عناصر الخطبة
1/ ثبوت النفخ والبعث بعد الموت في الكتاب والسنة 2/ تغيرات كونية هائلة تحدث قبيل البعث 3/ الدقة في الوزن والميزان يوم القيامة 4/ بعض كربات وأهوال يوم القيامة 5/ أسباب النجاة من كربات وأهوال أرض المحشراهداف الخطبة
اقتباس
كما أن الموازين التي تقوم عليها الحياة فوق الأرض تختلف في موازينها تحت البحار تختلف عن موازينها في الفضاء، فكذلك موازين حياة البرزخ في القبر، والحياة على أرض المحشر بعد القيام من القبور، وتكامل تمازج الأرواح بالأجساد كأكمل ما تكون، والحياة عند دخول الجنة أو النار، لكل منها...
الخطبة الأولى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
وإن من أهوال يوم القيامة التي أثبتها الله -تعالى- في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلمَ-: أهوال يوم الجمع، يوم المحشر، فيأذن الله -تعالى- أن تُعاد الأرواح في الأبدان، ويحيي الله الخلائق بعد موتها للجزاء والحساب، فتعود الأرواح إلى أجسادها التي كانت في الدنيا كأكمل ما تكون، قال تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104]، قال تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38]، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الواقعة: 49 - 50]، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [يــس: 51 - 53]، فيقوم الناس بإذن الله من قبورهم حفاةً عراة غُرْلا، حفاةً "غير منتعلين"، عراة -غير مكتسين-، غرلاً -غير مختتنين-؛ فعن عائشة -رَضي الله عنها- قالت: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "يُحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً"، قلت: يا رسول الله ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلمَ: "يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض"، فيقوم الناس من قبورهم يُقادون إلى أرض المحشر، قال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48]، فَيُساق الناسُ وجميع الخلائق ابتداءً إلى أرضِ الشام، فقَدْ صَحَّ أنها هِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، فيُساقون إليها منهم الراكب، ومنهم الماشي، ومنهم من تسحبه الملائكة على وجهه، قال تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم: 85 - 86]، قال جمع من المفسرين: "يُحشرُ المتقون على الإبل النجائب تكريمًا لهم، ويُحشر المجرمون وِرْدا يخنقهم العطش -نسأل الله السلامة-، كلُّ من مات يحييه الله ويعيده، قال تعالى: (أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا) [البقرة: 148] جميعُ الموتى المقبورين، من احترقوا وأصبحوا رماداً، من أكلتهم السباع، من غرق في البحار وأكلتهم الأسماك، كلّهم يعيدهم الله، قال تعالى: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف: 47]، ويُبعث كلُّ إنسان على الحال التي مات عليه، قال صلى الله عليه وسلمَ: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ"، وفي الحديث: "الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ مُحرِمٌ يُبعَثُ يَومَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا، وَالشَّهِيدُ يُبعَثُ يَومَ القِيَامَةِ وَجَرحُهُ يَثعَبُ، اللَّونُ لَونُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسكِ".
هناك -إخوة الإيمان- كأنّ الأرض التي نحيى عليها هي نفسها قد ماتت وانتهى أجلها حان وقت فنائها بإذن ربها -سبحانه-، ثُمَّ يُنْقَل جميع الخلائق عِنْدَ دَكِّ الجِبالِ، وتغيّر موازين الأرض والسماء إِلى ظُلْمَةٍ عِنْدَ الصِّراطِ، ثمّ إلى أَرْضٍ المحشر، أرضٌ بَيْضاءُ كَالفِضَّةِ لَيْسَ عَلَيْها شَجَرٌ وَلا وِهادٌ وَلا جِبَالٌ، وَعَلَيْها يَكونُ الحِسابُ؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "يحشر النّاس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النّقي، ليس فيها معلم لأحد"، فيُساقون حتى إذا أكتمل جميع الخلق على أرض المحشر، فهناك يَظْهرُ الهول الشديد، والكرب العظيم: (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحـج: 2]، قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34 - 37].
إخوة الإيمان: موازين ذلك اليوم على أرض المحشر ليست كموازين الدنيا، فلا تُعْمِلْ فيها عقلك، بل الواجب الإيمان والتصديق والتسليم، والواجب العمل بأسباب النجاة من أهوال ذلك اليوم، فالله -تعالى- ذكر أخبار يوم المحشر في جميع الكتب المنزلة وأعظمها: القرآن الكريم، وأخبر على لسان جميع رسله وأنبيائه وسيدهم الصادق الأمين- فصلوات الله وسلامه على نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين- أخبروا وبينوا ما بمثله تقوم الحُجَج وتستسلم العقول إيماناً وتصديقاً، فأخبار ذلك اليوم وأهواله توافقت بها جميع الكتب والرسالات السماوية.
إخوة الإيمان: فكما أن الموازين التي تقوم عليها الحياة فوق الأرض تختلف في موازينها تحت البحار تختلف عن موازينها في الفضاء، فكذلك موازين حياة البرزخ في القبر، والحياة على أرض المحشر بعد القيام من القبور، وتكامل تمازج الأرواح بالأجساد كأكمل ما تكون، والحياة عند دخول الجنة أو النار، لكل منها موازين تليق بها، أوجدها خالقها، مَنْ خلق السموات والأرض ووضع موازينها وأرسى جبالها وسيّر أنهارها ومهّد مهادها وهيأ الحياة فيها؟ الله -جلّ جلاله-، وهنا على أرض المحشر تأتي موازين جديدة خلقها الله -جلّ جلاله- وأوجدها، تليق بقدومه تعالى من السماء ومعه الملائكة، تليق بقدوم النار، يُؤتى بها بإذن الله تسحب، لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، لتُساق وتوضع قرب أرض المحشر، كمال مطلق، وعظمة تبهر العقول، وتستسلم له الألباب، وتذل له الرقاب والأعناق تعظيما وإجلالاً، الأبصار شاخصة، والأنفاس خانقة، والكلام لا تسمع إلا همْسا، وما ذاك إلا دليل على عظيم قدرة الله، ودوام ملكه، وكمال سلطانه، وتمام عدله، قال تعالى: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 21 - 24].
إخوة الإيمان: الكُربُ والأهوالُ على أرض المحشر كثيرة متعدّدة، وسأفرد خُطُباً -بإذن الله- عن ذلك، فهناك تتناثر النجوم، وينطمس ضوء الشمس، ويبقى حرها، ويشتدّ الظلام، ويعظُم الأمر، وتنشق السماء فتسمع الخلائق لانشقاقها صوتاً مرعبا فظيعاً يُرْعِبُ لهوله الألباب، وتخضع لهيبته الرقاب، ولا تلبث إلا أن ترى الملائكة هابطين من السماء صفاً صفاٍ يحيطون بأرض المحشر وبأهلها، لكل امرئ منهم سائق وشهيد، الأرض التي مدت مد الأديم، وجمع الخلائق فيها بصعيد واحد أجمعين، وترى أهل السماء أكثر من أهل الأرض أضعافاً مضاعفة، ينقضون عليهم، يحيطونهم إحاطة بعد إحاطة، الجوع قد قطع الأمعاء، والعطش قد خنق الحناجر والأفئدة، والعرق قد بلغ سبعين ذراعا في الأرض، وألجم بعض الناس إلجاما حتى يبلغ الأفواه والآذان، الأبدان متلاصقة كالنبل في الكنانة، ترى الوحوش الضارية عياناً بياناً لا تلقي لها بالا، ويتمنى الكافر وقتها لو كان ترابا، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلمَ: "كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة، ثم لا ينظر الله إليكم؟!" [صححه الألباني في السلسلة الصحيحة].
ويزداد هول الموقف حيناً بعد حين حتى يتمنى أهل النار أن يصرفوا ولو إلى النار، وعندئذ يلجأ الناس إلى من يَشفع لهم عند ربهم، فتكون الشفاعة العظمى كما سنبين بعد ذلك.
اللهم ظلنا تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك ولا باقي إلا وجهك.
الخطبة الثانية:
عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي َالله عنه- قال: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنّمَا يَخِفّ الْحسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدّنْيَا"، "وَتَزَيّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ" أي عرض الأعمال في الآخرة، وهو على ما قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].
ومن البشرى التي بشر بها المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ- عباده المؤمنين للنجاة من أهوال هذا اليوم: عليك أن تكون أحد السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقها عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
التعليقات