلى إشعال جذوة الإيمان وإعادة الوفاء والولاء في سائر الأجزاء والأعضاء، فكان الحج، ربيعاً تزدهر فيه هذه الأمة، وتظهر بالمظهر اللائق بها.

 

فكما أن الدولة تحتاج إلى تصفية بعد كل مدة ليتميز الناصح من الغاش، والمنقاد من المتمرد، فكذلك الملة، تحتاج إلى حج، ليتميز الموفق من المنافق، وليظهر دخول الناس في دين الله أفواجا. وقضى الله جل وعلا ألاّ يخلو الحج في أشد أيام هذه الأمة وأحلكها من الربانيين المخلصين ومن الصالحين المقبولين، ومن الدعاة المرشدين، ومن الداعين المبتهلين، ومن الخاشعين المنيبين، ومن العلماء الراسخين، الذين يملئون جو الحج روحانيةً وخشوعاً، فترق القلوب القاسية، وتخشع النفوس العاصية، وتفيض العيون الجامدة، وتنـزل رحمة الله، وتغشى السكينة، فينتفع الذين جاءوا من كل صوب بعيد، وفج عميق، ويأخذون زاداً من إيمان، وحباً وحماسةً، وعلماً وفقهاً، يعيشون عليه حياتهم، ويقاومون به كل ما يواجهونه من إغراء وتزيين، ويشاركهم في هذا الزاد، إخوانهم الذين قعد بهم الفقر أو الضعف أو المرض أو العدو، فيتعلم الجاهل، ويقوى الضعيف، ويتحمس الخامد، وتكتسب الأمة بذلك قوة جديدة على تأدية رسالتها، وتستأنف كفاحها من جديد.

 

والحج انتصارٌ للمناهج الصحيحة في الأمة، على القوميات الوطنية، والعنصرية اللسانية التي قد يصبح كثير من الشعوب الإسلامية فريستها تحت ضغط عوامل كثيرة، فتتجرد جميع الشعوب عن جميع ملابسها وأزيائها الإقليمية التي يتعصب لها أقوام، وتظهر كلها في مظهر واحد هو الإحرام، وفي مصطلح الحج والعمرة، حاسرة رؤوسها، تهتف كلها في لغة واحدة، تلبيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه الشيخان من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

 

اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، ونسألك اللهم أن تجمع بها شملنا، وأن تلم بها شعثنا، وأن ترد بها الفتن عنا.

 

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم واحفظ دماء المسلمين وأعراضهم في فلسطين وفي العراق وفي كل مكان.

 

اللهم وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، ووحد صفهم، وبلغهم فيما يرضيك آمالهم واجمع كلمتهم على الحق والهدى، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين.

 

اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدبيره تدميراً عليه.

 

اللهم احقن دماء المسلمين، واحم اللهم نساءهم وأطفالهم وشيوخهم وبلادهم وأموالهم.

 

اللهم عليك بالنصارى الصليبيين، وباليهود الغاصبين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عددا، وأهلكهم بددا، ولا تغادر يا ربي منهم أحدا.

 

اللهم يا منـزل الكتاب، ويا مجري السحاب، ويا سريع الحساب، ويا هازم الأحزاب، اهزم الصليبيين الجدد المحاربين للإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم أهزمهم وزلزلهم، اللهم اِقذف الرعب في قلوبهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم شتت شملهم، اللهم خالف بين آرائهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم أرنا بهم عجائب قدرتك يا قوي يا قادر.

 

اللهم أرسل عليهم الرياح العاتية، والأعاصير الفتاكة، والقوارع المدمرة، والأمراض المتنوعة، اللهم أشغلهم بأنفسهم عن المؤمنين، اللهم لا تجعل لهم على مؤمن يداً وعلى المؤمنين سبيلاً، اللهم أتبعهم بأصحاب الفيل، واجعل كيدهم في تضليل، اللهم أرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، اللهم خذهم بالصيحة، وأرسل عليهم حاصبا، اللهم صب عليهم العذاب صبا، اللهم اخسف بهم الأرض، وأنزل عليهم كسفاً من السماء، اللهم اِقلب البحر عليهم نارا، والجو شهباً وإعصارا، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.

 

ربنا آتنا ...

 

اللهم صل على محمد ...

 

 

 

المرفقات
من وحي مكة.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life