عناصر الخطبة
1/تعريف الربا وبيان حكمه وأنواعه 2/التحذير من التعامل بالربا 3/بعض صور التعامل بالربا في العصر الحاضر 4/بعض حِكَم تحريم الربا 5/سد الإسلام للذرائع المفضية إلى الربااقتباس
إن من شرَّ المكاسب: التعامل بالرِّبا، وأكله وتوكيله، فهو من كبائر الذنوب، ومن أسباب منع القَطْرِ، ونزع البركات، بل إنَّ المُرابي محاربٌ لله ملعونٌ في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستمعوا -معاشر المسلمين- إلى آيات...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيُّها المسلمُون: السَّعيُ على العيال، وتحرِّي لقمة الحلال، من أشرف الخصال، الأرزاق مقدَّرة، والآجال مكتوبة، والعبد مأمورٌ بفعل السبب مع اعتماد قلبه على الله وصدق التوكل عليه.
هذا، ولقد أمر الله المؤمنين بالأكل من الطيبات، والبعدِ عن المكاسب الخبيثة، والأموال المحرَّمة، يقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة:172].
وكذلك أمر الرسل، فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[المؤمنون:51]؛ فأكل الحلال طريق الرسل، وطريق أتباعهم من المؤمنين، كما أن الشَّرَهَ في جمع المال وطلبه من المتشابَه والمحرم يسبب الغفلة، ويقسي القلب، ويوجب غضب الربِّ.
عبَاد الله: ألا وإن شرَّ المكاسب: التعامل بالرِّبا، وأكله وتوكيله، فهو من كبائر الذنوب، ومن أسباب منع القَطْرِ، ونزع البركات، بل إنَّ المُرابي محاربٌ لله ملعونٌ في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستمعوا -معاشر المسلمين- إلى آيات عظيمة تزلزل القلوب الحية، كلها وعيدٌ شديدٌ لأهل الربا، يقول -جلَّ وعلا-: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)[البقرة:275-276].
فهم يقومون يوم القيامة من قبورهم كالمجانين: (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)، قال قتادة: "وتلك علامة أهل الرِّبا يوم القيامة، بُعِثوا وبهم خبلٌ من الشيطان".
وتوعد الله آكل الربا بوعيد شديد، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ)[البقرة:278-279]، وهذا وعيدٌ شديد، لكلِّ مرابٍ عنيد، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يُقال يوم القيامة لآكلِ الربا: خُذْ سلاحَك للحرب -تهكُّماً به-". وهل يقوى الإنسان الضعيف على محاربة القويِّ العزيز؟! ألا ما أعظم الأمر، وما أفدح الخطب، وما أشدَّ الخسارة على أهل الربا في الدنيا والآخرة.
عباد الله: وقد استفاضت الأحاديث النبوية في التحذير من الربا، ومنها ما رواه ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا أحدٌ أكثرَ منَ الرِّبَا إلا كانَ عاقبةُ أمرِهِ إلى قِلَّة"(أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني).
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكلَ الربا ومُوكِله وكاتبَه وشاهدَيْه، وقال: "هُمْ سَوَاء".
وفي مسند الإمام أحمد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لعنَ اللهُ آكلَ الرِّبَا ومُوكلَهُ وشاهدَيْهِ وكاتبهُ".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا ظهرَ في قومٍ الرِّبا والزِّنا إلا أحلُّوا بأنفسهِم عقابَ اللهِ -عزَّ وجلّ-"(أخرجه أحمد، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتنبُوا السَّبعَ الموبِقات، وذكر منهن: وأكلُ الرِّبا"(متفق عليه).
أيُّها المسلمُون: الربا في اصطلاح الفقهاء يتناول أمرين في الجملة:
الأول: ربا الجاهلية "ربا القرض": وهو الزِّيادة في الدَّيْن مقابل تأجيل المدة، سواء اشتُرطت الزيادة عند حلول الأجل أو في بداية الأجل.
فيحرم على المرء أن يقترض مبلغاً من المال على أن يردَّ أكثر منه، سواء كان الاقتراض من بنك أو غيره، فالقرض عقد إرفاق وإحسان، واشتراط ردِّ زيادة عليه ربا محرم، واستغلال سيِّء، وكل قرضٍ جرَّ نفعاً فهوَ رِبًا.
الثاني من أنواع الرِّبا: ربا البُيوع وهو نوعان:
الأول: ربا الفضل: وهو الزيادة في أحد البدلين الربويَّيْن المتفقين جنساً؛ كأن يبيع صاعاً من البُرِّ بصاعين منه، فهذا حرام، أو مائة مثقال من الذهب بمائة وعشرين، وإن اختلفا في الجودة.
وقد دلَّت الأحاديث الصحيحة على هذا، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "الذَّهبُ بالذَّهبِ، والفضَّةُ بالفضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلحُ بالملحِ، مثلاً بمثل، يداً بِيَدْ، فمَن زادَ أو اسْتزادَ، فقد أبَى الآخذ والمعطي فيهِ سوَاء"(رواه مسلم).
وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الذهبُ بالذهبِ، والفضةُ بالفضةِ، والبرُّ بالبرِّ، والشعيرُ بالشعيرِ، والتمرُ بالتمرِ، والملحُ بالملحِ، مثلاً بمثل، وسواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذهِ الأصنافُ، فبيعوا كيفَ شئتم إذا كان يداً بيد"(رواه مسلم).
النوع الثاني: ربا النَّسِيئَة: يعني تأخير القبض عند مبادلة الربوي بالربوي.
مثال ذلك: برٌّ ببُرٍّ بعد شهر، أو ريال بريالين بعد شهر مثلاً، وقد يجتمع ربا الفضل مع ربا النسيئة في مثل هذه الحالة، وهي: مائة ريال بمائة وعشرة بعد شهر مثلاً.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبيعوا الدينارَ بالدينارينِ، ولا الدِّرهمَ بالدرهمينِ"(رواه مسلم).
وعن أبي سعيد قال: جاء بلال بتمر بُرْنِيٍّ -تمر جيِّد- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أين هَذا؟" فقال بلال: تمر كان عندي رديء بعت منه صاعين بصاعٍ لمطعَم النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "أوّه عينُ الرِّبَا، لا تفعلْ، ولكن إذا أردتَ أن تشتريَ فبِعْهُ ببيعٍ آخرَ ثمَّ اشترِ بِهِ"(متفق عليه).
ويُستفاد من هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها: أنه يحرم بيع الذهب بالذهب مع الزيادة، ويجوز بيع الذهب بالفضة، ولو زاد أحدهما على الآخر، وكذلك التمر بالبر لكن بشرط التقابض في مكان البيع قبل التَّفرق.
أيُّها المسلمُون: ومن أغلظ أنواع الربا: ما تفعله كثيرٌ من البنوك من القرض بفائدة، وكذلك ما تعطيه لعملائها من فوائد بنكيَّة، وهي الرِّبا بعينه. فليحذر المسلم من التورُّط في معاملات مشبوهة، وليتحرَّ لقمة الحلال، لئلا ينبت جسمُه على سحتٍ فيكون خاسراً، دعاؤه مردود وإثمه مضاعف، وهذا ما يفعله بعض الناس اليوم -عياذا بالله- وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "ليأتينَّ على الناسِ زمانٌ لا يبالِي المرءُ بما أُخذَ المالُ أمِن الحلالِ أم منَ الحرَام"(رواه البخاري).
فيَا أيُّها العُقَلاء: لا تغرنَّكم الحياة الدنيا، ولا يحملنكم طلب المال على ارتكاب الحرام، فلا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عباد الله: إنَّ مما يُعلم بالضَّرورة: أنَّ الإسلام لا يحرِّم شيئاً إلا لحِكَمٍ عظيمة، أو منافع تعود على العباد، ولهذا حرم الله الربا، لما يفضي إليه من انقطاع المعروف بين الناس، من القرض الحسن، ولما يؤدي إليه ممن أخذ أموال الناس بغير عوض، وتعطيل الطاقات البشرية، لتحلَّ البطالة محل العمل والإنتاج.
كما أن الربا يزرع الأحقاد في القلوب، وينزع منها الرحمة، وبذلك تموت الأخوَّة، ويتفكَّك المجتمع، وإلى غير ذلك من الحكم التي اختص بها العليم الحكيم.
ألا فسحقاً للمُرابي، فهو مطرودٌ من رحمة الله، محاربٌ لله، مقرونٌ بين معصيته وهي الربا مع الزِّنى لتشابههما في الآثار السيئة على المجتمع.
آكل الربا دعاؤُه مردودٌ، وباب الخير في وجهه مسدود، وسوء الخاتمة تنتظره، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "... ذكرَ الرجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبَرَ، يمدُّ يديهِ إلى السَّماء: يا ربّ، يا ربّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشربُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغُذِّيَ بالحرامِ، فأنَّى يُستجابُ لذلك"(رواه مسلم).
معاشِرَ المُسلمين: إنَّ الله لمَّا حرَّم الرِّبا حرَّم جميع الوسائل الموصلة إليه سدَّاً للذَّريعة، ومن ذلك: "بيع العِينة" وهي أن يبيع سلعة بثمن معلوم مؤجَّل، ويسلمها إلى المشتري، ثم يشتريها هذا البائع قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل.
مثال ذلك: أن يبيع شخصٌ سلعةً على شخص آخر بمائة ريال مؤجلة لمدة سنة، ثم في نفس الوقت يشتري هذا البائع سلعته من المشتري بخمسين ريالا نقداً، وتبقى المائة في ذمة المشتري الأول.
وهذا محرم؛ فقد جاء عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا تبايَعتم بالعِينةِ، وأخذتُم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرعِ، وتركتُم الجهادَ، سلَّط الله عليكم ذلَّاً لا ينزِعُه، حتَّى ترجِعوا إلى دِينكم"(رواه أبو داوود، وصححه الألباني).
ألا فاتقوا الله -عباد الله- واحذروا المكاسب الخبيثة، فإن أجسامكم على النَّار لا تقوى، عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رأيتُ الليلة رجلينِ أتَيَاني فأخرجاني إلى أرضٍ مقدسةٍ، فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دمٍ فيه رجلٌ قائمٌ، وعلى وسط النَّهر رجل بين يديه حجارةٌ، فأقبلَ الرَّجل الذي في النَّهر، فإذا أراد أن يخرجَ رَمى الرجلَ بحجرٍ في فِيهِ فَرُدَّ حيثُ كان، فجعلَ كلما جاءَ ليخرجَ رمى في فيه بحجرٍ فيرجع كمَا كان، فقلتُ: من هذا؟ فقال: الذي رأيته في النَّهر آكلُ الرِّبا"(رواه البخاري في حديث طويل).
فدع -أيُّها المسلم- ما يَريبك إلى ما لا يَريبك، واسأل عمَّا أشكل عليك، وإياك أن تأخذ الربا أو تشهد عليه أو تعين على ذلك بأي وجه من الوجوه، وتذكر بأن المال الحلال ليس لبركته حدٌّ ولا نهاية، أما أموال الربا والمعاملات المحرمة، فهي سحتٌ ومحقٌ وحسرةٌ وندامةٌ وخزيٌ يوم القيامة، وصدق الله: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)[البقرة:276].
اللهم ارزقنا رزقاً حلالاً وبارك لنا فيه، اللهم ارفع وادفع عنَّا الرِّبا والزِّنا والزلازل والمحن، وأعذنا من مضلات الفتن.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
التعليقات